الباحث القرآني

﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ ﴿هَذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أوّابٍ حَفِيظٍ﴾ ﴿مَن خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ وجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ ﴿ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الخُلُودِ﴾ ﴿لَهم ما يَشاءُونَ فِيها ولَدَيْنا مَزِيدٌ﴾ عَطَفَ ”وأُزْلِفَتْ“ عَلى ”يَقُولُ لِجَهَنَّمَ“ . فالتَّقْدِيرُ: يَوْمَ وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وهو رُجُوعٌ إلى مُقابِلِ حالَةِ الضّالِّينَ يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ، فَهَذِهِ الجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ في المَعْنى بِجُمْلَةِ ﴿وجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وشَهِيدٌ﴾ [ق: ٢١] ولَوِ اعْتُبِرَتْ مَعْطُوفَةً عَلَيْها لَصَحَّ ذَلِكَ إلّا أنَّ عَطْفَها عَلى جُمْلَةِ ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ﴾ [ق: ٣٠] غَنِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ ولا سِيَّما مَعَ طُولِ الكَلامِ. والإزْلافُ: التَّقْرِيبُ مُشْتَقٌّ مِنَ الزَّلَفِ بِالتَّحْرِيكِ وهو القُرْبَةُ، وقِياسُ فِعْلِهِ أنَّهُ كَفَرِحَ كَما دَلَّ عَلَيْهِ المَصْدَرُ ولَمْ يُرْوَ في كَلامِهِمْ، أيْ جُعِلَتِ الجَنَّةُ قَرِيبًا مِنَ المُتَّقِينَ، أيِ ادْنُوا مِنها. والجَنَّةُ مَوْجُودَةٌ مِن قَبْلِ وُرُودِ المُتَّقِينَ إلَيْها فَإزْلافُها قَدْ يَكُونُ بِحَشْرِهِمْ لِلْحِسابِ (p-٣١٩)بِمَقْرُبَةِ مِنها كَرامَةً لَهم عَنْ كُلْفَةِ المَسِيرِ إلَيْها، وقَدْ يَكُونُ عِبارَةً عَنْ تَيْسِيرِ وُصُولِهِمْ إلَيْها بِوَسائِلَ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ في عادَةِ أهْلِ الدُّنْيا. وقَوْلُهُ ”غَيْرَ بَعِيدٍ“ يُرَجِّحُ الِاحْتِمالَ الأوَّلَ، أيْ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنهم وإلّا صارَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِـ ”أُزْلِفَتْ“ كَما يُقالُ: عاجِلٌ غَيْرُ آجِلٍ، وقَوْلُهُ: ﴿وأضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وما هَدى﴾ [طه: ٧٩] والتَّأْسِيسُ أرْجَحُ مِنَ احْتِمالِ التَّأْكِيدِ. وانْتَصَبَ ”غَيْرَ بَعِيدٍ“ عَلى الظَّرْفِيَّةِ بِاعْتِبارِ أنَّهُ وصْفٌ لِظَرْفِ مَكانٍ مَحْذُوفٍ. والتَّقْدِيرُ: مَكانًا غَيْرَ بَعِيدٍ، أيْ عَنِ المُتَّقِينَ. وهَذا الظَّرْفُ حالٌ مِنَ الجَنَّةِ. وتَجْرِيدُ ”بَعِيدٍ“ مِن عَلامَةِ التَّأْنِيثِ: إمّا عَلى اعْتِبارِ ”غَيْرَ بَعِيدٍ“ وصْفًا لِـ ”(مَكانٍ)، وإمّا جَرْيٌ عَلى الِاسْتِعْمالِ الغالِبِ في وصْفِ (بَعِيدٍ وقَرِيبٍ) إذا أُرِيدَ البُعْدُ والقُرْبُ بِالجِهَةِ دُونَ النَّسَبِ أنْ يُجَرَّدا مِن عَلامَةِ التَّأْنِيثِ كَما قالَهُالفَرّاءُ أوْ لِأنَّ تَأْنِيثَ اسْمِ الجَنَّةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ كَما قالَ الزَّجّاجُ، وإمّا لِأنَّهُ جاءَ عَلى زِنَةِ المَصْدَرِ مِثْلَ الزَّئِيرِ والصَّلِيلِ، كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: ٥٦] . وجُمْلَةُ ﴿هَذا ما تُوعَدُونَ﴾ مُعْتَرِضَةٌ، فَلَكَ أنْ تَجْعَلَها وحْدَها مُعْتَرِضَةً وما بَعْدَها مُتَّصِلًا بِما قَبْلَها فَتَكُونُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ وهَما لِلْمُتَّقِينَ و“ لِكُلِّ أوّابٍ ”، وتُجْعَلْ“ لِكُلِّ أوّابٍ ”بَدَلًا مِن“ لِلْمُتَّقِينَ ”، وتَكْرِيرُ الحَرْفِ الَّذِي جُرَّ بِهِ المُبْدَلُ مِنهُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَن آمَنَ مِنهُمْ﴾ [سبإ: ٣٢] الآيَةَ وقَوْلُهُ: ﴿ولِأبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُّدُسُ﴾ [النساء: ١١] . واسْمُ الإشارَةِ المُذَكَّرُ مُراعًى فِيهِ مَجْمُوعُ ما هو مُشاهَدٌ عِنْدَهم مِنَ الخَيْراتِ. والأوّابُ: الكَثِيرُ الأوْبِ، أيِ الرُّجُوعِ إلى اللَّهِ، أيْ إلى امْتِثالِ أمْرِهِ ونَهْيِهِ. والحَفِيظُ: الكَثِيرُ الحِفْظِ لِوَصايا اللَّهِ وحُدُودِهِ. والمَعْنى: أنَّهُ مُحافِظٌ عَلى الطّاعَةِ فَإذا صَدَرَتْ مِنهُ فَلْتَةٌ أعْقَبَها بِالتَّوْبَةِ. و﴿مَن خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ﴾ بَدَلٌ مِن“ كُلِّ أوّابٍ ”. (p-٣٢٠)والخَشْيَةُ: الخَوْفُ. وأُطْلِقَتِ الخَشْيَةُ عَلى أثَرِها وهو الطّاعَةُ. والباءُ في بِالغَيْبِ بِمَعْنى (في) الظَّرْفِيَّةِ لِتَنْزِيلِ الحالِ مَنزِلَةَ المَكانِ، أيِ الحالَةُ الغائِبَةُ وهي حالَةُ عَدَمِ اطِّلاعِ أحَدٍ عَلَيْهِ، فَإنَّ الخَشْيَةَ في تِلْكَ الحالَةِ تَدُلُّ عَلى صِدْقِ الطّاعَةِ لِلَّهِ بِحَيْثُ لا يَرْجُو ثَناءَ أحَدٍ ولا عِقابَ أحَدٍ فَيَتَعَلَّقُ المَجْرُورُ بِالتّاءِ بِفِعْلِ خَشِيَ. ولَكَ أنْ تُبْقِيَ الباءَ عَلى بَعْضِ مَعانِيها الغالِبَةِ وهي المُلابَسَةُ ونَحْوُها ويَكُونُ الغَيْبُ مَصْدَرًا والمَجْرُورُ حالًا مِن ضَمِيرِ خَشِيَ. ومَعْنى ﴿وجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ أنَّهُ حَضَرَ يَوْمَ الحَشْرِ مُصاحِبًا قَلْبَهُ المُنِيبَ إلى اللَّهِ، أيْ ماتَ مَوْصُوفًا بِالإنابَةِ ولَمْ يُبْطِلْ عَمَلَهُ الصّالِحَ في آخِرِ عُمْرِهِ، وهَذا كَقَوْلِهِ حِكايَةً عَنْ إبْراهِيمَ ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٨] . وإيثارُ اسْمِهِ الرَّحْمَنِ في قَوْلِهِ: ﴿مَن خَشِيَ الرَّحْمَنَ﴾ دُونَ اسْمِ الجَلالَةِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ هَذا المُتَّقِيَ يَخْشى اللَّهَ وهو يَعْلَمُ أنَّهُ رَحْمَنُ، ولِقَصْدِ التَّعْرِيضِ بِالمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أنْكَرُوا اسْمَهُ الرَّحْمَنَ ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قالُوا وما الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان: ٦٠] . والمَعْنى عَلى الَّذِينَ خَشُوا: خَشِيَ صاحِبُ هَذا الِاسْمِ، فَأنْتُمْ لا حَظَّ لَكم في الجَنَّةِ لِأنَّكم تُنْكِرُونَ أنَّ اللَّهَ رَحْمَنُ بَلْهَ أنْ تَخْشَوْهُ. ووَصْفُ قَلْبٍ بِـ“ مُنِيبٍ ”عَلى طَرِيقَةِ المَجازِ العَقْلِيِّ لِأنَّ القَلْبَ سَبَبُ الإنابَةِ لِأنَّهُ الباعِثُ عَلَيْها. وجُمْلَةُ ﴿ادْخُلُوها بِسَلامٍ﴾ مِن تَمامِ مَقُولِ القَوْلِ المَحْذُوفِ. وهَذا الإذْنُ مِن كَمالِ إكْرامِ الضَّيْفِ أنَّهُ إنْ دُعِيَ إلى الوَلِيمَةِ أوْ جِيءَ بِهِ فَإنَّهُ إذا بَلَغَ المَنزِلَ قِيلَ لَهُ: ادْخُلْ بِسَلامٍ. والباءُ في بِسَلامٍ لِلْمُلابَسَةِ. والسَّلامُ: السَّلامَةُ مِن كُلِّ أذًى مِن تَعَبٍ أوْ نَصَبٍ، وهو دُعاءٌ. (p-٣٢١)ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ أيْضًا تَسْلِيمُ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمْ حِينَ دُخُولِهِمُ الجَنَّةَ مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨] . ومَحَلُّ هَذِهِ الجُمْلَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَها الِاسْتِئْنافُ البَيانِيُّ لِأنَّ ما قَبْلَها يُثِيرُ تَرَقُّبَ المُخاطَبِينَ لِلْإذْنِ بِإنْجازِ ما وُعِدُوا بِهِ. وجُمْلَةُ ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخُلُودِ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مِمّا يُقالُ لِلْمُتَّقِينَ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ: ﴿فادْخُلُوها خالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣]، والإشارَةُ إلى اليَوْمِ الَّذِي هم فِيهِ. وكانَ اسْمُ الإشارَةِ لِلْبَعِيدِ لِلتَّعْظِيمِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى اليَوْمِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ﴾ [ق: ٣٠] فَإنَّهُ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ ما يُلاقِيهِ أهْلُ جَهَنَّمَ وأهْلُ الجَنَّةِ أعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخُلُودِ﴾ تَرْهِيبًا وتَرْغِيبًا، وعَلى هَذا الوَجْهِ الثّانِي تَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً اعْتِراضًا مُوَجَّهًا إلى المُتَّقِينَ يَوْمَ القِيامَةِ أوْ إلى السّامِعِينَ في الدُّنْيا. وعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ فَإضافَةُ يَوْمٍ إلى الخُلُودِ بِاعْتِبارِ أنَّ أوَّلَ أيّامِ الخُلُودِ هي أيّامٌ ذاتُ مَقادِيرَ غَيْرِ مُعْتادَةٍ، أوْ بِاعْتِبارِ اسْتِعْمالِ يَوْمٍ بِمَعْنى مُطْلَقِ الزَّمانِ. وبَيْنَ كَلِمَةٍ“ ادْخُلُوها ”وكَلِمَةِ“ الخُلُودِ ”الجِناسُ المَقْلُوبُ النّاقِصُ، ثُمَّ إنَّ جُمْلَةَ ﴿لَهم ما يَشاءُونَ فِيها ولَدَيْنا مَزِيدٌ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مِن بَقِيَّةِ ما يُقالُ لِلْمُتَّقِينَ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ: ﴿هَذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أوّابٍ حَفِيظٍ﴾ فَيَكُونُ ضَمِيرُ الغَيْبَةِ التِفاتًا وأصْلُهُ: لَكم ما تَشاءُونَ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مِمّا خُوطِبَ بِهِ الفَرِيقانِ في الدُّنْيا وعَلى الِاحْتِمالَيْنِ فَهي مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا. و“ ولَدَيْنا مَزِيدٌ "، أيْ زِيادَةٌ عَلى ما يَشاءُونَ مِمّا لَمْ يَخْطُرُ بِبالِهِمْ، وذَلِكَ زِيادَةٌ في كَرامَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ ووَرَدَتْ آثارٌ مُتَفاوِتَةُ القُوَّةِ أنَّ مِنَ المَزِيدِ مُفاجَأتَهم بِخَيْراتٍ، وفِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّ المُفاجَأةَ بِالإنْعامِ ضَرْبٌ مِنَ التَّلَطُّفِ والإكْرامِ، وأيْضًا فَإنَّ الإنْعامَ يَجِيئُهم في صُوَرٍ مُعْجَبَةٍ. والقَوْلُ في مَزِيدٍ هُنا كالقَوْلِ في نَظِيرِهِ السّابِقِ آنِفًا. وجاءَ تَرْتِيبُ الآياتِ في مُنْتَهى الدِّقَّةِ فَبَدَأتْ بِذِكْرِ إكْرامِهِمْ بِقَوْلِهِ ﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾، ثُمَّ بِذِكْرِ أنَّ الجَنَّةَ جَزاؤُهُمُ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ فَهي حَقٌّ لَهم، ثُمَّ أوْمَأتْ إلى أنَّ ذَلِكَ لِأجْلِ أعْمالِهِمْ بِقَوْلِهِ ﴿لِكُلِّ أوّابٍ حَفِيظٍ مَن خَشِيَ الرَّحْمَنَ﴾ إلَخْ (p-٣٢٢)ثُمَّ ذُكِرَتِ المُبالَغَةُ في إكْرامِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ ﴿ادْخُلُوها بِسَلامٍ﴾، ثُمَّ طَمْأنَهم بِأنَّ ذَلِكَ نَعِيمٌ خالِدٌ، وزِيدَ في إكْرامِهِمْ بِأنَّ لَهم ما يَشاءُونَ ما لَمْ يَرَوْهُ حِينَ الدُّخُولِ، وبِأنَّ اللَّهَ وعَدَهم بِالمَزِيدِ مِن لَدُنْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب