الباحث القرآني
﴿وهْوَ الَّذِي جَعَلَكم خَلائِفَ الأرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكم في ما آتاكم إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
يَظْهَرُ أنَّ هَذا دَلِيلٌ عَلى إمْكانِ البَعْثِ، وعَلى وُقُوعِهِ، لِأنَّ الَّذِي جَعَلَ بَعْضَ الأجْيالِ خَلائِفَ لِما سَبَقَها، فَعَمَرُوا الأرْضَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، لا يُعْجِزُهُ أنْ يَحْشُرَها جَمِيعًا بَعْدَ انْقِضاءِ عالَمِ حَياتِهِمُ الأُولى، ثُمَّ إنَّ الَّذِي دَبَّرَ ذَلِكَ وأتْقَنَهُ لا يَلِيقُ بِهِ أنْ لا يُقِيمَ بَيْنَهم مِيزانَ الجَزاءِ عَلى ما صَنَعُوا في الحَياةِ الأُولى لِئَلّا يَذْهَبَ المُعْتَدُونَ والظّالِمُونَ فائِزِينَ بِما جَنَوْا، وإذا كانَ يُقِيمُ مِيزانَ الجَزاءِ عَلى الظّالِمِينَ فَكَيْفَ يَتْرُكُ إثابَةَ المُحْسِنِينَ، وقَدْ أشارَ إلى الشِّقِّ الأوَّلِ قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَكم خَلائِفَ الأرْضِ﴾، وأشارَ إلى الشَّقِّ الثّانِي قَوْلُهُ: ﴿ورَفَعَ بَعْضَكم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكم في ما آتاكُمْ﴾، ولِذَلِكَ أعْقَبَهُ بِتَذْيِيلِهِ: إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
فالخِطابُ مُوَجَّهٌ إلى المُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُمِرَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - بِأنْ يَقُولَ لَهم: ﴿أغَيْرَ اللَّهِ أبْغِي رَبًّا﴾ [الأنعام: ١٦٤]؛ وذَلِكَ يُذَكِّرُ بِأنَّهم سَيَصِيرُونَ إلى ما صارَ إلَيْهِ أُولَئِكَ.
(p-٢١٠)فَمَوْقِعُ هَذِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: ”ثُمَّ إلى رَبِّكم مَرْجِعُكم“ تَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ بَعْدَ الإنْذارِ بِسَلْبِها، وتَحْرِيضٌ عَلى تَدارُكِ ما فاتَ، وهو يَفْتَحُ أعْيُنَهم لِلنَّظَرِ في عَواقِبِ الأُمَمِ وانْقِراضِها وبَقائِها.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - والأُمَّةِ الإسْلامِيَّةِ، وتَكُونَ الإضافَةُ عَلى مَعْنى اللّامِ، أيْ جَعَلَكم خَلائِفَ الأُمَمِ الَّتِي مَلَكَتِ الأرْضَ فَأنْتُمْ خَلائِفُ لِلْأرْضِ، فَتَكُونُ بِشارَةُ الأُمَّةِ بِأنَّها آخِرُ الأُمَمِ المَجْعُولَةِ مِنَ اللَّهِ لِتَعْمِيرِ الأرْضِ. والمُرادُ: الأُمَمُ ذَواتُ الشَّرائِعِ الإلَهِيَّةِ وأيًّا ما كانَ فَهو تَذْكِيرٌ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ ومِنَّتِهِ لِاسْتِدْعاءِ الشُّكْرِ والتَّحْذِيرِ مِنَ الكُفْرِ.
والخَلائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، والخَلِيفَةُ: اسْمٌ لِما يُخْلَفُ بِهِ الشَّيْءُ، أيْ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْهُ، أيْ عِوَضَهُ، يُقالُ: خَلِيفَةٌ وخِلْفَةٌ، فَهو فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، وظَهَرَتْ فِيهِ التّاءُ لِأنَّهم لَمّا صَيَّرُوهُ اسْمًا قَطَعُوهُ عَنْ مَوْصُوفِهِ.
وإضافَتُهُ إلى الأرْضِ عَلى مَعْنى ”في“ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ، وهو كَوْنُ الخِطابِ لِلْمُشْرِكِينَ، أيْ خَلائِفَ فِيها، أيْ خَلَفَ بِكم أُمَمًا مَضَتْ قَبْلَكم كَما قالَ تَعالى حِكايَةً عَنِ الرُّسُلِ في مُخاطَبَةِ أقْوامِهِمْ: ”﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ [الأعراف: ٦٩]“، ”﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ عادٍ﴾ [الأعراف: ٧٤]“، ”﴿عَسى رَبُّكم أنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكم ويَسْتَخْلِفَكم في الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٢٩]“ . والإضافَةُ عَلى مَعْنى اللّامِ عَلى الوَجْهِ الثّانِي وهو كَوْنُ الخِطابِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وفِي هَذا أيْضًا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ تَتَضَمَّنُ عِبْرَةً ومَوْعِظَةً: وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا جَعَلَهم خَلائِفَ غَيْرِهِمْ فَقَدْ أنْشَأهم وأوْجَدَهم عَلى حِينِ أعْدَمَ غَيْرَهم، فَهَذِهِ نِعْمَةٌ، لِأنَّهُ لَوْ قَدَّرَ بَقاءَ الأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهم لَما وُجِدَ هَؤُلاءِ.
(p-٢١١)وعَطْفُ قَوْلِهِ: ﴿ورَفَعَ بَعْضَكم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ﴾ يَجْرِي عَلى الِاحْتِمالَيْنِ في المُخاطَبِ بِقَوْلِهِ: ﴿جَعَلَكم خَلائِفَ الأرْضِ﴾ فَهو أيْضًا عِبْرَةً وعِظَةً، لِعَدَمِ الِاغْتِرارِ بِالقُوَّةِ والرِّفْعَةِ، ولِجَعْلِ ذَلِكَ وسِيلَةً لِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ والسَّعْيِ في زِيادَةِ الفَضْلِ لِمَن قَصَّرَ عَنْها والرِّفْقِ بِالضَّعِيفِ وإنْصافِ المَظْلُومِ.
ولِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَبْلُوَكم في ما آتاكُمْ﴾ أيْ لِيُخْبِرَكم فِيما أنْعَمَ بِهِ عَلَيْكم مِن دَرَجاتِ النِّعَمِ حَتّى يَظْهَرَ لِلنّاسِ كَيْفَ يَضَعُ أهْلَ النِّعْمَةِ أنْفُسَهم في مَواضِعِها اللّائِقَةِ بِها وهي المُعَبَّرُ عَنْها بِالدَّرَجاتِ.
والدَّرَجاتُ مُسْتَعارَةٌ لِتَفاوُتِ النِّعَمِ. وهي اسْتِعارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى تَشْبِيهِ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ لِتَقْرِيبِهِ.
والإيتاءُ مُسْتَعارٌ لِتَكْوِينِ الرِّفْعَةِ في أرْبابِها تَشْبِيهًا لِلتَّكْوِينِ بِإعْطاءِ المُعْطِي شَيْئًا لِغَيْرِهِ.
والبَلْوُ: الِاخْتِبارُ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَنَبْلُوَنَّكم بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ﴾ [البقرة: ١٥٥] . والمُرادُ بِهِ ظُهُورُ مَوازِينِ العُقُولِ في الِانْتِفاعِ والنَّفْعِ بِمَواهِبِ اللَّهِ وما يَسَّرَهُ لَها مِنَ المُلائَماتِ والمُساعَداتِ، فاللَّهُ يَعْلَمُ مَراتِبَ النّاسِ، ولَكِنَّ ذَلِكَ بَلْوى لِأنَّها لا تَظْهَرُ لِلْعِيانِ إلّا بَعْدَ العَمَلِ، أيْ لِيَعْلَمَهُ اللَّهُ عِلْمَ الواقِعاتِ بَعْدَ أنْ كانَ يَعْلَمُهُ عِلْمَ المُقَدَّراتِ، فَهَذا مَوْقِعُ لامِ التَّعْلِيلِ، وقَرِيبٌ مِنهُ قَوْلُ إياسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطّائِيِّ:
؎وأقْبَلْتُ والخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنا لِأعْلَمَ مَن جَبانُها مِن شُجاعِها
وجُمْلَةُ: إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ لِلْكَلامِ وإيذانٌ بِأنَّ المَقْصُودَ مِنهُ العَمَلُ والِامْتِثالُ فَلِذَلِكَ جَمَعَ هُنا بَيْنَ صِفَةِ سَرِيعِ العِقابِ وصِفَةِ الغَفُورِ لِيُناسِبَ جَمِيعَ ما حَوَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ.
(p-٢١٢)واسْتُعِيرَتِ السُّرْعَةُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ ولِتَمامِ المَقْدِرَةِ عَلى العِقابِ، لِأنَّ شَأْنَ المُتَرَدِّدِ أوِ العاجِزِ أنْ يَتَرَيَّثَ وأنْ يَخْشى غائِلَةَ المُعاقَبِ، فالمُرادُ سَرِيعُ العِقابِ في يَوْمِ العِقابِ، ولَيْسَ المُرادُ سَرِيعَهُ مِنَ الآنِ حَتّى يُؤَوَّلَ بِمَعْنى: كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ، إذْ لا مَوْقِعَ لَهُ هُنا.
ومِن لَطائِفِ القُرْآنِ الِاقْتِصارُ في وصْفِ سَرِيعِ العِقابِ عَلى مُؤَكَّدٍ واحِدٍ، وتَعْزِيزِ وصْفِ الغَفُورِ الرَّحِيمِ بِمُؤَكِّداتٍ ثَلاثَةٍ وهي إنَّ، ولامُ الِابْتِداءِ، والتَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ؛ لِأنَّ الرَّحِيمَ يُؤَكِّدُ مَعْنى الغَفُورِ: لِيُطَمْئِنَ أهْلَ العَمَلِ الصّالِحِ إلى مَغْفِرَةِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ، ولِيَسْتَدْعِيَ أهْلَ الإعْراضِ والصُّدُوفِ، إلى الإقْلاعِ عَمّا هم فِيهِ.
* * *
(p-٥)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الأعْرافِ
هَذا هو الِاسْمُ الَّذِي عُرِفَتْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ، مِن عَهْدِ النَّبِيءِ ﷺ . أخْرَجَ النَّسائِيُّ، مِن حَدِيثِ أبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ: أنَّهُ قالَ لِمَرْوانَ بْنِ الحَكَمِ: ”«ما لِي أراكَ تَقْرَأُ في المَغْرِبِ بِقِصارِ السُّوَرِ وقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ فِيها بِأطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ.“ قالَ مَرْوانُ قُلْتُ: ”يا أبا عَبْدِ اللَّهِ ما أطُولُ الطُّولَيَيْنِ“، قالَ: ”الأعْرافُ» “ . وكَذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بِطُولى الطُّولَيَيْنِ» . والمُرادُ بِالطُّولَيَيْنِ سُورَةُ الأعْرافِ وسُورَةُ الأنْعامِ فَإنَّ سُورَةَ الأعْرافِ أطْوَلُ مِن سُورَةِ الأنْعامِ، بِاعْتِبارِ عَدَدِ الآياتِ. ويُفَسِّرُ ذَلِكَ حَدِيثُ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأ في صَلاةِ المَغْرِبِ بِسُورَةِ الأعْرافِ فَرَّقَها في رَكْعَتَيْنِ» .
ووَجْهُ تَسْمِيَتِها أنَّها ذُكِرَ في لَفْظِ الأعْرافِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وبَيْنَهُما حِجابٌ وعَلى الأعْرافِ رِجالٌ﴾ [الأعراف: ٤٦] الآيَةَ. ولَمْ يُذْكَرْ في غَيْرِها مِن سُوَرِ القُرْآنِ، ولِأنَّها ذُكِرَ فِيها شَأْنُ أهْلِ الأعْرافِ في الآخِرَةِ، ولَمْ يُذْكَرْ في غَيْرِها مِنَ السُّوَرِ بِهَذا اللَّفْظِ، ولَكِنَّهُ ذُكِرَ بِلَفْظِ سُورٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهم بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذابُ﴾ [الحديد: ١٣] في سُورَةِ الحَدِيدِ.
ورُبَّما تُدْعى بِأسْماءِ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ الَّتِي في أوَّلِها وهي: ”ألِفْ - لامْ - مِيمْ - صادْ“ أخْرَجَ النَّسائِيُّ مِن حَدِيثِ أبِي الأسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ: أنَّهُ قالَ لِمَرْوانَ: «لَقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بِأطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ: ”ألِفْ - لامْ - مِيمْ - صادْ» “ . وهو يَجِيءُ (p-٦)عَلى القَوْلِ بِأنَّ الحُرُوفَ المُقَطَّعَةَ الَّتِي في أوائِلِ بَعْضِ السُّورِ هي أسْماءٌ لِلسُّوَرِ الواقِعَةِ فِيها، وهو ضَعِيفٌ، فَلا يَكُونُ ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] اسْمًا لِلسُّورَةِ، وإطْلاقُهُ عَلَيْها إنَّما هو عَلى تَقْدِيرِ التَّعْرِيفِ بِالإضافَةِ إلى السُّورَةِ ذاتِ (المص)، وكَذَلِكَ سَمّاها الشَّيْخُ ابْنُ أبِي زَيْدٍ في الرِّسالَةِ في بابِ سُجُودِ القُرْآنِ ولَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ السُّورَةَ في السُّوَرِ ذاتِ (﴿المص﴾ [الأعراف: ١]) في الأسْماءِ المُتَعَدِّدَةِ. وأمّا ما في حَدِيثِ زَيْدٍ مِن أنَّها طُولى الطُّولَيَيْنِ فَعَلى إرادَةِ الوَصْفِ دُونَ التَّلْقِيبِ. وذَكَرَ الفَيْرُوزْأبادِيُّ في بَصائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تُسَمّى سُورَةَ المِيقاتِ لِاشْتِمالِها عَلى ذِكْرِ مِيقاتِ مُوسى في قَوْلِهِ: ﴿ولَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا﴾ [الأعراف: ١٤٣] . وأنَّها تُسَمّى سُورَةَ المِيثاقِ لِاشْتِمالِها عَلى حَدِيثِ المِيثاقِ في قَوْلِهِ: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ [الأعراف: ١٧٢] . ولَمْ أقِفْ عَلى هاتَيْنِ التَّسْمِيَتَيْنِ في كَلامِ غَيْرِهِ
وهِيَ مَكِّيَّةٌ بِلا خِلافٍ. ثُمَّ قِيلَ جَمِيعُها مَكِّيٌّ، وهو ظاهِرُ رِوايَةِ مُجاهِدٍ وعَطاءٍ الخُراسانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وكَذَلِكَ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وقِيلَ نَزَلَ بَعْضُها في المَدِينَةِ، قالَ قَتادَةُ آيَةُ: ﴿واسْألْهم عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ﴾ [الأعراف: ١٦٣] نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، وقالَ مُقاتِلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿واسْألْهم عَنِ القَرْيَةِ﴾ [الأعراف: ١٦٣] - إلى قَوْلِهِ - ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيّاتِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢] نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، فَإذا صَحَّ هَذا احْتَمَلَ أنْ تَكُونَ السُّورَةُ بِمَكَّةَ ثُمَّ أُلْحِقَ بِها الآيَتانِ المَذْكُورَتانِ، واحْتَمَلَ أنَّها نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وأكْمَلَ مِنها بَقِيَّتَها تانِكَ الآيَتانِ.
ولَمْ أقِفْ عَلى ما يُضْبَطُ بِهِ تارِيخُ نُزُولِها، وعَنْ جابِرِ بْنِ زَيْدٍ أنَّها نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ ”ص“ قَبْلَ سُورَةِ قُلْ أُوحِيَ، وظاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ في صَحِيحِ البُخارِيِّ أنَّ سُورَةَ ”﴿قُلْ أُوحِيَ﴾ [الجن: ١]“ أُنْزِلَتْ في أوَّلِ الإسْلامِ حِينَ (p-٧)ظُهُورِ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وذَلِكَ في أيّامِ الحَجِّ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُتَوَجِّهٌ بِأصْحابِهِ إلى سُوقِعُكاظٍ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ مِنَ البَعْثَةِ، ولا أحْسَبُ أنَّ سُورَةَ الأعْرافِ قَدْ نَزَلَتْ في تِلْكَ المُدَّةِ لِأنَّ السُّورَ الطِّوالَ يَظْهَرُ أنَّها لَمْ تَنْزِلْ في أوَّلِ البَعْثَةِ.
وهِيَ مِنَ السَّبْعِ الطِّوالِ الَّتِي جُعِلَتْ في أوَّلِ القُرْآنِ لِطُولِها وهي سُوَرُ: البَقَرَةِ وآلِ عِمْرانَ، والنِّساءِ والمائِدَةِ، والأنْعامِ والأعْرافِ، وبَراءَةٍ، وقُدِّمَ المَدَنِيُّ مِنها وهي سُوَرُ: البَقَرَةِ، وآلِ عِمْرانَ، والنِّساءِ، والمائِدَةِ؛ ثُمَّ ذُكِرَ المَكِّيُّ وهو: الأنْعامُ والأعْرافُ عَلى تَرْتِيبِ المُصْحَفِ العُثْمانِيِّ اعْتِبارًا بِأنَّ سُورَةَ الأنْعامِ أُنْزِلَتْ بِمَكَّةَ بَعْدَ سُورَةِ الأعْرافِ فَهي أقْرَبُ إلى المَدَنِيِّ مِنَ السُّوَرِ الطِّوالِ.
وهِيَ مَعْدُودَةٌ التّاسِعَةُ والثَّلاثِينَ في تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ ”ص“ وقَبْلَ سُورَةِ الجِنِّ، كَما تَقَدَّمَ، قالُوا جَعَلَها ابْنُ مَسْعُودٍ في مُصْحَفِهِ عَقِبَ سُورَةِ البَقَرَةِ وجَعَلَ بَعْدَها سُورَةَ النِّساءِ، ثُمَّ آلِ عِمْرانَ، ووَقَعَ في مُصْحَفِ أُبَيٍّ بَعْدَ آلِ عِمْرانَ الأنْعامُ ثُمَّ الأعْرافُ. وسُورَةُ النِّساءِ هي الَّتِي تَلِي سُورَةَ البَقَرَةِ في الطُّولِ وسُورَةُ الأعْرافِ تَلِي سُورَةَ النِّساءِ في الطُّولِ.
وعَدُّ آيِ سُورَةِ الأعْرافِ مِائَتانِ وسِتُّ آياتٍ في عَدِّ أهْلِ المَدِينَةِ والكُوفَةِ، ومِائَتانِ وخَمْسٌ في عَدِّ أهْلِ الشّامِ والبَصْرَةِ، قالَ في الإتْقانِ قِيلَ مِائَتانِ وسَبْعٌ.
* * *
افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِالقُرْآنِ والوَعْدِ بِتَيْسِيرِهِ عَلى النَّبِيءِ ﷺ لِيَبْلُغَهُ وكانَ افْتِتاحُها كَلامًا جامِعًا وهو مُناسِبٌ (p-٨)لِما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ المَقاصِدِ فَهو افْتِتاحٌ وارِدٌ عَلى أحْسَنِ وُجُوهِ البَيانِ وأكْمَلِها شَأْنَ سُوَرِ القُرْآنِ.
وتَدُورُ مَقاصِدُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلى مِحْوَرِ مَقاصِدٍ؛ مِنها: النَّهْيُ عَنِ اتِّخاذِ الشُّرَكاءِ مِن دُونِ اللَّهِ.
وإنْذارُ المُشْرِكِينَ عَنْ سُوءِ عاقِبَةِ الشِّرْكِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ.
ووَصْفُ ما حَلَّ بِالمُشْرِكِينَ والَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ: مِن سُوءِ العَذابِ في الدُّنْيا، وما سَيَحُلُّ بِهِمْ في الآخِرَةِ.
تَذْكِيرُ النّاسِ بِنِعْمَةِ خَلْقِ الأرْضِ، وتَمْكِينُ النَّوْعِ الإنْسانِيِّ مِن خَيْراتِ الأرْضِ، وبِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلى هَذا النَّوْعِ بِخَلْقِ أصْلِهِ وتَفْضِيلِهِ.
وما نَشَأ مِن عَداوَةِ جِنْسِ الشَّيْطانِ لِنَوْعِ الإنْسانِ.
وتَحْذِيرُ النّاسِ مِنَ التَّلَبُّسِ بِبَقايا مَكْرِ الشَّيْطانِ مِن تَسْوِيلِهِ إيّاهم حِرْمانَ أنْفُسِهِمُ الطَّيِّباتِ، ومِنَ الوُقُوعِ فِيما يَزُجُّ بِهِمْ في العَذابِ في الآخِرَةِ.
ووَصْفُ أهْوالِ يَوْمَ الجَزاءِ لِلْمُجْرِمِينَ وكَراماتِهِ لِلْمُتَّقِينَ.
والتَّذْكِيرُ بِالبَعْثِ وتَقْرِيبُ دَلِيلِهِ.
والنَّهْيُ عَنِ الفَسادِ في الأرْضِ الَّتِي أصْلَحَها اللَّهُ لِفائِدَةِ الإنْسانِ.
والتَّذْكِيرُ بِبَدِيعِ ما أوْجَدَهُ اللَّهُ لِإصْلاحِها وإحْيائِها.
والتَّذْكِيرُ بِما أوْدَعَ اللَّهُ في فِطْرَةِ الإنْسانِ مِن وقْتِ تَكْوِينِ أصْلِهِ أنْ يَقْبَلُوا دَعْوَةَ رُسُلِ اللَّهِ إلى التَّقْوى والإصْلاحِ.
وأفاضَ في أحْوالِ الرُّسُلِ مَعَ أقْوامِهِمُ المُشْرِكِينَ، ومِمّا لاقَوْهُ مِن عِنادِهِمْ وأذاهم، وأنْذَرَ بِعَدَمِ الِاغْتِرارِ بِإمْهالِ اللَّهِ النّاسَ قَبْلَ أنْ يُنْزِلَ بِهِمُ العَذابَ، وإعْذارًا لَهم أنْ يُقْلِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وعِنادِهِمْ، فَإنَّ العَذابَ يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً بَعْدَ ذَلِكَ الإمْهالِ.
(p-٩)وأطالَ القَوْلَ في قِصَّةِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَعَ فِرْعَوْنَ، وفي تَصَرُّفاتِ بَنِي إسْرائِيلَ مَعَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ.
وتَخَلَّلَ قِصَّتَهُ بِشارَةُ اللَّهِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وصِفَةِ أُمَّتِهِ وفَضْلِ دِينِهِ.
ثُمَّ تَخَلَّصَ إلى مَوْعِظَةِ المُشْرِكِينَ كَيْفَ بَدَّلُوا الحَنِيفِيَّةَ وتَقَلَّدُوا الشِّرْكَ، وضَرَبَ لَهم مَثَلًا بِمَن آتاهُ اللَّهُ الآياتِ فَوَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطانُ فانْسَلَخَ عَنِ الهُدى.
ووَصَفَ حالَ أهْلِ الضَّلالَةِ ووَصَفَ تَكْذِيبَهم بِما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ووَصَفَ آلِهَتَهم بِما يُنافِي الإلَهِيَّةَ وأنَّ لِلَّهِ الصِّفاتِ الحُسْنى صِفاتِ الكَمالِ.
ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - والمُسْلِمِينَ بِسَعَةِ الصَّدْرِ والمُداوَمَةِ عَلى الدَّعْوَةِ وحَذَّرَهم مِن مَداخِلِ الشَّيْطانِ بِمُراقَبَةِ اللَّهِ بِذِكْرِهِ سِرًّا وجَهْرًا والإقْبالِ عَلى عِبادَتِهِ.
{"ayah":"وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضࣲ دَرَجَـٰتࣲ لِّیَبۡلُوَكُمۡ فِی مَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِیعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورࣱ رَّحِیمُۢ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق