الباحث القرآني
﴿لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وأحْسَنُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ .
(p-٣٢)هَذِهِ الآيَةُ بَيانٌ لِما عَرَضَ مِن إجْمالٍ في فَهْمِ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها، إذْ ظَنَّ بَعْضُ المُسْلِمِينَ أنَّ شُرْبَ الخَمْرِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ قَدْ تَلَبَّسَ بِإثْمٍ لِأنَّ اللَّهَ وصَفَ الخَمْرَ وما ذُكِرَ مَعَها بِأنَّها رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ. فَقَدْ كانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ما في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ، والبَراءِ ابْنِ عازِبٍ، وابْنِ عَبّاسٍ، أنَّهُ لَمّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ قالَ ناسٌ مِن أصْحابِ النَّبِيءِ ﷺ: كَيْفَ بِأصْحابِنا الَّذِينَ ماتُوا وهم يَشْرَبُونَ الخَمْرَ أوْ قالَ وهي في بُطُونِهِمْ وأكَلُوا المَيْسِرَ. فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا﴾ الآيَةَ. وفي تَفْسِيرِ الفَخْرِ رَوى أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ أنَّهُ لَمّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ قالَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإخْوانِنا الَّذِينَ ماتُوا وقَدْ شَرِبُوا الخَمْرَ وفَعَلُوا القِمارَ، وكَيْفَ بِالغائِبِينَ عَنّا في البُلْدانِ لا يَشْعُرُونَ أنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الخَمْرَ وهم يَطْعَمُونَها. فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآياتِ.
وقَدْ يَلُوحُ بِبادِئِ الرَّأْيِ أنَّ حالَ الَّذِينَ تُوُفُّوا قَبْلَ تَحْرِيمِ الخَمْرِ لَيْسَ حَقِيقًا بِأنْ يَسْألَ عَنْهُ الصَّحابَةُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِلْعِلْمِ بِأنَّ اللَّهَ لا يُؤاخِذُ أحَدًا بِعَمَلٍ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا مِن قَبْلِ فِعْلِهِ، وأنَّهُ لا يُؤاخِذُ أحَدًا عَلى ارْتِكابِهِ إلّا بَعْدَ أنْ يَعْلَمَ بِالتَّحْرِيمِ، فالجَوابُ أنَّ أصْحابَ النَّبِيءِ ﷺ كانُوا شَدِيدِي الحَذَرِ مِمّا يُنْقِصُ الثَّوابَ حَرِيصِينَ عَلى كَمالِ الِاسْتِقامَةِ فَلَمّا نَزَلَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ أنَّهُما رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ خَشَوْا أنْ يَكُونَ لِلشَّيْطانِ حَظٌّ في الَّذِينَ شَرِبُوا الخَمْرَ وأكَلُوا اللَّحْمَ بِالمَيْسِرِ وتُوُفُّوا قَبْلَ الإقْلاعِ عَنْ ذَلِكَ أوْ ماتُوا والخَمْرُ في بُطُونِهِمْ مُخالِطَةٌ أجْسادَهم، فَلَمْ يَتَمالَكُوا أنْ سَألُوا النَّبِيءَ ﷺ عَنْ حالِهِمْ لِشِدَّةِ إشْفاقِهِمْ عَلى إخْوانِهِمْ. كَما سَألَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى (﴿لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: ٩٥] ﴿والمُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ﴾ [النساء: ٩٥])، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ وأنا أعْمى لا أُبْصِرُ فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ [النساء: ٩٥] . وكَذَلِكَ ما وقَعَ لَمّا غُيِّرَتِ القِبْلَةُ مِنَ اسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ إلى اسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ قالَ ناسٌ: فَكَيْفَ بِإخْوانِنا الَّذِينَ ماتُوا وهم يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى (p-٣٣)﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣]، أيْ صَلاتَكم فَكانَ القَصْدُ مِنَ السُّؤالِ التَّثَبُّتَ في التَّفَقُّهِ وأنْ لا يَتَجاوَزُوا التَّلَقِّي مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في أُمُورِ دِينِهِمْ.
ونَفْيُ الجُناحِ نَفْيُ الإثْمِ والعِصْيانِ. و(ما) مَوْصُولَةٌ. وطَعِمُوا صِلَةٌ. وعائِدُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ. ولَيْسَتْ (ما) مَصْدَرِيَّةً لِأنَّ المَقْصُودَ العَفْوُ عَنْ شَيْءٍ طَعِمُوهُ مَعْلُومٍ مِنَ السُّؤالِ، فَتَعْلِيقُ ظَرْفِيَّةِ ما طَعِمُوا بِالجُناحِ هو عَلى تَقْدِيرِ: في طَعْمِ ما طَعِمُوهُ.
وأصْلُ مَعْنى طَعِمُوا أنَّهُ بِمَعْنى أكَلُوا، قالَ تَعالى ﴿فَإذا طَعِمْتُمْ فانْتَشِرُوا﴾ [الأحزاب: ٥٣] . وحَقِيقَةُ الطَّعْمِ الأكْلُ، والشَّيْءُ المَأْكُولُ طَعامٌ. ولَيْسَ الشَّرابُ مِنَ الطَّعامِ بَلْ هو غَيْرُهُ؛ ولِذَلِكَ عُطِفَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ [البقرة: ٢٥٩] . ويَدُلُّ لِذَلِكَ اسْتِثْناءُ المَأْكُولاتِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلّا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَمًا مَسْفُوحًا أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ أوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: ١٤٥] . ويُقالُ: طَعِمَ بِمَعْنى أذاقَ ومَصْدَرُهُ الطُّعْمُ بِضَمِّ الطّاءِ اعْتَبَرُوهُ مُشْتَقًّا مِنَ الطَّعْمِ الَّذِي هو حاسَّةُ الذَّوْقِ. وتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ومَن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي﴾ [البقرة: ٢٤٩]، أيْ ومَن لَمْ يَذُقْهُ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فَمَن شَرِبَ مِنهُ. ويُقالُ: وجَدْتُ في الماءِ طَعْمَ التُّرابِ. ويُقالُ تَغَيَّرَ طَعْمُ الماءِ، أيْ أسِنَ. فَمِن فَصاحَةِ القُرْآنِ إيرادُ فِعْلِ طَعِمُوا هُنا لِأنَّ المُرادَ نَفْيُ التَّبِعَةِ عَمَّنْ شَرِبُوا الخَمْرَ وأكَلُوا لَحْمَ المَيْسِرِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ تَحْرِيمِهِما. واسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ في مَعْنَيَيْهِ، أيْ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ، أوْ هو مِن أُسْلُوبِ التَّغْلِيبِ.
وإذْ قَدْ عَبَّرَ بِصِيغَةِ المُضِيِّ في قَوْلِهِ طَعِمُوا تَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ إذا ظَرْفًا لِلْماضِي، وذَلِكَ عَلى أصَحِّ القَوْلَيْنِ لِلنُّحاةِ، وإنْ كانَ المَشْهُورُ أنَّ (إذا) ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، والحَقُّ أنَّ (إذا) تَقَعُ ظَرْفًا لِلْماضِي. وهو الَّذِي اخْتارَهُ ابْنُ مالِكٍ ودَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ هِشامٍ في مُغْنِي اللَّبِيبِ. وشاهِدُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولا عَلى الَّذِينَ (p-٣٤)إذا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ [التوبة: ٩٢]، وقَوْلُهُ ﴿وإذا رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْها﴾ [الجمعة: ١١]، وآياتٌ كَثِيرَةٌ. فالمَعْنى لا جُناحَ عَلَيْهِمْ إذْ كانُوا آمَنُوا واتَّقَوْا، ويُئَوَّلُ مَعْنى الكَلامِ: لَيْسَ عَلَيْهِمْ جُناحٌ لِأنَّهم آمَنُوا واتَّقَوْا فِيما كانَ مُحَرَّمًا يَوْمَئِذٍ وما تَناوَلُوا الخَمْرَ وأكَلُوا المَيْسِرَ إلّا قَبْلَ تَحْرِيمِهِما.
هَذا تَفْسِيرُ الآيَةِ الجارِي عَلى ما اعْتَمَدَهُ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ جارِيًا عَلى ما ورَدَ في مَن سَبَّبَ نُزُولَها في الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن جَعَلَ مَعْنى الآيَةِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِآيَةِ تَحْرِيمِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ. وأحْسَبُ أنَّهم لَمْ يُلاحِظُوا ما رُوِيَ في سَبَبِ نُزُولِها لِأنَّهم رَأوْا أنَّ سَبَبَ نُزُولِها لا يُقْصِرُها عَلى قَضِيَّةِ السَّبَبِ بَلْ يَعْمَلُ بِعُمُومِ لَفْظِها عَلى ما هو الحَقُّ في أنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لا يُخَصَّصُ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَقالُوا: رَفَعَ اللَّهُ الجُناحَ عَنِ المُؤْمِنِينَ في أيِّ شَيْءٍ طَعِمُوهُ مِن مُسْتَلَذّاتِ المَطاعِمِ وحَلالِها إذا ما اتَّقَوْا ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أيْ لَيْسَ مِنَ البِرِّ حِرْمانُ النَّفْسِ بِتَحْرِيمِ الطَّيِّباتِ بَلِ البِرُّ هو التَّقْوى، فَيَكُونُ مِن قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَيْسَ البِرُّ بِأنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِها ولَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقى﴾ [البقرة: ١٨٩] . وفُسِّرَ بِهِ في الكَشّافِ مُبْتَدِئًا بِهِ.
وعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ مَعْنى الآيَةِ مُتَّصِلًا بِآيَةِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٧]، فَتَكُونُ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا لِمُناسَبَةِ ما تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أنْ يُحَرِّمُوا عَلى أنْفُسِهِمْ طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَهم بِنَذْرٍ أوْ يَمِينٍ عَلى الِامْتِناعِ.
وادَّعى بَعْضُهم أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في القَوْمِ الَّذِينَ حَرَّمُوا عَلى أنْفُسِهِمُ اللُّحُومَ وسَلَكُوا طَرِيقَ التَّرَهُّبِ؛ ومِنهم عُثْمانُ بْنُ مَظْعُونٍ، ولَمْ يَصِحَّ أنَّ هَذا سَبَبُ نُزُولِها. وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ يَكُونُ طَعِمُوا مُسْتَعْمَلًا في المَعْنى المَشْهُورِ وهو الأكْلُ، وتَكُونُ كَلِمَةُ إذا مُسْتَعْمَلَةً في المُسْتَقْبَلِ، وفِعْلُ (p-٣٥)طَعِمُوا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ المُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الماضِي بِقَرِينَةِ كَلِمَةِ إذا، كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ثُمَّ إذا دَعاكم دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إذا أنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [الروم: ٢٥] .
ويُعَكِّرُ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ أنَّ الَّذِينَ حَرَّمُوا الطَّيِّباتِ عَلى أنْفُسِهِمْ لَمْ يَنْحَصِرْ تَحْرِيمُهم في المَطْعُومِ والشَّرابِ بَلْ يَشْمَلُ اللِّباسَ والنِّساءَ، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يُقالَ: إنَّ الكَلامَ جَرى عَلى مُراعاةِ الغالِبِ في التَّحْرِيمِ.
وقالَ الفَخْرُ: زَعَمَ بَعْضُ الجُهّالِ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا جَعَلَ الخَمْرَ مُحَرَّمَةً عِنْدَما تَكُونُ مُوقِعَةً لِلْعَداوَةِ والبَغْضاءِ وصادَّةً عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لا جُناحَ عَلى مَن طَعِمَها إذا لَمْ يَحْصُلُ مَعَهُ شَيْءٌ مِن تِلْكَ المَفاسِدِ بَلْ حَصَلَ مَعَهُ الطّاعَةُ والتَّقْوى والإحْسانُ إلى الخَلْقِ، ولا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلى أحْوالِ مَن شَرِبَ الخَمْرَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ ذَلِكَ لَقالَ ما كانَ جُناحٌ عَلى الَّذِينَ طَعِمُوا، كَما ذَكَرَ في آيَةِ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ، فَقالَ وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكم ولا شَكَّ أنَّ (إذا) لِلْمُسْتَقْبَلِ لا لِلْماضِي. قالَ الفَخْرُ: وهَذا القَوْلُ مَرْدُودٌ بِإجْماعِ كُلِّ الأُمَّةِ. وأمّا قَوْلُهم (إذا) لِلْمُسْتَقْبَلِ، فَجَوابُهُ أنَّ الحَلَّ لِلْمُسْتَقْبَلِ عَنْ وقْتِ نُزُولِ الآيَةِ في حَقِّ الغائِبِينَ.
والتَّقْوى امْتِثالُ المَأْمُوراتِ واجْتِنابُ المَنهِيّاتِ، ولِذَلِكَ فَعَطْفُ وعَمِلُوا الصّالِحاتِ عَلى اتَّقَوْا مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ، لِلِاهْتِمامِ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿مَن كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكائِلَ﴾ [البقرة: ٩٨]، ولِأنَّ اجْتِنابَ المَنهِيّاتِ أسْبَقُ تَبادُرًا إلى الأفْهامِ في لَفْظِ التَّقْوى لِأنَّها مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّوَقِّي والكَفِّ.
وأمّا عَطْفُ وآمَنُوا عَلى اتَّقَوْا فَهو اعْتِراضٌ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ الإيمانَ هو أصْلُ التَّقْوى، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعامٌ﴾ [البلد: ١٣] إلى قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: ١٧] . والمَقْصُودُ مِن هَذا الظَّرْفِ الَّذِي هو كالشَّرْطِ مُجَرَّدُ التَّنْوِيهِ بِالتَّقْوى والإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ، ولَيْسَ المَقْصُودُ أنَّ نَفْيَ (p-٣٦)الجُناحِ عَنْهم مُقَيَّدٌ بِأنْ يَتَّقُوا ويُؤْمِنُوا ويَعْمَلُوا الصّالِحاتِ، لِلْعِلْمِ بِأنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ أثَرًا عَلى فِعْلِهِ أوْ عَلى تَرْكِهِ، وإذْ قَدْ كانُوا مُؤْمِنِينَ مِن قَبْلُ، وكانَ الإيمانُ عَقْدًا عَقْلِيًّا لا يَقْبَلُ التَّجَدُّدَ تَعَيَّنَ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ وآمَنُوا مَعْنى ودامُوا عَلى الإيمانِ ولَمْ يُنْقِضُوهُ بِالكُفْرِ.
وجُمْلَةُ ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وآمَنُوا﴾ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِجُمْلَةِ ﴿إذا ما اتَّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ وقُرِنَ بِحَرْفِ (ثُمَّ) الدّالِّ عَلى التَّراخِي الرُّتْبِيِّ لِيَكُونَ إيماءً إلى الِازْدِيادِ في التَّقْوى وآثارِ الإيمانِ، كالتَّأْكِيدِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿كَلّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلّا سَيَعْلَمُونَ﴾ [النبإ: ٤] ولِذَلِكَ لَمْ يُكَرِّرْ قَوْلَهُ ﴿وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ لِأنَّ عَمَلَ الصّالِحاتِ مَشْمُولٌ لِلتَّقْوى.
وأمّا جُمْلَةُ ﴿ثُمَّ اتَّقَوْا وأحْسَنُوا﴾ فَتُفِيدُ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِجُمْلَةِ ثُمَّ اتَّقَوْا. وتُفِيدُ الِارْتِقاءَ في التَّقْوى بِدَلالَةِ حَرْفِ (ثُمَّ) عَلى التَّراخِي الرُّتْبِيِّ. مَعَ زِيادَةِ صِفَةِ الإحْسانِ. وقَدْ فَسَّرَ النَّبِيءُ ﷺ الإحْسانَ بِقَوْلِهِ «أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ» . وهَذا يَتَضَمَّنُ الإيمانَ لا مَحالَةَ فَلِذَلِكَ اسْتُغْنِيَ عَنْ إعادَةِ وآمَنُوا هُنا. ويَشْمَلُ فِعْلُ وأحْسَنُوا الإحْسانَ إلى المُسْلِمِينَ، وهو زائِدٌ عَلى التَّقْوى، لِأنَّ مِنهُ إحْسانًا غَيْرَ واجِبٍ وهو مِمّا يَجْلِبُ مَرْضاةَ اللَّهِ، ولِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ ﴿واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ .
وقَدْ ذَهَبَ المُفَسِّرُونَ في تَأْوِيلِ التَّكْرِيرِ الواقِعِ في هَذِهِ الآيَةِ طَرائِقَ مُخْتَلِفَةً لا دَلائِلَ عَلَيْها في نَظْمِ الآيَةِ، ومَرْجِعُها جَعْلُ التَّكْرِيرِ في قَوْلِهِ ثُمَّ اتَّقَوْا عَلى مَعْنى تَغايُرِ التَّقْوى والإيمانِ بِاخْتِلافِ الزَّمانِ أوْ بِاخْتِلافِ الأحْوالِ.
وذَهَبَ بَعْضُهم في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إذا ما اتَّقَوْا﴾ وما عُطِفَ عَلَيْهِ إلى وُجُوهٍ نَشَأتْ عَنْ حَمْلِهِ عَلى مَعْنى التَّقْيِيدِ لِنَفْيِ الجُناحِ بِحُصُولِ المَشْرُوطِ. وفي جَلْبِها طُولٌ.
وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ بَعْضًا مِنَ السَّلَفِ تَأوَّلَ هَذِهِ الآيَةَ عَلى مَعْنى الرُّخْصَةِ في (p-٣٧)شُرْبِ الخَمْرِ لِمَنِ اتَّقى اللَّهَ فِيما عَدَّ، ولَمْ تَكُنِ الخَمْرُ وسِيلَةً لَهُ إلى المُحَرَّماتِ، ولا إلى إضْرارِ النّاسِ. ويُنْسَبُ هَذا إلى قُدامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، كَما تَقَدَّمَ في تَفْسِيرِ آيَةِ تَحْرِيمِ الخَمْرِ: وأنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ وعَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ لَمْ يَقْبَلاهُ مِنهُ.
{"ayah":"لَیۡسَ عَلَى ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جُنَاحࣱ فِیمَا طَعِمُوۤا۟ إِذَا مَا ٱتَّقَوا۟ وَّءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ ثُمَّ ٱتَّقَوا۟ وَّءَامَنُوا۟ ثُمَّ ٱتَّقَوا۟ وَّأَحۡسَنُوا۟ۚ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق