الباحث القرآني
﴿وإنْ تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا يُؤْتِكم أُجُورَكم ولا يَسْألْكم أمْوالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٦] ﴿إنْ يَسْألْكُمُوها فَيُحْفِكم تَبْخَلُوا ويُخْرِجْ أضْغانَكُمْ﴾
الأشْبَهُ أنَّ هَذا عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿فَلا تَهِنُوا وتَدْعُوا إلى السَّلْمِ﴾ [محمد: ٣٥] تَذْكِيرًا بِأنَّ امْتِثالَ هَذا النَّهْيِ هو التَّقْوى المَحْمُودَةُ، ولِأنَّ الدُّعاءَ إلى السَّلْمِ قَدْ يَكُونُ الباعِثُ عَلَيْهِ حُبَّ إبْقاءِ المالِ الَّذِي يُنْفَقُ في الغَزْوِ، فَذُكِّرُوا هُنا بِالإيمانِ والتَّقْوى؛ لِيَخْلَعُوا عَنْ أنْفُسِهِمُ الوَهَنَ لِأنَّهم نُهُوا عَنْهُ وعَنِ الدُّعاءِ إلى السَّلْمِ فَكانَ الكَفُّ عَنْ ذَلِكَ مِنَ التَّقْوى، وعُطِفَ عَلَيْهِ أنَّ اللَّهَ لا يَسْألُهم أمْوالَهم إلّا لِفائِدَتِهِمْ وإصْلاحِ أُمُورِهِمْ، ولِذَلِكَ وقَعَ بَعْدَهُ قَوْلُهُ ﴿ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [محمد: ٣٨] إلى قَوْلِهِ ”عَنْ نَفْسِهِ“، عَلى أنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الجُمْلَةِ تَعْلِيلُ النَّهْيِ المُتَقَدِّمِ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ﴾ [محمد: ٣٦] مُشِيرًا إلى أنَّ الحَياةَ الدُّنْيا إذا عُمِّرَتْ بِالإيمانِ والتَّقْوى كانَتْ سَبَبًا في الخَيْرِ الدّائِمِ.
(p-١٣٤)والأُجُورُ هُنا: أُجُورُ الآخِرَةِ وهي ثَوابُ الإيمانِ والتَّقْوى.
فالخِطابُ لِلْمُسْلِمِينَ المُخاطَبِينَ بِقَوْلِهِ ”فَلا تَهِنُوا“ الآيَةَ.
والمَقْصُودُ مِنَ الجُمْلَةِ قَوْلُهُ ”وتَتَّقُوا“ وأمّا ذِكْرُ ”تُؤْمِنُوا“ فَلِلِاهْتِمامِ بِأمْرِ الإيمانِ. ووُقُوعُ ”تُؤْمِنُوا“ في حَيِّزِ الشَّرْطِ مَعَ كَوْنِ إيمانِهِمْ حاصِلًا يُعَيِّنُ صَرْفَ مَعْنى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فِيهِ إلى إرادَةِ الدَّوامِ عَلى الإيمانِ إذْ لا تَتَقَوَّمُ حَقِيقَةُ التَّقْوى إلّا مَعَ سَبْقِ الإيمانِ كَما قالَ - تَعالى - ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعامٌ﴾ [البلد: ١٣] إلى قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: ١٧] الآيَةَ.
والظّاهِرُ أنَّ جُمْلَةَ ﴿يُؤْتِكم أُجُورَكُمْ﴾ [محمد: ٣٦] إدْماجٌ، وأنَّ المَقْصُودَ مِن جَوابِ الشَّرْطِ هو جُمْلَةُ ﴿ولا يَسْألْكم أمْوالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٦] .
وعَطْفُ ﴿ولا يَسْألْكم أمْوالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٦] لِمُناسَبَةِ قَوْلِهِ ﴿يُؤْتِكم أُجُورَكُمْ﴾ [محمد: ٣٦]، أيْ أنَّ اللَّهَ يَتَفَضَّلُ عَلَيْكم بِالخَيْراتِ ولا يَحْتاجُ إلى أمْوالِكم، وكانَتْ هَذِهِ المُناسَباتُ أحْسَنَ رَوابِطَ لِنَظْمِ المَقْصُودِ مِن هَذِهِ المَواعِظِ لِأنَّ البُخْلَ بِالمالِ مِن بَواعِثِ الدُّعاءِ إلى السَّلْمِ كَما عَلِمْتَ آنِفًا.
ومَعْنى الآيَةِ: وإنْ تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا بِاتِّباعِ ما نُهِيتُمْ عَنْهُ يَرْضَ اللَّهُ مِنكم بِذَلِكَ ويَكْتَفِ بِهِ ولا يَسْألْكم زِيادَةً عَلَيْهِ مِن أمْوالِكم. فَيُعْلَمُ أنَّ ما يَعْنِيهِ النَّبِيءُ ﷺ عَلَيْهِمْ مِنَ الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ إنَّما هو بِقَدْرِ طاقَتِهِمْ.
وهَذِهِ الآيَةُ في الإنْفاقِ نَظِيرُها قَوْلُهُ تَعالى لِجَماعَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ في شَأْنِ الخُرُوجِ إلى الجِهادِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكم إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ أرَضِيتُمْ بِالحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة: ٣٨] في سُورَةِ ”بَراءَةٌ“ .
فَقَوْلُهُ ﴿ولا يَسْألْكم أمْوالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٦] يُفِيدُ بِعُمُومِهِ وسِياقِهِ مَعْنى لا يَسْألُكم جَمِيعَ أمْوالِكم، أيْ إنَّما يَسْألُكم ما لا يُجْحِفُ بِكم، فَإضافَةُ أمْوالٍ وهو جَمْعٌ إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ تُفِيدُ العُمُومَ، فالمَنفِيُّ سُؤالُ إنْفاقِ جَمِيعِ الأمْوالِ، فالكَلامُ مِن نَفْيِ العُمُومِ لا مِن عُمُومِ النَّفْيِ بِقَرِينَةِ السِّياقِ، وما يَأْتِي بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ ﴿ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [محمد: ٣٨] الآيَةَ.
(p-١٣٥)ويَجُوزُ أنْ يُفِيدَ أيْضًا مَعْنى: أنَّهُ لا يُطالِبُكم بِإعْطاءِ مالٍ لِذاتِهِ، فَإنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكم، وإنَّما يَأْمُرُكم بِإنْفاقِ المالِ لِصالِحِكم كَما قالَ ﴿ومَن يَبْخَلْ فَإنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ واللَّهُ الغَنِيُّ وأنْتُمُ الفُقَراءُ﴾ [محمد: ٣٨] .
وهَذا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [محمد: ٣٨] إلى قَوْلِهِ ﴿فَإنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ [محمد: ٣٨] أيْ ما يَكُونُ طَلَبُ بَذْلِ المالِ إلّا لِمَصْلَحَةِ الأُمَّةِ، وأيَّةُ مَصْلَحَةٍ أعْظَمُ مِن دَمْغِها العَدُوَّ عَنْ نَفْسِها لِئَلّا يُفْسِدَ فِيها ويَسْتَعْبِدَها.
وأمّا تَفْسِيرُ سُؤالِ الأمْوالِ المَنفِيِّ بِطَلَبِ زَكاةِ الأمْوالِ فَصَرْفٌ لِلْآيَةِ عَنْ مَهْيَعِها فَإنَّ الزَّكاةَ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ لِأنَّ الزَّكاةَ فُرِضَتْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الهِجْرَةِ عَلى الأصَحِّ.
وجُمْلَةُ ”إنْ يَسْألْكُمُوها“ إلَخْ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ سُؤالِهِ إيّاهم أمْوالَهم، أيْ لِأنَّهُ إنْ سَألَكم إعْطاءَ جَمِيعَ أمْوالِكم وقَدْ عَلِمَ أنَّ فِيكم مَن يَسْمَحُ بِالمالِ لا تَبْخَلُوا بِالبَذْلِ وتَجْعَلُوا تَكْلِيفَكم بِذَلِكَ سَبَبًا لِإظْهارِ ضِغْنَكم عَلى الَّذِينَ لا يُعْطُونَ فَيَكْثُرُ الِارْتِدادُ والنِّفاقُ وذَلِكَ يُخالِفُ مُرادَ اللَّهِ مِن تَزْكِيَةِ نُفُوسِ الدّاخِلِينَ في الإيمانِ.
وهَذا مُراعاةٌ لِحالِ كَثِيرٍ يَوْمَئِذٍ بِالمَدِينَةِ كانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالإسْلامِ وكانُوا قَدْ بَذَلُوا مِن أمْوالِهِمْ لِلْمُهاجِرِينَ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأنْ لَمْ يَسْألْهم زِيادَةً عَلى ذَلِكَ، وكانَ بَيْنَهم كَثِيرٌ مِن أهْلِ النِّفاقِ يَتَرَصَّدُونَ الفُرَصَ لِفِتْنَتِهِمْ، قالَ تَعالى ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَن عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتّى يَنْفَضُّوا﴾ [المنافقون: ٧] . وهَذا يُشِيرُ إلَيْهِ عَطْفُ قَوْلِهِ ﴿ويُخْرِجْ أضْغانَكُمْ﴾ أيْ تَحْدُثُ فِيكم أضْغانٌ فَيَكُونُ سُؤالُهُ أمْوالَكم سَبَبًا في ظُهُورِها فَكَأنَّهُ أظْهَرَها. وهَذِهِ الآيَةُ أصْلٌ في سَدِّ ذَرِيعَةِ الفَسادِ.
والإحْفاءُ: الإكْثارُ وبُلُوغُ النِّهايَةِ في الفِعْلِ، يُقالُ: أحْفاهُ في المَسْألَةِ إذا لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنَ الإلْحاحِ. وعَنْعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ: الإحْفاءُ أنْ تَأْخُذَ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدَيْكَ، وهو تَفْسِيرٌ غَرِيبٌ. وعُبِّرَ بِهِ هُنا عَنِ الجَزْمِ في الطَّلَبِ وهو الإيجابُ، أيْ فَيُوجِبُ عَلَيْكم بَذْلَ المالِ ويَجْعَلُ عَلى مَنعِهِ عُقُوبَةً.
والبُخْلُ: مَنعُ بَذْلِ المالِ.
(p-١٣٦)والضِّغْنُ: العَداوَةُ، وتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿أنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أضْغانَهُمْ﴾ [محمد: ٢٩] .
والمَعْنى: يَمْنَعُوا المالَ ويُظْهِرُوا العِصْيانَ والكَراهِيَةَ، فَلُطْفُ اللَّهِ بِالكَثِيرِ مِنهُمُ اقْتَضى أنْ لا يَسْألَهم مالًا عَلى وجْهِ الإلْزامِ ثُمَّ زالَ ذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا لَمّا تَمَكَّنَ الإيمانُ مِن قُلُوبِهِمْ فَأوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الإنْفاقَ في الجِهادِ.
والضَّمِيرُ المُسْتَتِرُ في ”ويُخْرِجْ“ عائِدٌ إلى اسْمِ الجَلالَةِ، وجُوِّزَ أنْ يَعُودَ إلى البُخْلِ المَأْخُوذِ مِن قَوْلِهِ ”تَبْخَلُوا“ أيْ مِن قَبِيلِ ﴿اعْدِلُوا هو أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [المائدة: ٨] .
وقَرَأ الجُمْهُورُ ”يُخْرِجْ“ بِياءٍ تَحْتِيَّةٍ في أوَّلِهِ. وقَرَأهُ يَعْقُوبُ بِنُونٍ في أوَّلِهِ.
{"ayah":"إِن یَسۡـَٔلۡكُمُوهَا فَیُحۡفِكُمۡ تَبۡخَلُوا۟ وَیُخۡرِجۡ أَضۡغَـٰنَكُمۡ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق