الباحث القرآني
﴿إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهم وكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنهم في شَيْءٍ إنَّما أمْرُهم إلى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهم بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾
اسْتِئْنافٌ جاءَ عَقِبَ الوَعِيدِ كالنَّتِيجَةِ والفَذْلَكَةِ، لِأنَّ اللَّهَ لَمّا قالَ لِرَسُولِهِ ﷺ: ”﴿قُلِ انْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٨]“ أعْقَبَ ذَلِكَ بِأنَّ الفَرِيقَيْنِ مُتَبايِنانِ مُتَجافِيانِ في مُدَّةِ الِانْتِظارِ.
وجِيءَ بِالمَوْصُولِيَّةِ لِتَعْرِيفِ المُسْنَدِ إلَيْهِ لِإفادَةِ تَحَقُّقِ مَعْنى الصِّلَةِ فِيهِمْ، لِأنَّها تُناسِبُ التَّنْفِيرَ مِنَ الِاتِّصالِ بِهِمْ، لِأنَّ شَأْنَ الدِّينِ أنْ يَكُونَ عَقِيدَةً واحِدَةً وأعْمالًا واحِدَةً، والتَّفَرُّقُ في أُصُولِهِ يُنافِي وحْدَتَهُ، ولِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ عُلَماءُ الإسْلامِ يَبْذُلُونَ وُسْعَهم لِاسْتِنْباطِ مُرادِ اللَّهِ مِنَ الأُمَّةِ، ويَعْلَمُونَ (p-١٩٢)أنَّ الحَقَّ واحِدٌ وأنَّ اللَّهَ كَلَّفَ العُلَماءَ بِإصابَتِهِ وجَعَلَ لِلْمُصِيبِ أجْرَيْنِ ولِمَن أخْطَأ مَعَ اسْتِفْراغِ الوُسْعِ أجْرًا واحِدًا. وذَلِكَ أجْرٌ عَلى بَذْلِ الوُسْعِ في طَلَبِهِ فَإنَّ بَذْلَ الوُسْعِ في ذَلِكَ يُوشِكُ أنْ يَبْلُغَ المَقْصُودَ، فالمُرادُ بِـ ”﴿الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾“ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُمُ المُشْرِكُونَ. لِأنَّهم لَمْ يَتَّفِقُوا عَلى صُورَةٍ واحِدَةٍ في الدِّينِ، فَقَدْ عَبَدَتِ القَبائِلُ أصْنامًا مُخْتَلِفَةً، وكانَ بَعْضُ العَرَبِ يَعْبُدُونَ المَلائِكَةَ، وبَعْضُهم يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وبَعْضُهم يَعْبُدُ القَمَرَ، وكانُوا يَجْعَلُونَ لِكُلِّ صَنَمٍ عِبادَةً تُخالِفُ عِبادَةَ غَيْرِهِ.
ويَجُوزُ أنْ يُرادَ أنَّهم كانُوا عَلى الحَنِيفِيَّةِ، وهي دِينُ التَّوْحِيدِ لِجَمِيعِهِمْ، فَفَرَّقُوا وجَعَلُوا آلِهَةً عِبادَتُها مُخْتَلِفَةُ الصُّوَرِ. وأمّا كَوْنُهم كانُوا شِيَعًا فَلِأنَّ كُلَّ قَبِيلَةٍ كانَتْ تَنْتَصِرُ لِصَنَمِها، وتَزْعُمُ أنَّهُ يَنْصُرُهم عَلى عُبّادِ غَيْرِهِ كَما قالَ ضِرارُ بْنُ الخَطّابِ الفِهْرِيُّ: وفَرَّتْ ثَقِيفُ إلى لاتِها بِمُنْقَلَبِ الخائِبِ الخاسِرِ ومَعْنى لَسْتَ مِنهم في شَيْءٍ أنَّكَ لا صِلَةَ بَيْنَكَ وبَيْنَهم، فَحَرْفُ مِنِ اتِّصالِيَّةٌ، وأصْلُها ”مِنَ“ الِابْتِدائِيَّةُ.
وشَيْءٌ اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنى مَوْجُودٌ فَنَفْيُهُ يُفِيدُ نَفْيِ جَمِيعِ ما يُوجَدُ مِنَ الِاتِّصالِ وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ﴾ [آل عمران: ٢٨] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ، وقَوْلِهِ ﴿لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ﴾ [المائدة: ٦٨] في سُورَةِ المائِدَةِ.
ولَمّا دَلَّتْ عَلى التَّبَرِّي مِنهم وعَدَمِ مُخالَطَتِهِمْ، وكانَ الكَلامُ مَثارَ سُؤالِ سائِلٍ يَقُولُ: أعَلى الرَّسُولِ أنْ يَتَوَلّى جَزاءَهم عَلى سُوءِ عَمَلِهِمْ، فَلِذَلِكَ جاءَ الِاسْتِئْنافُ بِقَوْلِهِ: ”﴿إنَّما أمْرُهم إلى اللَّهِ﴾“ فَهو اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، وصِيغَةُ القَصْرِ لِقَلْبِ اعْتِقادِ المُتَرَدِّدِ، أيْ إنَّما أمْرُهم إلى اللَّهِ لا إلى الرَّسُولِ ﷺ ولا إلى غَيْرِهِ، وهَذا إنْذارٌ شَدِيدٌ. والمُرادُ بِأمْرِهِمْ: عَمَلُهُمُ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الجَزاءَ والعُقُوبَةَ. وإلى مُسْتَعْمَلٌ في الِانْتِهاءِ (p-١٩٣)المَجازِيِّ، شَبَّهَ أمْرَهم بِالضّالَّةِ الَّتِي تَرَكَها النّاسُ فَسارَتْ حَتّى انْتَهَتْ إلى مَراحِها، فَإنَّ الخَلْقَ كُلَّهم عَبِيدُ اللَّهِ وإلَيْهِ يَرْجِعُونَ، واللَّهُ يُمْهِلُهم ثُمَّ يَأْخُذُهم بِعَذابٍ مِن عِنْدِهِ أوْ بِأيْدِي المُؤْمِنِينَ حِينَ يَأْذَنُ لِرَسُولِهِ ﷺ بِقِتالِهِمْ كَما قالَ تَعالى: ﴿فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: ١٠] ﴿يَغْشى النّاسَ هَذا عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [الدخان: ١١] ﴿رَبَّنا اكْشِفْ عَنّا العَذابَ إنّا مُؤْمِنُونَ﴾ [الدخان: ١٢] ﴿أنّى لَهُمُ الذِّكْرى وقَدْ جاءَهم رَسُولٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: ١٣] ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾ [الدخان: ١٤] ﴿إنّا كاشِفُوا العَذابِ قَلِيلًا إنَّكم عائِدُونَ﴾ [الدخان: ١٥] ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى إنّا مُنْتَقِمُونَ﴾ [الدخان: ١٦] . والبَطْشَةُ الكُبْرى وهي بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ.
وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهم بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ ثُمَّ فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ مَعَ إفادَةِ المُهْلَةِ، أيْ يَبْقى أمْرُهم إلى اللَّهِ مُدَّةً. وذَلِكَ مِنَ الإمْهالِ والإمْلاءِ لَهم، ثُمَّ يُعاقِبُهم، فَأطْلَقَ الإنْباءَ عَلى العِقابِ، لِأنَّهُ إنْ كانَ العِقابُ عِقابَ الآخِرَةِ فَهو يَتَقَدَّمُهُ الحِسابُ، وفِيهِ إنْباءُ الجانِي بِجِنايَتِهِ وبِأنَّهُ مَأْخُوذٌ بِها، فَإطْلاقُ الإنْباءِ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ مُرادٌ مَعَها لازِمُهُ عَلى وجْهِ الكِنايَةِ، وإنْ كانَ العِقابُ عِقابَ الدُّنْيا فَإطْلاقُ الإنْباءِ عَلَيْهِ مَجازٌ، لِأنَّهم إذا نَزَلَ بِهِمُ العَذابُ بَعْدَ الوَعِيدِ عَلِمُوا أنَّهُ العِقابُ المَوْعُودُ بِهِ، فَكانَ حُصُولُ ذَلِكَ العِلْمِ لَهم عِنْدَ وُقُوعِهِ شَبِيهًا بِحُصُولِ العِلْمِ الحاصِلِ عَلى الإخْبارِ فَأطْلَقَ عَلَيْهِ الإنْباءَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ”يُنَبِّئُهم“ بِمَعْنى يُعاقِبُهم بِما كانُوا يَفْعَلُونَ.
ووَصْفُ المُشْرِكِينَ بِأنَّهم فَرَّقُوا دَيْنَهم وكانُوا شِيَعًا: يُؤْذِنُ بِأنَّهُ وصْفٌ شَنِيعٌ، إذْ ما وصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ إلّا في سِياقِ الذَّمِّ، فَيُؤْذِنُ ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ يُحَذِّرُ المُسْلِمِينَ مِن أنْ يَكُونُوا في دِينِهِمْ كَما كانَ المُشْرِكُونَ في دِينِهِمْ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ [الشورى: ١٣] إلى قَوْلِهِ ﴿أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣] .
وتَفْرِيقُ دِينِ الإسْلامِ هو تَفْرِيقُ أُصُولِهِ بَعْدَ اجْتِماعِها، كَما فَعَلَ بَعْضُ العَرَبِ مِن مَنعِهِمُ الزَّكاةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ (p-١٩٤)أبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَأُقاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ. وأمّا تَفْرِيقُ الآراءِ في التَّعْلِيلاتِ والتَّبْيِيناتِ فَلا بَأْسَ بِهِ، وهو مِنَ النَّظَرِ في الدِّينِ، مِثْلَ الِاخْتِلافِ في أدِلَّةِ الصِّفاتِ، وفي تَحْقِيقِ مَعانِيها، مَعَ الِاتِّفاقِ عَلى إثْباتِها. وكَذَلِكَ تَفْرِيعُ الفُرُوعِ كَتَفْرِيقِ فُرُوعِ الفِقْهِ بِالخِلافِ بَيْنَ الفُقَهاءِ، مَعَ الِاتِّفاقِ عَلى صِفَةِ العَمَلِ وعَلى ما بِهِ صِحَّةُ الأفْعالِ وفَسادُها. كالِاخْتِلافِ في حَقِيقَةِ الفَرْضِ والواجِبِ. والحاصِلُ أنَّ كُلَّ تَفْرِيقٍ لا يُكَفِّرُ بِهِ بَعْضُ الفِرَقِ بَعْضًا، ولا يُفْضِي إلى تَقاتُلٍ وفِتَنٍ، فَهو تَفْرِيقُ نَظَرٍ واسْتِدْلالٍ وتَطَلُّبٍ لِلْحَقِّ بِقَدْرِ الطّاقَةِ. وكُلُّ تَفْرِيقٍ يُفْضِي بِأصْحابِهِ إلى تَكْفِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، ومُقاتَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا في أمْرِ الدِّينِ، فَهو مِمّا حَذَّرَ اللَّهُ مِنهُ، وأمّا ما كانَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ نِزاعًا عَلى المُلْكِ والدُّنْيا فَلَيْسَ تَفْرِيقًا في الدِّينِ، ولَكِنَّهُ مِنَ الأحْوالِ الَّتِي لا تَسْلَمُ مِنها الجَماعاتُ.
وقَرَأهُ الجُمْهُورُ: ”فَرَّقُوا“ بِتَشْدِيدِ الرّاءِ وقَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: ”فارَقُوا“ بِألْفٍ بَعْدِ الفاءِ أيْ تَرَكُوا دِينَهم، أيْ تَرَكُوا ما كانَ دِينًا لَهم، أيْ لِجَمِيعِ العَرَبِ، وهو الحَنِيفِيَّةُ فَنَبَذُوها وجَعَلُوها عِدَّةَ نِحَلٍ. ومَآلُ القِراءَتَيْنِ واحِدٌ.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ فَرَّقُوا۟ دِینَهُمۡ وَكَانُوا۟ شِیَعࣰا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِی شَیۡءٍۚ إِنَّمَاۤ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ یُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق