الباحث القرآني
﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الجِنَّ وخَلَقَهم وخَرَّقُوا لَهُ بَنِينَ وبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَصِفُونَ﴾ .
عَطَفَ عَلى الجُمَلِ قَبْلَهُ عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ، فالضَّمِيرُ المَرْفُوعُ في جَعَلُوا عائِدٌ إلى قَوْمُكَ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ﴾ [الأنعام: ٦٦] .
وهَذا انْتِقالٌ إلى ذِكْرِ شِرْكٍ آخَرَ مِن شِرْكِ العَرَبِ؛ وهو جَعْلُهُمُ الجِنَّ شُرَكاءَ لِلَّهِ في عِبادَتِهِمْ كَما جَعَلُوا الأصْنامَ شُرَكاءَ لَهُ في ذَلِكَ. وقَدْ كانَ دِينُ العَرَبِ في الجاهِلِيَّةِ خَلِيطًا مِن عِبادَةِ الأصْنامِ ومِنَ الصّابِئِيَّةِ عِبادَةِ الكَواكِبِ وعِبادَةِ الشَّياطِينِ، ومَجُوسِيَّةِ الفُرْسِ، وأشْياءَ مِنَ اليَهُودِيَّةِ، والنَّصْرانِيَّةِ، فَإنَّ العَرَبَ لِجَهْلِهِمْ حِينَئِذٍ كانُوا يَتَلَقَّوْنَ مِنَ الأُمَمِ المُجاوِرَةِ لَهم والَّتِي يَرْحَلُونَ إلَيْها عَقائِدَ شَتّى مُتَقارِبًا بَعْضُها ومُتَباعِدًا بَعْضُ، فَيَأْخُذُونَهُ بِدُونِ (p-٤٠٥)تَأمُّلٍ ولا تَمْحِيصٍ لِفَقْدِ العِلْمِ فِيهِمْ، فَإنَّ العِلْمَ الصَّحِيحَ هو الذّائِدُ عَنِ العُقُولِ مِن أنْ تُعَشَّشَ فِيها الأوْهامُ والمُعْتَقَداتُ الباطِلَةُ، فالعَرَبُ كانَ أصْلُ دِينِهِمْ في الجاهِلِيَّةِ عِبادَةَ الأصْنامِ وسَرَتْ إلَيْهِمْ مَعَها عَقائِدُ مِنِ اعْتِقادِ سُلْطَةِ الجِنِّ والشَّياطِينِ ونَحْوِ ذَلِكَ.
فَكانَ العَرَبُ يُثْبِتُونَ الجِنَّ ويَنْسُبُونَ إلَيْهِمْ تَصَرُّفاتٍ، فَلِأجْلِ ذَلِكَ كانُوا يَتَّقُونَ الجِنَّ ويَنْتَسِبُونَ إلَيْها ويَتَّخِذُونَ لَها المَعاذاتِ والرُّقى ويَسْتَجْلِبُونَ رِضاها بِالقَرابِينِ وتَرْكِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ عَلى بَعْضِ الذَّبائِحِ. وكانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّ الكاهِنَ تَأْتِيهِ الجِنُّ بِالخَبَرِ مِنَ السَّماءِ، وأنَّ الشّاعِرَ لَهُ شَيْطانٌ يُوحِي إلَيْهِ الشِّعْرَ، ثُمَّ إذا أخَذُوا في تَعْلِيلِ هَذِهِ التَّصَرُّفاتِ وجَمَعُوا بَيْنَها وبَيْنَ مُعْتَقَدِهِمْ في أُلُوهِيَّةِ اللَّهِ تَعالى تَعَلَّلُوا لِذَلِكَ بِأنَّ لِلْجِنِّ صِلَةً بِاللَّهِ تَعالى فَلِذَلِكَ قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ مِن أُمَّهاتِ سَرَواتِ الجِنِّ، كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا﴾ [الصافات: ١٥٨] وقالَ ﴿فاسْتَفْتِهِمُ ألِرَبِّكَ البَناتُ ولَهُمُ البَنُونَ﴾ [الصافات: ١٤٩] ﴿أمْ خَلَقْنا المَلائِكَةَ إناثًا وهم شاهِدُونَ﴾ [الصافات: ١٥٠] ﴿ألا إنَّهم مِن إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ﴾ [الصافات: ١٥١] ﴿ولَدَ اللَّهُ وإنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ [الصافات: ١٥٢] . ومِن أجْلِ ذَلِكَ جَعَلَ كَثِيرٌ مِن قَبائِلِ العَرَبِ شَيْئًا مِن عِبادَتِهِمْ لِلْمَلائِكَةِ ولِلْجِنِّ. قالَ تَعالى ﴿ويَوْمَ يَحْشُرُهم جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أهَؤُلاءِ إيّاكم كانُوا يَعْبُدُونَ﴾ [سبإ: ٤٠] ﴿قالُوا سُبْحانَكَ أنْتَ ولِيُّنا مِن دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أكْثَرُهم بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [سبإ: ٤١] .
والَّذِينَ زَعَمُوا أنَّ المَلائِكَةَ بَناتُ اللَّهِ هم قُرَيْشٌ وجُهَيْنَةُ وبَنُو سَلَمَةَ وخُزاعَةُ وبَنُو مُلَيْحٍ. وكانَ بَعْضُ العَرَبِ مَجُوسًا عَبَدُوا الشَّيْطانَ وزَعَمُوا أنَّهُ إلَهُ الشَّرِّ وأنَّ اللَّهَ إلَهُ الخَيْرِ، وجَعَلُوا المَلائِكَةَ جُنْدَ اللَّهِ والجِنَّ جُنْدَ الشَّيْطانِ. وزَعَمُوا أنَّ اللَّهَ خَلَقَ الشَّيْطانَ مِن نَفْسِهِ ثُمَّ فَوَّضَ إلَيْهِ تَدْبِيرَ الشَّرِّ فَصارَ إلَهَ الشَّرِّ. وهم قَدِ انْتَزَعُوا ذَلِكَ مِنَ الدِّيانَةِ المَزْدَكِيَّةِ القائِلَةِ بِإلَهَيْنِ؛ إلَهٍ لِلْخَيْرِ وهو (يَزْدانُ) . وإلَهٍ لِلشَّرِّ وهو (أهْرُمُنُ) وهو الشَّيْطانُ.
فَقَوْلُهُ ﴿الجِنَّ﴾ [سبإ: ٤١] مَفْعُولُ أوَّلُ جَعَلُوا وشُرَكاءُ مَفْعُولُهُ الثّانِي، لِأنَّ الجِنَّ (p-٤٠٦)المَقْصُودُ مِنَ السِّياقِ لا مُطْلَقُ الشُّرَكاءِ، لِأنَّ جَعْلَ الشُّرَكاءِ لِلَّهِ قَدْ تَقَرَّرَ مِن قَبْلُ. ولِلَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِـ شُرَكاءَ. وقَدَّمَ المَفْعُولَ الثّانِيَ عَلى الأوَّلِ لِأنَّهُ مَحَلُّ تَعْجِيبٍ وإنْكارٍ، فَصارَ لِذَلِكَ أهَمَّ، وذِكْرُهُ أسْبَقَ.
وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ عَلى المَفْعُولِ في قَوْلِهِ لِلَّهِ شُرَكاءَ لِلِاهْتِمامِ والتَّعْجِيبِ مِن خَطَأِ عُقُولِهِمْ إذْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ شُرَكاءَ مِن مَخْلُوقاتِهِ؛ لِأنَّ المُشْرِكِينَ يَعْتَرِفُونَ بِأنَّ اللَّهَ هو خالِقُ الجِنِّ، فَهَذا التَّقْدِيمُ جَرى عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ لِأجْلِ ما اقْتَضى خِلافَهُ. وكَلامُ الكَشّافِ يَجْعَلُ تَقْدِيمَ المَجْرُورِ في الآيَةِ لِلِاهْتِمامِ بِاعْتِقادِهِمُ الشَّرِيكِ لِلَّهِ اهْتِمامًا في مَقامِهِ وهو الِاسْتِفْظاعُ والإنْكارُ التَّوْبِيخِيُّ. وتَبِعَهُ في المِفْتاحِ إذْ قالَ في تَقْدِيمِ بَعْضِ المَعْمُولاتِ عَلى بَعْضٍ لِلْعِنايَةِ بِتَقْدِيمِهِ لِكَوْنِهِ نُصْبَ عَيْنِكَ كَما تَجِدُكَ إذا قالَ لَكَ أحَدٌ: عَرَفْتَ شُرَكاءَ لِلَّهِ، يَقِفُ شِعْرُكَ وتَقُولُ: لِلَّهِ شُرَكاءُ ؟ ! . وعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ﴾ . اهـ. فَيَكُونُ تَقْدِيمُ المَجْرُورِ جارِيًا عَلى مُقْتَضى الظّاهِرِ.
والجِنُّ بِكَسْرِ الجِيمِ اسْمٌ لِمَوْجُوداتٍ مِنَ المُجَرَّداتِ الَّتِي لا أجْسامَ لَها ذاتُ طَبْعٍ نارِيٍّ، ولَها آثارٌ خاصَّةٌ في بَعْضِ تَصَرُّفاتٍ تُؤَثِّرُ في بَعْضِ المَوْجُوداتِ ما لا تُؤَثِّرُهُ القُوى العَظِيمَةُ. وهي مِن جِنْسِ الشَّياطِينِ لا يُدْرى أمَدُ وُجُودِ أفْرادِها ولا كَيْفِيَّةُ بَقاءِ نَوْعِها. وقَدْ أثْبَتَها القُرْآنُ عَلى الإجْمالِ، وكانَ لِلْعَرَبِ أحادِيثُ في تَخَيُّلِها. فَهم يَتَخَيَّلُونَها قادِرَةً عَلى التَّشَكُّلِ بِأشْكالِ المَوْجُوداتِ كُلِّها ويَزْعُمُونَ أنَّها إذا مَسَّتِ الإنْسانَ آذَتْهُ وقَتَلَتْهُ. وأنَّها تَخْتَطِفُ بَعْضَ النّاسِ في الفَيافِي، وأنَّ لَها زَجَلًا وأصْواتًا في الفَيافِي، ويَزْعُمُونَ أنَّ الصَّدى هو مِنَ الجِنِّ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿كالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ في الأرْضِ﴾ [الأنعام: ٧١]، وأنَّها قَدْ تَقُولُ الشِّعْرَ، وأنَّها تَظْهَرُ لِلْكُهّانِ والشُّعَراءِ.
وجُمْلَةُ ﴿وخَلَقَهُمْ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ والواوِ لِلْحالِ.
والضَّمِيرُ المَنصُوبُ في خَلَقَهم يَحْتَمِلُ أنْ يَعُودَ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ (p-٤٠٧)جَعَلُوا، أيْ وخَلَقَ المُشْرِكِينَ، ومَوْقِعُ هَذِهِ الحالِ التَّعْجِيبُ مِن أنْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ وهو خالِقُهم، مِن قَبِيلِ ﴿وتَجْعَلُونَ رِزْقَكم أنَّكم تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: ٨٢]، وعَلى هَذا تَكُونُ ضَمائِرُ الجَمْعِ مُتَناسِقَةً، والتَّعْجِيبُ عَلى هَذا الوَجْهِ مِن جَعْلِهِمْ ذَلِكَ مَعَ أنَّ اللَّهَ خالِقُهم في نَفْسِ الأمْرِ فَكَيْفَ لا يَنْظُرُونَ في أنَّ مُقْتَضى الخَلْقِ أنْ يُفْرَدَ بِالإلَهِيَّةِ إذْ لا وجْهَ لِدَعْواها لِمَن لا يَخْلُقُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ١٧] فالتَّعْجِيبُ عَلى هَذا مِن جَهْلِهِمْ وسُوءِ نَظَرِهِمْ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ ﴿وخَلَقَهُمْ﴾ عائِدًا إلى الجِنِّ لِصِحَّةِ ذَلِكَ الضَّمِيرِ لَهم بِاعْتِبارِ أنَّ لَهم عَقْلًا، ومَوْقِعُ الحالِ التَّعْجِيبُ مِن ضَلالِ المُشْرِكِينَ أنْ يُشْرِكُوا اللَّهَ في العِبادَةِ بَعْضَ مَخْلُوقاتِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّهم مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ تَعالى، فَإنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا: إنَّ اللَّهَ خالِقُ الجِنِّ، كَما تَقَدَّمَ، وأنَّهُ لا خالِقَ إلّا هو، فالتَّعْجِيبُ مِن مُخالَفَتِهِمْ لِمُقْتَضى عِلْمِهِمْ. فالتَّقْدِيرُ: وخَلَقَهم كَما في عِلْمِهِمْ، أيْ وخَلَقَهم بِلا نِزاعٍ. وهَذا الوَجْهُ أظْهَرَ.
وجُمْلَةُ ﴿وخَرَّقُوا﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ وجَعَلُوا والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى المُشْرِكِينَ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ”وخَرَقُوا“ بِتَخْفِيفِ الرّاءِ، وقَرَأهُ نافِعٌ، وأبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الرّاءِ.
والخَرْقُ: أصْلُهُ القَطْعُ والشَّقُّ. وقالَ الرّاغِبُ: هو القَطْعُ والشَّقُّ عَلى سَبِيلِ الفَسادِ مِن غَيْرِ تَدَبُّرٍ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿أخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهْلَها﴾ [الكهف: ٧١] . وهو ضِدُّ الخَلْقِ، فَإنَّهُ فَعْلُ الشَّيْءِ بِتَقْدِيرٍ ورِفْقٍ، والخَرْقُ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ. ولَمْ يُقَيِّدْهُ غَيْرُهُ مِن أئِمَّةِ اللُّغَةِ. وأيًّا ما كانَ فَقَدِ اسْتُعْمِلَ الخَرْقُ مَجازًا في الكَذِبِ كَما اسْتُعْمِلَ فِيهِ افْتَرى واخْتَلَقَ مِنَ الفَرْيِ والخَلْقِ. وفي الكَشّافِ: سُئِلَ الحَسَنُ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وخَرَّقُوا﴾ فَقالَ: كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ كانَتِ العَرَبُ تَقُولُها، كانَ الرَّجُلُ إذا كَذَبَ كِذْبَةً في نادِي القَوْمِ يَقُولُ بَعْضُهم: قَدْ خَرَقَها واللَّهِ. وقِراءَةُ نافِعٍ تُفِيدُ المُبالَغَةَ في الفِعْلِ؛ لِأنَّ التَّفْعِيلَ يَدُلُّ عَلى قُوَّةِ حُصُولِ الفِعْلِ. فَمَعْنى خَرَّقُوا كَذَبُوا عَلى اللَّهِ عَلى سَبِيلِ الخَرْقِ، أيْ نَسَبُوا إلَيْهِ بَنِينَ وبَناتٍ كَذِبًا، (p-٤٠٨)فَأمّا نِسْبَتُهُمُ البَنِينَ إلى اللَّهِ فَقَدْ حَكاها عَنْهُمُ القُرْآنُ هُنا. والمُرادُ أنَّ المُشْرِكِينَ نَسَبُوا إلَيْهِ بَنِينَ وبَناتٍ. ولَيْسَ المُرادُ اليَهُودَ في قَوْلِهِمْ (﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠])، ولا النَّصارى في قَوْلِهِمْ (عِيسى ابْنُ اللَّهِ) . كَما فَسَّرَ بِهِ جَمِيعُ المُفَسِّرِينَ، لِأنَّ ذَلِكَ لا يُناسِبُ السِّياقَ ويُشَوِّشُ عَوْدَ الضَّمائِرِ ويَخْرِمُ نَظْمَ الكَلامِ. فالوَجْهُ أنَّ المُرادَ أنَّ بَعْضَ المُشْرِكِينَ نَسَبُوا لِلَّهِ البَنِينَ وهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّنُوا شَيْئًا مِنَ المَجُوسِيَّةِ لِأنَّهم لَمّا جَعَلُوا الشَّيْطانَ مُتَوَلِّدًا عَنِ اللَّهِ تَعالى إذْ قالُوا إنَّ اللَّهَ لَمّا خَلَقَ العالَمَ تَفَكَّرَ في مَمْلَكَتِهِ واسْتَعْظَمَها فَحَصَلَ لَهُ عُجْبٌ تَوَلَّدَ عَنْهُ الشَّيْطانُ، ورُبَّما قالُوا أيْضًا: إنَّ اللَّهَ شَكَّ في قُدْرَةِ نَفْسِهِ فَتَوَلَّدَ مِن شَكِّهِ الشَّيْطانُ، فَقَدْ لَزِمَهم أنَّ الشَّيْطانَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ اللَّهِ تَعالى عَمّا يَقُولُونَ، فَلَزِمَهم نِسْبَةُ الِابْنِ إلى اللَّهِ تَعالى.
ولَعَلَّ بَعْضَهم كانَ يَقُولُ بِأنَّ الجِنَّ أبْناءُ اللَّهِ والمَلائِكَةَ بَناتُ اللَّهِ، أوْ أنَّ في المَلائِكَةِ ذُكُورًا وإناثًا، ولَقَدْ يَنْجَرُّ لَهم هَذا الِاعْتِقادِ مِنَ اليَهُودِ فَإنَّهم جَعَلُوا المَلائِكَةَ أبْناءَ اللَّهِ. فَقَدْ جاءَ في أوَّلِ الإصْحاحِ السّادِسِ مِن سِفْرِ التَّكْوِينِ: وحَدَثَ لَمّا ابْتَدَأ النّاسُ يَكْثُرُونَ عَلى الأرْضِ ووُلِدَ لَهم بَناتٌ أنَّ أبْناءَ اللَّهِ رَأوْا بَناتِ النّاسِ أنَّهُنَّ حَسَناتٌ فاتَّخَذُوا لِأنْفُسِهِمْ نِساءً مِن كُلِّ ما اخْتارُوا وإذْ دَخَلَ بَنُو اللَّهِ عَلى بَناتِ النّاسِ ووَلَدْنَ لَهم أوْلادًا هَؤُلاءِ هُمُ الجَبابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ.
وأمّا نِسْبَتُهُمُ البَناتِ إلى اللَّهِ فَهي مَشْهُورَةٌ في العَرَبِ إذْ جَعَلُوا المَلائِكَةَ إناثًا، وقالُوا: هُنَّ بَناتُ اللَّهِ.
وقَوْلُهُ ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ خَرَّقُوا، أيِ اخْتَلَقُوا اخْتِلاقًا عَنْ جَهْلٍ وضَلالَةٍ، لِأنَّهُ اخْتِلاقٌ لا يَلْتَئِمُ مَعَ العَقْلِ والعِلْمِ فَقَدْ رَمَوْا بِقَوْلِهِمْ عَنْ عَمًى وجَهالَةٍ. فالمُرادُ بِالعِلْمِ هُنا العِلْمُ بِمَعْناهُ الصَّحِيحِ، وهو حُكْمُ الذِّهْنِ المُطابِقُ لِلْواقِعِ عَنْ ضَرُورَةٍ أوْ بُرْهانٍ.
(p-٤٠٩)والباءُ لِلْمُلابَسَةِ، أيْ مُلابِسًا تَخْرِيقَهم غَيْرَ العِلْمِ فَهو مُتَلَبِّسٌ بِالجَهْلِ بَدْءًا وغايَةً، فَهم قَدِ اخْتَلَقُوا بِلا داعٍ ولا دَلِيلٍ، ولَمْ يَجِدُوا لِما اخْتَلَقُوهُ تَرْوِيجًا، وقَدْ لَزِمَهم بِهِ لازِمُ الخَطَلِ وفَسادُ القَوْلِ وعَدَمُ التِئامِهِ، فَهَذا مَوْقِعُ ”باءِ“ المُلابَسَةِ في الآيَةِ الَّذِي لا يُفِيدُ مُفادُهُ غَيْرَهُ.
وجُمْلَةُ ﴿سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَصِفُونَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ تَنْزِيهًا عَنْ جَمِيعِ ما حُكِيَ عَنْهم. فَـ سُبْحانَ مَصْدَرٌ مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن فِعْلِهِ. وأصْلُ الكَلامِ أُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحانًا. فَلَمّا عُوِّضَ عَنْ فِعْلِهِ صارَ سُبْحانَ اللَّهِ بِإضافَتِهِ إلى مَفْعُولِهِ الأصْلِيِّ، وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى﴿قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلّا ما عَلَّمْتَنا﴾ [البقرة: ٣٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
ومَعْنى تَعالى ارْتَفَعَ، وهو تَفاعُلٌ مِنَ العُلُوِّ. والتَّفاعُلُ فِيهِ لِلْمُبالَغَةِ في الِاتِّصافِ. والعُلُوُّ هُنا مَجازٌ، أيْ كَوْنُهُ لا يَنْقُصُهُ ما وصَفُوهُ بِهِ، أيْ لا يُوصَفُ بِذَلِكَ لِأنَّ الِاتِّصافَ بِمِثْلِ ذَلِكَ نَقْصٌ وهو لا يَلْحَقُهُ النَّقْصُ فَشُبِّهَ التَّحاشِي عَنِ النَّقائِصِ بِالِارْتِفاعِ، لِأنَّ الشَّيْءَ المُرْتَفِعَ لا تَلْتَصِقُ بِهِ الأوْساخُ الَّتِي شَأْنُها أنْ تَكُونَ مَطْرُوحَةً عَلى الأرْضِ، فَكَما شَبَّهَ النَّقْصَ بِالسَّفالَةِ شَبَّهَ الكَمالَ بِالعُلُوِّ، فَمَعْنى (تَعالى عَنْ ذَلِكَ) أنَّهُ لا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ ذَلِكَ.
وقَوْلُهُ ﴿عَمّا يَصِفُونَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ تَعالى، فَـ (عَنْ) لِلْمُجاوَزَةِ. وقَدْ دَخَلَتْ عَلى اسْمِ المَوْصُولِ، أيْ عَنِ الَّذِي يَصِفُونَهُ.
والوَصْفُ: الخَبَرُ عَنْ أحْوالِ الشَّيْءِ وأوْصافِهِ وما يَتَمَيَّزُ بِهِ، فَهو إخْبارٌ مُبَيِّنٌ مُفَصِّلٌ لِلْأحْوالِ، حَتّى كَأنَّ المُخْبِرَ يَصِفُ الشَّيْءَ ويَنْعَتُهُ.
واخْتِيرَ في الآيَةِ فِعْلُ ﴿يَصِفُونَ﴾ لِأنَّ ما نَسَبُوهُ إلى اللَّهِ يَرْجِعُ إلى تَوْصِيفِهِ بِالشُّرَكاءِ والأبْناءِ، أيْ تَباعَدَ عَنِ الِاتِّصافِ بِهِ. وأمّا كَوْنُهم وصَفُوهُ بِهِ فَذَلِكَ أمْرٌ واقِعٌ.
{"ayah":"وَجَعَلُوا۟ لِلَّهِ شُرَكَاۤءَ ٱلۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡۖ وَخَرَقُوا۟ لَهُۥ بَنِینَ وَبَنَـٰتِۭ بِغَیۡرِ عِلۡمࣲۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یَصِفُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق