الباحث القرآني
﴿قُلْ أرَأيْتَكم إنْ أتاكم عَذابُ اللَّهِ أوْ أتَتْكُمُ السّاعَةُ أغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ﴿بَلْ إيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شاءَ وتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ﴾ .
(p-٢٢١)اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ يَتَضَمَّنُ تَهْدِيدًا بِالوَعِيدِ طَرْدًا لِلْأغْراضِ السّابِقَةِ، وتَخَلَّلَهُ تَعْرِيضٌ بِالحَثِّ عَلى خَلْعِ الشِّرْكِ إذْ لَيْسَ لِشُرَكائِهِمْ نَفْعٌ بِأيْدِيهِمْ، فَذُكِّرُوا بِأحْوالٍ قَدْ تَعْرِضُ لَهم يَلْجَئُونَ فِيها إلى اللَّهِ، وأُلْقِيَ عَلَيْهِمْ سُؤالٌ: أيَسْتَمِرُّونَ عَلى الإشْراكِ بِاللَّهِ في تِلْكَ الحالَةِ وهَلْ يَسْتَمِرُّونَ مِنَ الآنَ عَلى الشِّرْكِ إلى أنْ يَأْتِيَهُمُ العَذابُ أوْ تَأْتِيَهُمُ القِيامَةُ حِينَ يَلْجَئُونَ إلى الإيمانِ بِوَحْدانِيَّتِهِ، ولاتَ حِينَ إيمانٍ.
وافْتَتَحَ هَذا التَّهْدِيدَ بِالأمْرِ بِالقَوْلِ اهْتِمامًا بِهِ وإلّا فَإنَّ مُعْظَمَ ما في القُرْآنِ مَأْمُورٌ الرَّسُولُ ﷺ بِأنْ يَقُولَهُ لَهم. وقَدْ تَتابَعَ الأمْرُ بِالقَوْلِ في الآياتِ بَعْدَ هَذِهِ إلى قَوْلِهِ ﴿لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ [الأنعام: ٦٧] اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً. ووَرَدَ نَظِيرُهُ في سُورَةِ يُونُسَ.
وقَوْلُهُ (أرَأيْتَكم) تَرْكِيبٌ شَهِيرُ الِاسْتِعْمالِ، يُفْتَتَحُ بِمِثْلِهِ الكَلامُ الَّذِي يُرادُ تَحْقِيقُهُ والِاهْتِمامُ بِهِ. وهَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ فِيهِ لِلِاسْتِفْهامِ التَّقْرِيرِيِّ.
و(رَأى) فِيهِ بِمَعْنى الظَّنِّ. يُسْنَدُ إلى تاءِ خِطابٍ تُلازِمُ حالَةً واحِدَةً مُلازِمَةً حَرَكَةً واحِدَةً، وهي الفُتْحَةُ لا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ عَدَدِ المُخاطَبِ وصِنْفِهِ سَواءٌ كانَ مُفْرَدًا أوْ غَيْرَهُ، مُذَكَّرًا أوْ غَيْرَهُ، ويُجْعَلُ المَفْعُولُ الأوَّلُ في هَذا التَّرْكِيبِ غالِبًا ضَمِيرَ خِطابٍ عائِدًا إلى فاعِلِ الرُّؤْيَةِ القَلْبِيَّةِ ومُسْتَغْنًى بِهِ لِبَيانِ المُرادِ بِتاءِ الخِطابِ. والمَعْنى أنَّ المُخاطَبَ يَعْلَمُ نَفْسَهُ عَلى الحالَةِ المَذْكُورَةِ بَعْدَ ضَمِيرِ الخِطابِ، فالمُخاطَبُ فاعِلٌ ومَفْعُولٌ بِاخْتِلافِ الِاعْتِبارِ، فَإنَّ مِن خَصائِصِ أفْعالِ بابِ الظَّنِّ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ فاعِلُها ومَفْعُولُها واحِدًا وأُلْحِقَ بِأفْعالِ العِلْمِ فِعْلانِ: فَقَدَ، وعَدِمَ في الدُّعاءِ، نَحْوَ فَقَدْتُنِي، وتَقَعُ بَعْدَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ جُمْلَةً في مَوْضِعِ مَفْعُولِهِ الثّانِي، وقَدْ يَجِيءُ في تِلْكَ الجُمْلَةِ ما يُعَلِّقُ فِعْلَ الرُّؤْيَةِ عَنِ العَمَلِ.
هَذا هو الوَجْهُ في تَحْلِيلِ هَذا التَّرْكِيبِ. وبَعْضُ النُّحاةِ يَجْعَلُ تِلْكَ الجُمْلَةَ سادَّةً مَسَدَّ المَفْعُولَيْنِ تَقَصِّيًا مِن جَعْلِ ضَمائِرِ الخِطابِ مَفاعِيلَ إذْ يَجْعَلُونَها مُجَرَّدَ عَلاماتِ خِطابٍ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، وذَلِكَ حِفاظًا عَلى مُتَعارَفِ قَواعِدِ النَّحْوِ في الِاسْتِعْمالِ الأصْلِيِّ المُتَعارَفِ مَعَ أنَّ لِغَرائِبَ الِاسْتِعْمالِ أحْوالًا خاصَّةً لا يَنْبَغِي غَضُّ النَّظَرِ عَنْها إلّا إذا قُصِدَ بَيانُ أصْلِ الكَلامِ أوْ عَدَمُ التَّشْوِيشِ عَلى المُتَعَلِّمِينَ. ولا يَخْفى أنَّ ما ذَهَبُوا إلَيْهِ هو أشَدُّ (p-٢٢٢)غَرابَةً وهو الجَمْعُ بَيْنَ عَلامَتَيْ خِطابٍ مُخْتَلِفَتَيْنِ في الصُّورَةِ ومَرْجِعُهُما مُتَّحِدٌ. وعَلى الوَجْهِ الَّذِي اخْتَرْناهُ فالمَفْعُولُ الثّانِي في هَذا التَّرْكِيبِ هو جُمْلَةُ أغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ.
وإنَّما تُرِكَتِ التّاءُ عَلى حالَةٍ واحِدَةٍ لِأنَّهُ لَمّا جُعِلَتْ ذاتُ الفاعِلِ ذاتَ المَفْعُولِ إعْرابًا ورامُوا أنْ يَجْعَلُوا هَذا التَّرْكِيبَ جارِيًا مَجْرى المَثَلِ في كَوْنِهِ قَلِيلَ الألْفاظِ وافِرَ المَعْنى تَجَنَّبُوا ما يُحْدِثُهُ الجَمْعُ بَيْنَ ضَمِيرَيْ خِطابٍ مَرْفُوعٍ ومَنصُوبٍ مِنَ الثِّقَلِ في نَحْوِ أرَأيْتُماكُما، وأرَأيْتُمْكم وأرَيْتُنَّكُنَّ، ونَحْوِ ذَلِكَ، سَلَكُوا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الغَرِيبَةَ فاسْتَغْنَوْا بِاخْتِلافِ حالَةِ الضَّمِيرِ الثّانِي عَنِ اخْتِلافِ حالَةِ الضَّمِيرِ الأوَّلِ اخْتِصارًا وتَخْفِيفًا، وبِذَلِكَ تَأتّى أنْ يَكُونَ هَذا التَّرْكِيبُ جارِيًا مَجْرى المَثَلِ لِما فِيهِ مِنَ الإيجازِ تَسْهِيلًا لِشُيُوعِ اسْتِعْمالِهِ اسْتِعْمالًا خاصًّا لا يُغَيَّرُ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ لا تُكْسَرُ تِلْكَ التّاءُ في خِطابِ المُؤَنَّثِ ولا تُضَمُّ في خِطابِ المُثَنّى والمَجْمُوعِ.
وعَنِ الأخْفَشِ: أخْرَجَتِ العَرَبُ هَذا اللَّفْظَ مِن مَعْناهُ بِالكُلِّيَّةِ فَألْزَمَتْهُ الخِطابَ، وأخْرَجَتْهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ إلى مَعْنى (أمّا) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، فَجَعَلَتِ الفاءَ بَعْدَهُ في بَعْضِ اسْتِعْمالاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ﴾ [الكهف: ٦٣] فَما دَخَلَتِ الفاءُ إلّا وقَدْ أخْرَجَتْ أرَأيْتَ لِمَعْنى (أمّا)، وأخْرَجَتْهُ أيْضًا إلى مَعْنى (أخْبَرَنِي) فَلا بُدَّ بَعْدَهُ مِنَ اسْمِ المُسْتَخْبَرِ عَنْهُ؛ وتَلْزَمُ الجُمْلَةَ بَعْدَ الِاسْتِفْهامِ، وقَدْ يَخْرُجُ لِهَذا المَعْنى وبَعْدَهُ الشَّرْطُ وظَرْفُ الزَّمانِ. اهـ.
فِي الكَشّافِ: مُتَعَلِّقُ الِاسْتِخْبارِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: إنْ أتاكم عَذابُ اللَّهِ أوْ أتَتْكُمُ السّاعَةُ مَن تَدْعُونَ، ثُمَّ بَكَّتْهم بِقَوْلِهِ ﴿أغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ﴾، أيْ أتَخُصُّونَ آلِهَتَكم بِالدَّعْوَةِ أمْ تَدْعُونَ اللَّهَ دُونَها بَلْ إيّاهُ تَدْعُونَ اهـ.
وجُمْلَةُ أغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ هي المَفْعُولُ الثّانِي لِفِعْلِ أرَأيْتَكم.
واعْلَمْ أنَّ هَذا اسْتِعْمالٌ خاصٌّ بِهَذا التَّرْكِيبِ الخاصِّ الجارِي مَجْرى المَثَلِ، فَأمّا إذا أُرِيدَ جَرَيانُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ العِلْمِيَّةِ عَلى أصْلِ بابِهِ فَإنَّهُ يَجْرِي عَلى المُتَعارَفِ في تَعْدِيَةِ الفِعْلِ (p-٢٢٣)إلى فاعِلِهِ ومَفْعُولَيْهِ. فَمَن قالَ لَكَ: رَأيْتُنِي عالِمًا بِفُلانٍ. فَأرَدْتَ التَّحَقُّقَ فِيهِ تَقُولُ: أرَأيْتَكَ عالِمًا بِفُلانٍ. وتَقُولُ لِلْمُثَنّى: أرَأيْتُماكُما عالِمَيْنِ بِفُلانٍ، ولِلْجَمْعِ: أرَأيْتُمُوكم، ولِلْمُؤَنَّثَةِ: أرَأيْتِكِ بِكَسْرِ التّاءِ.
وقَرَأهُ نافِعٌ في المَشْهُورِ بِتَسْهِيلِ الهَمْزَةِ ألِفًا؛ وعَنْهُ رِوايَةٌ بِجَعْلِها بَيْنَ الهَمْزَةِ والألِفِ. وقَرَأهُ الكِسائِيُّ بِإسْقاطِ الهَمْزَةِ الَّتِي هي عَيْنُ الكَلِمَةِ، فَيَقُولُ: أرَيْتَ وهي لُغَةٌ. وقَرَأهُ الباقُونَ بِتَحْقِيقِ الهَمْزَةِ.
وجُمْلَةُ إنْ أتاكم عَذابُ اللَّهِ إلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَفْعُولَيْ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ، وهي جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ حُذِفَ جَوابُها لِدَلالَةِ جُمْلَةِ المَفْعُولِ الثّانِي عَلَيْهِ.
وإتْيانُ العَذابِ: حُلُولُهُ وحُصُولُهُ، فَهو مَجازٌ لِأنَّ حَقِيقَةَ الإتْيانِ المَجِيءُ، وهو الِانْتِقالُ مِن مَوْضِعٍ بَعِيدٍ إلى المَوْضِعِ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِيهِ مَفْعُولُ الإتْيانِ، فَيُطْلَقُ مَجازًا عَلى حُصُولِ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ حاصِلًا. وكَذَلِكَ القَوْلُ في إتْيانِ السّاعَةِ سَواءٌ.
ووَجْهُ إعادَةِ فِعْلِ أتَتْكُمُ السّاعَةُ مَعَ كَوْنِ حَرْفِ العَطْفِ مُغْنِيًا عَنْ إعادَةِ العامِلِ بِأنْ يُقالَ: إنْ أتاكم عَذابُ اللَّهِ أوِ السّاعَةُ، هو ما يُوَجَّهُ بِهِ الإظْهارُ في مَقامِ الإضْمارِ مِن إرادَةِ الِاهْتِمامِ بِالمُظْهَرِ بِحَيْثُ يُعادُ لَفْظُهُ الصَّرِيحُ لِأنَّهُ أقْوى اسْتِقْرارًا في ذِهْنِ السّامِعِ.
والِاهْتِمامُ هُنا دَعا إلَيْهِ التَّهْوِيلُ وإدْخالُ الرَّوْعِ في ضَمِيرِ السّامِعِ بِأنْ يُصَرَّحَ بِإسْنادِ هَذا الإتْيانِ لِاسْمِ المُسْنَدِ إلَيْهِ الدّالِّ عَلى أمْرٍ مَهُولٍ لِيَدُلَّ تَعَلُّقُ هَذا الفِعْلِ بِالمَفْعُولِ عَلى تَهْوِيلِهِ وإراعَتِهِ.
وقَدِ اسْتَشْعَرَ الِاحْتِياجَ إلى تَوْجِيهِ إعادَةِ الفِعْلِ هُنا الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ في دَرْسِ تَفْسِيرِهِ، ولَكِنَّهُ وجَّهَهُ بِأنَّهُ إذا كانَ العامِلانِ مُتَفاوِتَيْنِ في المَعْنى لِكَوْنِ أحَدِهِما أشَدَّ يُعادُ العامِلُ بَعْدَ حَرْفِ العَطْفِ إشْعارًا بِالتَّفاوُتِ، فَإنَّ إتْيانَ العَذابِ أشَدُّ مِن إتْيانِ السّاعَةِ، أيْ بِناءً عَلى أنَّ المُرادَ بِعَذابِ اللَّهِ عَذابُ الآخِرَةِ أوْ كانَ العامِلانِ مُتَباعِدَيْنِ. فَإنْ أُرِيدَ بِالسّاعَةِ القِيامَةُ وبِعَذابِ اللَّهِ المَحْقُ والرَّزايا في الدُّنْيا فَيَعْقُبُهُ بَعْدَ مُهْلَةٍ تامَّةٍ. وإنْ أُرِيدَ بِالسّاعَةِ المُدَّةِ فالمَحْقُ الدُّنْيَوِيُّ كَثِيرٌ، مِنهُ مُتَقَدِّمٌ ومِنهُ مُتَأخِّرٌ إلى المَوْتِ، فالتَّقَدُّمُ ظاهِرٌ اهـ. وفي تَوْجِيهِهِ نَظَرٌ؛ إذْ لا يَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِعْمالُ.
(p-٢٢٤)وإضافَةُ العَذابِ إلى اسْمِ الجَلالَةِ لِتَهْوِيلِهِ لِصُدُورِهِ مِن أقْدَرِ القادِرِينَ. والمُرادُ عَذابٌ يَحْصُلُ في الدُّنْيا يَضَّرَّعُونَ إلى اللَّهِ لِرَفْعِهِ عَنْهم بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﴿أغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ﴾، فَإنَّ الدُّعاءَ لا يَكُونُ بِطَلَبِ رَفْعِ عَذابِ الجَزاءِ. وهَذا تَهْدِيدٌ وإنْذارٌ.
والسّاعَةُ: عَلَمٌ بِالغَلَبَةِ عَلى ساعَةِ انْقِراضِ الدُّنْيا، أيْ إنْ أدْرَكَتْكُمُ السّاعَةُ.
وتَقْدِيمُ أغَيْرَ اللَّهِ عَلى عامِلِهِ وهو تَدْعُونَ لِتَكُونَ الجُمْلَةُ المُسْتَفْهَمُ عَنْها جُمْلَةَ قَصْرٍ، أيْ أتُعْرِضُونَ عَنْ دُعاءِ اللَّهِ فَتَدْعُونَ غَيْرَهُ دُونَهُ كَما هو دَأْبُكُمُ الآنَ، فالقَصْرُ لِحِكايَةِ حالِهِمْ لا لِقَصْدِ الرَّدِّ عَلى الغَيْرِ. وقَدْ دَلَّ الكَلامُ عَلى التَّعَجُّبِ، أيْ تَسْتَمِرُّونَ عَلى هَذِهِ الحالِ. والكَلامُ زِيادَةٌ في الإنْذارِ.
وجُمْلَةُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وجَوابُها مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (أرَأيْتَكُمُ) الَّذِي هو بِمَعْنى التَّقْرِيرِ. فَتَقْدِيرُ الجَوابِ: إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَأنْتُمْ مُقِرُّونَ بِأنَّكم لا تَدْعُونَ غَيْرَ اللَّهِ. ذَكَّرَهم في هَذِهِ الآيَةِ وألْجَأهم إلى النَّظَرِ لِيَعْلَمُوا أنَّهُ إذا أرادُ اللَّهُ عَذابَهم لا تَسْتَطِيعُ آلِهَتُهم دَفْعَهُ عَنْهم، فَهم إنْ تَوَخَّوُا الصِّدْقَ في الخَبَرِ عَنْ هَذا المُسْتَقْبِلِ أعادُوا التَّأمُّلَ فَلا يَسَعُهم إلّا الِاعْتِرافُ بِأنَّ اللَّهَ إذا شاءَ شَيْئًا لا يَدْفَعُهُ غَيْرُهُ إلّا بِمَشِيئَتِهِ، لِأنَّهم يَعْتَرِفُونَ بِأنَّ الأصْنامَ إنَّما تُقَرِّبُهم إلى اللَّهِ زُلْفى، فَإذا صَدَقُوا وقالُوا: نَدْعُو اللَّهَ، فَقَدْ قامَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ مِنَ الآنَ لِأنَّ مَن لا يُغْنِي في بَعْضِ الشَّدائِدِ لا يَنْبَغِي الِاعْتِمادُ عَلَيْهِ في بَعْضٍ آخَرَ.
ولِذَلِكَ كانَ مَوْقِعُ (﴿بَلْ إيّاهُ تَدْعُونَ﴾) عَقِبَ هَذا الِاسْتِفْهامِ مُوقِعَ النَّتِيجَةِ لِلِاسْتِدْلالِ. فَحَرْفُ بَلْ لِإبْطالِ دَعْوَةِ غَيْرِ اللَّهِ. أيْ فَأنا أُجِيبُ عَنْكم بِأنَّكم لا تَدْعُونَ إلّا اللَّهَ. ووَجْهُ تَوَلِّي الجَوابِ عَنْهم مِنَ السّائِلِ نَفْسِهِ أنَّ هَذا الجَوابَ لَمّا كانَ لا يَسَعُ المَسْئُولَ إلّا إقْرارُهُ صَحَّ أنْ يَتَوَلّى السّائِلُ الجَوابَ عَنْهُ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ لِمَن ما في السَّماواتِ والأرْضِ قُلْ﴾ [الأنعام: ١٢] لِلَّهِ في هَذِهِ السُّورَةِ.
وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ عَلى تَدْعُونَ لِلْقَصْرِ وهو قَصْرُ إفْرادٍ لِلرَّدِّ عَلى المُشْرِكِينَ في زَعْمِهِمْ أنَّهم يَدَعُونَ اللَّهَ ويَدْعُونَ أصْنامَهم، وهم وإنْ كانُوا لَمْ يَزْعُمُوا ذَلِكَ في حالِ (p-٢٢٥)ما إذا أتاهم عَذابُ اللَّهِ أوْ أتَتْهُمُ السّاعَةُ؛ إلّا أنَّهم لَمّا ادَّعَوْهُ في غَيْرِ تِلْكَ الحالَةِ نَزَلُوا مَنزِلَةَ مَن يَسْتَصْحِبُ هَذا الزَّعْمَ في تِلْكَ الحالَةِ أيْضًا.
وقَوْلُهُ (فَيَكْشِفُ) عَطْفٌ عَلى تَدْعُونَ، وهَذا إطْماعٌ في رَحْمَةِ اللَّهِ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ. ولِأجْلِ التَّعْجِيلِ بِهِ قَدَّمَ (وتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) وكانَ حَقُّهُ التَّأْخِيرَ. فَهو شَبِيهٌ بِتَعْجِيلِ المَسَرَّةِ. ومَفْعُولُ تَدْعُونَ مَحْذُوفٌ وهو ضَمِيرُ اسْمِ الجَلالَةِ، أيْ ما تَدْعُونَهُ. والضَّمِيرُ المَجْرُورُ بِـ (إلى) عائِدٌ عَلى (ما) مِن قَوْلِهِ ما تَدْعُونَ أيْ يَكْشِفُ الَّذِي تَدْعُونَهُ إلى كَشْفِهِ.
وإنَّما قَيَّدَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهم بِالمَشِيئَةِ لِأنَّهُ إطْماعٌ لا وعْدٌ.
وعُدِّيَ فِعْلُ تَدْعُونَ بِحَرْفِ (إلى) لِأنَّ أصْلَ الدُّعاءِ نِداءٌ فَكَأنَّ المَدْعُوَّ مَطْلُوبٌ بِالحُضُورِ إلى مَكانِ اليَأْسِ.
ومَفْعُولُ شاءَ مَحْذُوفٌ عَلى طَرِيقَةِ حَذْفِ مَفْعُولِ فِعْلِ المَشِيئَةِ الواقِعِ شَرْطًا، كَما تَقَدَّمَ آنِفًا.
وفِي قَوْلِهِ إنْ شاءَ إشارَةً إلى مُقابِلِهِ، وهو إنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكْشِفْ، وذَلِكَ في عَذابِ الدُّنْيا. وأمّا إتْيانُ السّاعَةِ فَلا يُكْشَفُ إلّا أنْ يُرادَ بِإتْيانِها ما يَحْصُلُ مَعَها مِنَ القَوارِعِ والمَصائِبِ مِن خَسْفٍ وشِبْهِهِ فَيَجُوزُ كَشْفُهُ عَنْ بَعْضِ النّاسِ. ومِمّا كَشَفَهُ اللَّهُ عَنْهم مِن عَذابِ الدُّنْيا عَذابُ الجُوعِ الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشى النّاسَ هَذا عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [الدخان: ١٠] إلى قَوْلِهِ ﴿إنّا كاشِفُو العَذابِ قَلِيلًا إنَّكم عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى إنّا مُنْتَقِمُونَ﴾ [الدخان: ١٥] فُسِّرَتِ البَطْشَةُ بِيَوْمِ بَدْرٍ.
وجُمْلَةُ (فَيَكْشِفُ) إلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المَعْطُوفَيْنِ. وقَوْلُهُ ﴿وتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿إيّاهُ تَدْعُونَ﴾، أيْ فَإنَّكم في ذَلِكَ الوَقْتِ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ، وهو الأصْنامُ.
وقَوْلُهُ ﴿وتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ النِّسْيانُ عَلى حَقِيقَتِهِ، أيْ تَذْهَلُونَ عَنِ الأصْنامِ لِما تَرَوْنَ مِن هَوْلِ العَذابِ وما يَقَعُ في نُفُوسِهِمْ مِن أنَّهُ مُرْسَلٌ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ فَتَنْشَغِلُ أذْهانُهم بِالَّذِي أرْسَلَ العَذابَ ويَنْسَوْنَ الأصْنامَ الَّتِي اعْتادُوا أنْ يَسْتَشْفِعُوا بِها (p-٢٢٦)ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَجازًا في التَّرْكِ والإعْراضِ، أيْ وتُعْرِضُونَ عَنِ الأصْنامِ، إذْ لَعَلَّهم يُلْهِمُونَ أوْ يَسْتَدِلُّونَ في تِلْكَ السّاعَةِ عَلى أنَّ غَيْرَ اللَّهِ لا يَكْشِفُ عَنْهم مِن ذَلِكَ العَذابِ شَيْئًا، وإطْلاقُ النِّسْيانِ عَلى التَّرْكِ شائِعٌ في كَلامِ العَرَبِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فاليَوْمَ نَنْساكم كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكم هَذا﴾ [الجاثية: ٣٤]، أيْ نُهْمِلُكم كَما أنْكَرْتُمْ لِقاءَ اللَّهِ هَذا اليَوْمَ. ومِن قَبِيلِهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿الَّذِينَ هم عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ﴾ [الماعون: ٥] .
وفِي قَوْلِهِ ﴿فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شاءَ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ يُجِيبُ دَعْوَةَ الكافِرِ في الدُّنْيا تَبَعًا لِإجْراءِ نِعَمِ اللَّهِ عَلى الكُفّارِ. والخِلافُ في ذَلِكَ بَيْنَ الأشْعَرِيِّ والماتُرِيدِيِّ آئِلٌ إلى الِاخْتِلافِ اللَّفْظِيِّ.
{"ayahs_start":40,"ayahs":["قُلۡ أَرَءَیۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ","بَلۡ إِیَّاهُ تَدۡعُونَ فَیَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَیۡهِ إِن شَاۤءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ"],"ayah":"بَلۡ إِیَّاهُ تَدۡعُونَ فَیَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَیۡهِ إِن شَاۤءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق