الباحث القرآني
﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهم واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ .
(p-١٧٧)مَوْقِعُ هَذِهِ الآيَةِ هُنا خَفِيُّ المُناسِبَةِ. فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا انْتُقِلَ بِهِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ عَدَمِ الوَفاءِ بِما وعَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ إلى التَّعْرِيضِ بِقَوِمٍ آذَوُا النَّبِيءَ ﷺ بِالقَوْلِ أوْ بِالعِصْيانِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الكَلامُ مُوَجَّهًا إلى المُنافِقِينَ، فَقَدْ وُسِمُوا بِأذى الرَّسُولِ ﷺ قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ [الأحزاب: ٥٧] الآيَةَ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿والَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [التوبة: ٦١] وقَوْلُهُ ”ومِنهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيءَ ويَقُولُونَ هو أُذُنٌ“ .
وعَلى هَذا الوَجْهِ فَهو اقْتِضابٌ نُقِلَ بِهِ الكَلامُ مِنَ الغَرَضِ الَّذِي قَبْلَهُ لِتَمامِهِ إلى هَذا الغَرَضِ، أوْ تَكُونُ مُناسِبَةُ وقْعِهِ في هَذا المَوْقِعِ حُدُوثَ سَبَبٍ اقْتَضى نُزُولَهُ مِن أذًى قَدْ حَدَثَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ المُفَسِّرُونَ ورُواةُ الأخْبارِ وأسْبابِ النُّزُولِ.
والواوُ عَلى هَذا الوَجْهِ عَطْفُ غَرَضٍ عَلى غَرَضٍ. وهو المُسَمّى بِعَطْفِ قِصَّةٍ عَلى قِصَّةٍ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن تَتِمَّةِ الكَلامِ الَّذِي قَبْلَها ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُسْلِمِينَ لِتَحْذِيرِهِمْ مِن إتْيانِ ما يُؤْذِي رَسُولَهُ ﷺ ويَسُوءُهُ مِنَ الخُرُوجِ عَنْ جادَّةِ الكَمالِ الدِّينِيِّ مِثْلِ عَدَمِ الوَفاءِ بِوَعْدِهِمْ في الإتْيانِ بِأحَبِّ الأعْمالِ إلى اللَّهِ تَعالى. وأشْفَقَهم مِن أنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلزَّيْغِ والضَّلالِ كَما حَدَثَ لِقَوْمِ مُوسى لَمّا آذَوْهُ.
وعَلى هَذا الوَجْهِ فالمُرادُ بِأذى قَوْمِ مُوسى إيّاهُ: عَدَمُ تَوَخِّي طاعَتِهِ ورِضاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُشِيرًا إلى ما حَكاهُ اللَّهُ عَنْهُ مِن قَوْلِهِ ﴿يا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكم ولا تَرْتَدُّوا عَلى أدْبارِكم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ﴾ [المائدة: ٢١]، إلى قَوْلِهِ ﴿قالُوا يا مُوسى إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدًا ما دامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا هاهُنا قاعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤] . فَإنَّ قَوْلَهم ذَلِكَ اسْتِخْفافٌ يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي لا أمْلِكُ إلّا نَفْسِي وأخِي فافْرُقْ بَيْنَنا وبَيْنَ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ [المائدة: ٢٥] .
وقَدْ يَكُونُ وصْفُهم في هَذِهِ الآيَةِ بِقَوْلِهِ ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ ناظِرًا إلى وصْفِهِمْ بِذَلِكَ مَرَّتَيْنِ في آيَةِ سُورَةِ العُقُودِ في قَوْلِهِ ﴿فافْرُقْ بَيْنَنا وبَيْنَ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ [المائدة: ٢٥] وقَوْلِهِ ﴿فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ [المائدة: ٢٦] .
(p-١٧٨)فَيَكُونُ المَقْصُودُ الأهَمُّ مِنَ القِصَّةِ هو ما تَفَرَّعَ عَلى ذِكْرِها مِن قَوْلِهِ ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ . ويُناسِبُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ تَحْذِيرًا مِن مُخالَفَةِ أمْرِ الرَّسُولِ ﷺ وعِبْرَةً بِما عَرَضَ لَهم مِنَ الهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ لَمّا خالَفُوا أمْرَهُ مِن عَدَمِ ثَباتِ الرُّماةِ في مَكانِهِمْ.
وقَدْ تَشابَهَتِ القِصَّتانِ في أنَّ القَوْمَ فَرُّوا يَوْمَ أُحُدٍ كَما فَرَّ قَوْمُ مُوسى يَوْمَ أرِيحا، وفي أنَّ الرُّماةَ الَّذِينَ أمَرَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ لا يَبْرَحُوا مَكانَهم («ولَوْ تَخَطَّفَنا الطَّيْرُ» ) وأنْ يَنْضَحُوا عَنِ الجَيْشِ بِالنِّبالِ خَشْيَةَ أنْ يَأْتِيَهُ العَدُوُّ مِن خَلْفِهِ لَمْ يَفْعَلُوا ما أمَرَهم بِهِ وعَصَوْا أمْرَ أمِيرِهِمْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ وفارَقُوا مَوْقِفَهم طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ فَكانَ ذَلِكَ سَبَبَ هَزِيمَةِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ.
والواوُ عَلى هَذا الوَجْهِ عَطْفُ تَحْذِيرٍ مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِ ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ عَلى النَّهْيِ الَّذِي في قَوْلِهِ ﴿لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢] الآيَةَ.
ويَتْبَعُ ذَلِكَ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ ﷺ عَلى ما حَصَلَ مِن مُخالَفَةِ الرُّماةِ حَتّى تَسَبَّبُوا في هَزِيمَةِ النّاسِ.
و(إذْ) مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، ولَهُ نَظائِرُ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ، أيِ اذْكُرْ لَهم أيْضًا وقْتَ قَوْلِ مُوسى لِقَوْمِهِ أوِ اذْكُرْ لَهم مَعَ هَذا النَّهْيِ وقْتَ قَوْلِ مُوسى لِقَوْمِهِ.
وابْتِداءُ كَلامِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِـ (يا قَوْمِ) تَعْرِيضٌ بِأنَّ شَأْنَ قَوْمِ الرَّسُولِ أنْ يُطِيعُوهُ بَلْهَ أنْ لا يُؤْذُوهُ. فَفي النِّداءِ بِوَصْفِ (قَوْمِ) تَمْهِيدٌ لِلْإنْكارِ في قَوْلِهِ لِمَ تُؤْذُونَنِي.
والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ، أيْ إنْكارِ أنْ يَكُونَ لِلْإذايَةِ سَبَبٌ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢] .
وقَدْ جاءَتْ جُمْلَةُ الحالِ مِن قَوْلِهِ ﴿وقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ﴾ مُصادِفَةَ المَحَلِّ مِنَ التَّرَقِّي في الإنْكارِ.
و(مِن) لِتَحْقِيقِ مَعْنى الحالِيَّةِ، أيْ وعِلْمُكم بِرِسالَتِي عَنِ اللَّهِ أمْرٌ مُحَقَّقٌ لِما (p-١٧٩)شاهَدُوهُ مِن دَلائِلِ رِسالَتِهِ، وكَما أُكِّدَ عِلْمُهم بِـ (قَدْ) أُكِّدَ حُصُولُ المَعْلُومِ بِـ (أنَّ) المَفْتُوحَةِ، فَحَصَلَ تَأْكِيدانِ لِلرِّسالِةِ. والمَعْنى: فَكَيْفَ لا يَجْرِي أمْرُكم عَلى وفْقِ هَذا العِلْمِ.
والإتْيانُ بَعْدَ (قَدْ) بِالمُضارِعِ هُنا لِلدِّلالَةِ عَلى أنَّ عِلْمَهم بِذَلِكَ مُجَدَّدٌ بِتَجَدُّدِ الآياتِ والوَحْيِ، وذَلِكَ أجْدى بِدَوامِ امْتِثالِهِ لِأنَّهُ لَوْ جِيءَ بِفِعْلِ المُضِيَّ لَمّا دَلَّ عَلى أكْثَرِ مِن حُصُولِ ذَلِكَ العِلْمِ فِيما مَضى. ولَعَلَّهُ قَدْ طَرَأ عَلَيْهِ ما يُبْطِلُهُ، وهَذا كالمُضارِعِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ﴾ [الأحزاب: ١٨] في سُورَةِ الأحْزابِ.
والزَّيْغُ: المَيْلُ عَنِ الحَقِّ، أيْ لَمّا خالَفُوا ما أمَرَهم رَسُولُهم جَعَلَ اللَّهُ في قُلُوبِهِمْ زَيْغًا، أيْ تَمَكَّنَ الزَّيْغُ مِن نُفُوسِهِمْ فَلَمْ يَنْفَكُّوا عَنِ الضَّلالِ.
وجُمْلَةُ ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ تَذْيِيلٌ، أيْ وهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ في النّاسِ فَكانَ قَوْمُ مُوسى الَّذِينَ آذَوْهُ مِن أهْلِ ذَلِكَ العُمُومِ.
وذُكِرَ وصْفُ (الفاسِقِينَ) جارِيًا عَلى لَفْظِ (القَوْمِ) لِلْإيماءِ إلى الفُسُوقِ الَّذِي دَخَلَ في مُقَوِّماتِ قَوْمِيَّتِهِمْ. كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [البقرة: ١٦٤] إلى قَوْلِهِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ في البَقَرَةِ.
فالمَعْنى: الَّذِينَ كانَ الفُسُوقُ عَنِ الحَقِّ سَجِيَّةً لَهم لا يَلْطُفُ اللَّهُ بِهِمْ ولا يَعْتَنِي بِهِمْ عِنايَةً خاصَّةً تَسُوقُهم إلى الهُدى، وإنَّما هو طَوْعُ الأسْبابِ والمُناسَباتِ.
{"ayah":"وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِی وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُمۡۖ فَلَمَّا زَاغُوۤا۟ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق