الباحث القرآني
﴿لا يُقاتِلُونَكم جَمِيعًا إلّا في قُرًى مُحَصَّنَةٍ أوْ مِن وراءِ جُدُرٍ﴾ .
هَذِهِ الجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ﴿لَأنْتُمْ أشَدُّ رَهْبَةً في صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ﴾ [الحشر: ١٣]، لِأنَّ شِدَّةَ الرَّهْبَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ تَشْتَمِلُ عَلى شَدَّةِ التَّحَصُّنِ لِقِتالِهِمْ إيّاهم، أيْ لا يَقْدِرُونَ عَلى قِتالِكم إلّا في هاتِهِ الأحْوالِ والضَّمِيرُ المَرْفُوعُ في يُقاتِلُونَكم عائِدٌ إلى الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ.
وقَوْلُهُ جَمِيعًا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى كُلَّهم كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٤٨] فَيَكُونُ لِلشِّمُولِ، أيْ كُلُّهم لا يُقاتِلُونَكُمُ اليَهُودُ والمُنافِقُونَ إلّا في قُرًى مُحَصَّنَةٍ إلَخْ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى مُجْتَمَعِينَ، أيْ لا يُقاتِلُونَكم جُيُوشًا كَشَأْنِ جُيُوشِ المُتَحالِفِينَ فَإنَّ ذَلِكَ قِتالُ مَن لا يَقْبَعُونَ في قُراهم فَيَكُونُ النَّفْيُ مُنْصَبًّا إلى هَذا (p-١٠٥)القَيْدِ، أيْ لا يَجْتَمِعُونَ عَلى قِتالِكُمُ اجْتِماعَ الجُيُوشِ، أيْ لا يُهاجِمُونَكم ولَكِنْ يُقاتِلُونَ قِتالَ دِفاعٍ في قُراهم.
واسْتِثْناءُ ”إلّا في قُرًى“ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ في ”جَمِيعًا“ اسْتِثْناءٌ حَقِيقِيٌّ مِن عُمُومِ الأحْوالِ، أيْ لا يُقاتِلُونَكم كُلُّهم في حالٍ مِنَ الأحْوالِ إلّا في حالِ الكَوْنِ في قُرًى مُحَصَّنَةٍ إلَخْ. وهو عَلى الوَجْهِ الثّانِي في ”جَمِيعًا“ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ لِأنَّ القِتالَ في القُرى ووَراءَ الجُدُرِ لَيْسَ مِن أحْوالِ قِتالِ الجُيُوشِ المُتَسانِدِينَ.
وعَلى كِلا الِاحْتِمالَيْنِ فالكَرَمُ يُفِيدُ أنَّهم لا يُقاتِلُونَ إلّا مُتَفَرِّقِينَ كُلُّ فَرِيقٍ في قَرْيَتِهِمْ، وإلّا خائِفِينَ مُتَتَرِّسِينَ.
والمَعْنى: لا يُهاجِمُونَكم، وإنْ هاجَمْتُمُوهم لا يَبْرُزُونَ إلَيْكم ولَكِنَّهم يُدافِعُونَكم في قُرًى مُحَصَّنَةٍ أوْ يُقاتِلُونَكم مِن وراءِ جُدُرٍ، أيْ في الحُصُونِ والمَعاقِلِ ومِن وراءِ الأسْوارِ، وهَذا كِنايَةٌ عَنْ مَصِيرِهِمْ إلى الهَزِيمَةِ إذْ ما حُورِبَ قَوْمٌ في عُقْرِ دارِهِمْ إلّا ذَلُّوا كَما قالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وهَذا إطْلاعٌ لَهم عَلى تَطْمِينٍ لِلرَّسُولِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ ودَخائِلِ الأعْداءِ.
والجُدُرُ بِضَمَّتَيْنِ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ جَمْعُ جِدارٍ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو (جِدارٌ) عَلى الإفْرادِ، والمُرادُ الجِنْسُ تُساوِي الجَمْعَ.
و(مُحَصَّنَةٍ): مَمْنُوعَةٍ مِمَّنْ يُرِيدُ أخْذَها بِأسْوارٍ أوْ خَنادِقَ.
وقُرًى: بِالقَصْرِ جَمْعُ قَرْيَةٍ، ووَزْنُهُ وقَصْرُهُ عَلى غَيْرِ قِياسٍ لِأنَّ ما كانَ عَلى زِنَةِ فَعْلَةٍ مُعْتَلِّ اللّامِ مِثْلَ قَرْيَةٍ يُجْمَعُ عَلى فِعالٍ بِكَسْرِ الفاءِ مَمْدُودًا مِثْلَ: رَكْوَةٍ ورِكاءٍ، وشَكْوَةٍ وشِكاءٍ. ولَمْ يُسْمَعِ القَصْرُ إلّا في كَوَّةٍ بِفَتْحِ الكافِ لُغَةٌ وكُوًى، وقَرْيَةٍ وقُرًى ولِذَلِكَ قالَ الفَرّاءُ: قُرًى شاذٌّ، يُرِيدُ خارِجٌ عَنِ القِياسِ.
* * *
﴿بَأْسُهم بَيْنَهم شَدِيدٌ تَحْسِبُهم جَمِيعًا وقُلُوبُهم شَتّى ذَلِكَ بِأنَّهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾ .
اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِأنَّ الإخْبارَ عَنْ أهْلِ الكِتابِ وأنْصارِهِمْ بِأنَّهم لا يُقاتِلُونَ (p-١٠٦)المُسْلِمِينَ إلّا في قُرًى مُحَصَّنَةٍ المُفِيدُ أنَّهم لا يَتَّفِقُونَ عَلى جَيْشٍ واحِدٍ مُتَسانِدِينَ فِيهِ مِمّا يُثِيرُ في نَفْسِ السّامِعِ أنْ يَسْألَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ مَعَ أنَّهم مُتَّفِقُونَ عَلى عَداوَةِ المُسْلِمِينَ. فَيُجابُ بِأنَّ بَيْنَهم بَأْسًا شَدِيدًا وتَدابُرًا، فَهم لا يَتَّفِقُونَ.
وافْتُتِحَتِ الجُمْلَةُ بِـ (بَأْسُهم) لِلِاهْتِمامِ بِالأِخْبارِ عَنْهُ بِأنَّهُ بَيْنَهم، أيْ مُتَسَلِّطٌ مِن بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ ولَيْسَ بَأْسُهم عَلى المُسْلِمِينَ، وفي تَهَكُّمٍ.
ومَعْنى بَيْنَهم: أنَّ مَجالَ البَأْسِ في مُحِيطِهِمْ فَما في بَأْسِهِمْ مِن إضْرارٍ فَهو مُنْعَكِسٌ إلَيْهِمْ، وهَذا التَّرْكِيبُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى رُحَماءُ بَيْنَهم.
وجُمْلَةُ (تَحَسَبُهم جَمِيعًا) إلى آخِرِها اسْتِئْنافٌ عَنْ جُمْلَةِ ﴿بَأْسُهم بَيْنَهم شَدِيدٌ﴾ . لِأنَّهُ قَدْ يَسْألُ السّائِلُ: كَيْفَ ذَلِكَ ونَحْنُ نَراهم مُتَّفِقِينَ ؟ فَأُجِيبُ بِأنَّ ظاهِرَ حالِهِمْ حالُ اجْتِماعٍ واتِّحادٍ وهم في بَواطِنِهِمْ مُخْتَلِفُونَ فَآراؤُهم غَيْرُ مُتَّفِقَةٍ لا إلْفَةَ بَيْنَهم لِأنَّ بَيْنَهم إحَنًا وعَداواتٍ فَلا يَتَعاضَدُونَ.
والخِطابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِأنَّ النَّبِيءَ ﷺ لا يَحْسَبُ ذَلِكَ. وهَذا تَشْجِيعٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلى قِتالِهِمْ والِاسْتِخْفافِ بِجَماعَتِهِمْ. وفي الآيَةِ تَرْبِيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَحْذَرُوا مِنَ التَّخالُفِ والتَّدابُرِ ويَعْلَمُوا أنْ الأُمَّةَ لا تَكُونُ ذاتَ بَأْسٍ عَلى أعْدائِها إلّا إذا كانَتْ مُتَّفِقَةَ الضَّمائِرِ يَرَوْنَ رَأْيًا مُتَماثِلًا في أُصُولِ مَصالِحِهِما المُشْتَرِكَةِ، وإنِ اخْتَلَفَتْ في خُصُوصِيّاتِها الَّتِي لا تَنْقُضُ أُصُولَ مَصالِحِها، ولا تُفَرِّقُ جامِعَتِها، وأنَّهُ لا يَكْفِي في الِاتِّحادِ تَوافُقُ الأقْوالِ ولا التَّوافُقُ عَلى الأغْراضِ إلّا أنْ تَكُونَ الضَّمائِرُ خالِصَةً مِنَ الإحَنِ والعَداواتِ.
والقُلُوبُ: العُقُولُ والأفْكارُ، وإطْلاقُ القَلْبِ عَلى العَقْلِ كَثِيرٌ في اللُّغَةِ.
وشَتّى: جَمْعُ شَتِيتٍ بِمَعْنى مُفارِقٍ بِوَزْنِ فَعْلى مَثَلَ قَتِيلٍ وقَتْلى، شُبِّهَتِ العُقُولُ المُخْتَلِفَةُ مَقاصِدُها بِالجَماعاتِ المُتَفَرِّقِينَ في جِهاتٍ في أنَّها لا تَتَلاقى في مَكانٍ واحِدٍ، والمَعْنى: أنَّهم لا يَتَّفِقُونَ عَلى حَرْبِ المُسْلِمِينَ.
وقَوْلُهُ (ذَلِكَ) إشارَةٌ إلى ما ذُكِرَ مِن أنَّ بَأْسَهم بَيْنَهم ومِن تَشَتُّتِ قُلُوبِهِمْ أيْ ذَلِكَ مُسَبَّبٌ عَلى عَدَمِ عَقْلِهِمْ إذِ انْساقُوا إلى إرْضاءِ خَواطِرِ الأحْقادِ والتَّشَفِّي بَيْنَ أفْرادِهِمْ وأهْمَلُوا النَّظَرَ في عَواقِبِ الأُمُورِ واتِّباعِ المَصالِحِ فَأضاعُوا مَصالِحَ قَوْمِهِمْ.
(p-١٠٧)ولِذَلِكَ أقْحَمَ لَفْظَ القَوْمِ في قَوْلِهِ بِأنَّهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ إيماءٌ إلى أنَّ ذَلِكَ مِن آثارِ ضَعْفِ عُقُولِهِمْ حَتّى صارَتْ عُقُولُهم كالمَعْدُومَةِ فالمُرادُ: أنَّهم لا يَعْقِلُونَ المَعْقِلَ الصَّحِيحَ.
وأُوثِرَ هُنا (لا يَعْقِلُونَ) . وفي الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها (لا يَفْقَهُونَ) لِأنَّ مَعْرِفَةَ مَآلِ التَّشَتُّتِ في الرَّأْيِ وصَرْفِ البَأْسِ إلى المُشارِكِ في المَصْلَحَةِ مِنَ الوَهْنِ والفَتِّ في ساعِدِ الأُمَّةِ مَعْرِفَةٌ (مَشْهُورَةٌ) بَيْنَ العُقَلاءِ قالَ أحَدُ بَنِي نَبْهانَ يُخاطِبُ قَوْمَهُ إذْ أزْمَعُوا عَلى حَرْبِ بَعْضِهِمْ:
؎وأنَّ الحَزامَةَ أنْ تَصْرِفُوا لِحَيٍ سِوانا صُدُورَ الأسَلْ.
فَإهْمالُهم سُلُوكَ ذَلِكَ جَعَلَهم سَواءً مَعَ مَن لا عُقُولَ لَهم فَكانَتْ هَذِهِ الحالَةُ شِقْوَةً لَهم حَصُلَتْ مِنها سَعادَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ أنَّ إسْنادَ الحُكْمِ إلى عُنْوانِ قَوْمٍ يُؤْذِنُ بِأنَّ ذَلِكَ الحُكْمَ كالجِبِلَّةِ المُقَوِّمَةِ لِلْقَوْمِيَّةِ وقَدْ ذَكَرْتُهُ آنِفًا.
{"ayah":"لَا یُقَـٰتِلُونَكُمۡ جَمِیعًا إِلَّا فِی قُرࣰى مُّحَصَّنَةٍ أَوۡ مِن وَرَاۤءِ جُدُرِۭۚ بَأۡسُهُم بَیۡنَهُمۡ شَدِیدࣱۚ تَحۡسَبُهُمۡ جَمِیعࣰا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّىٰۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمࣱ لَّا یَعۡقِلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق