الباحث القرآني
﴿ولَقَدْ مَكَّنّاهم فِيما إنْ مَكَّنّاكم فِيهِ وجَعَلْنا لَهم سَمْعًا وأبْصارًا وأفْئِدَةً فَما أغْنى عَنْهم سَمْعُهم ولا أبْصارُهم ولا أفْئِدَتُهم مِن شَيْءٍ إذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
هَذا اسْتِخْلاصٌ لِمَوْعِظَةِ المُشْرِكِينَ بِمَثَلِ عادٍ، لِيَعْلَمُوا أنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلى إهْلاكِ عادٍ قادِرٌ عَلى إهْلاكِ مَن هم دُونَهم في القُوَّةِ والعَدَدِ، ولِيَعْلَمُوا أنَّ القَوْمَ كانُوا مِثْلَهم مُسْتَجْمِعِينَ قُوى العَقْلِ والحِسِّ وأنَّهم أهْمَلُوا الِانْتِفاعَ بِقُواهم فَجَحَدُوا بِآياتِ اللَّهِ (p-٥٢)واسْتَهْزَءُوا بِها وبِوَعِيدِهِ فَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، وقُرَيْشٌ يَعْلَمُونَ أنَّ حالَهم مِثْلُ الحالِ المَحْكِيَّةِ عَنْ أُولَئِكَ فَلْيَتَهَيَّئُوا لِما سَيَحِلُّ بِهِمْ.
ولِإفادَةِ هَذا الِاسْتِخْلاصِ غُيِّرَ أُسْلُوبُ الكَلامِ إلى خِطابِ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ، فالجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ مِن واوِ الجَماعَةِ في قالُوا أجِئْتَنا والخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْجِيبِ مِن عَدَمِ انْتِفاعِهِمْ بِمَواهِبِ عُقُولِهِمْ.
وتَأْكِيدُ هَذا الخَبَرِ بِلامِ القَسَمِ مَعَ أنَّ مُفادَهُ لا شَكَّ فِيهِ مَصْرُوفٌ إلى المُبالَغَةِ في التَّعْجِيبِ.
والتَّمْكِينُ: إعْطاءُ المَكِنَةِ بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ الكافِ وهي القُدْرَةُ والقُوَّةُ. يُقالُ: مَكَّنَ مِن كَذا وتَمَكَّنَ مِنهُ، إذا قَدَرَ عَلَيْهِ. ويُقالُ: مَكَّنَهُ في كَذا، إذا جَعَلَ لَهُ القُدْرَةَ عَلى مَدْخُولِ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ فَيُفَسَّرُ بِما يَلِيقُ بِذَلِكَ الظَّرْفِ قالَ تَعالى مَكَّنّاهم في الأرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكم في سُورَةِ الأنْعامِ.
فالمَعْنى: جَعَلْنا لَهُمُ القُدْرَةَ في الَّذِي لَمْ نُمَكِّنْكم فِيهِ، أيْ مِن كُلِّ ما يُمَكَّنُ فِيهِ الأقْوامُ والأُمَمُ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا مِن قَبْلِهِمْ مِن قَرْنٍ مَكَّنّاهم في الأرْضِ﴾ [الأنعام: ٦] في أوَّلِ الأنْعامِ فَضُمَّ إلَيْهِ ما هُنا.
و(ما) مِن قَوْلِهِ فِيما مَوْصُولَةٌ. و(إنْ) نافِيَةٌ، أيْ في الَّذِي ما مَكَّنّاكم فِيهِ.
ومَعْنى مَكَّنّاكم فِيهِ: مَكَّنّاكم في مِثْلِهِ أوْ في نَوْعِهِ فَإنَّ الأجْناسَ والأنْواعَ مِنَ الذَّواتِ حَقائِقُ مَعْنَوِيَّةٌ لا تَتَغَيَّرُ مَواهِبُها وإنَّما تَخْتَلِفُ بِوُجُودِها في الجُزْئِيّاتِ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ تَعْدِيَةُ فِعْلِ مَكَّنّاكم بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ إلى ضَمِيرِ اسْمِ المَوْصُولِ الصّادِقِ عَلى الأُمُورِ الَّتِي مُكِّنَتْ مِنها عادٌ.
ومِن بَدِيعِ النَظْمِ أنْ جاءَ النَّفْيُ هُنا بِحَرْفِ (إنِ) النّافِيَةِ مَعَ أنَّ النَّفْيَ بِها أقَلُّ اسْتِعْمالًا مِنَ النَّفْيِ بِـ (ما) النّافِيَةِ قَصْدًا هُنا لِدَفْعِ الكَراهَةِ مِن تَوالِي مِثْلَيْنِ في النُّطْقِ، وهُما (ما) المَوْصُولَةُ و(ما) النّافِيَةُ وإنْ كانَ مَعْناهُما مُخْتَلِفًا، ألا تَرى أنَّ العَرَبَ عَوَّضُوا الهاءَ عَنِ الألِفِ في (مَهْما)، فَإنَّ أصْلَها: (ما ما) مُرَكَّبَةٌ مِن (ما) (p-٥٣)الظَّرْفِيَّةِ و(ما) الزّائِدَةِ لِإفادَةِ الشَّرْطِ مِثْلَ (أيْنَما) . قالَ في الكَشّافِ: ولَقَدْ أغَثَّ أبُو الطَّيِّبِ في قَوْلِهِ:
؎لَعَمْرُكَ ما ما بانَ مِنكَ لِضارِبٍ
وأقُولُ ولَمْ يَتَعَقَّبِ ابْنُ جِنِّي ولا غَيْرُهُ مِمَّنْ شَرَحَ الدِّيوانَ مِن قَبْلُ عَلى المُتَنَبِّي وقَدْ وقَعَ مِثْلُهُ في ضَرُوراتِ شِعْرِ المُتَقَدِّمِينَ كَقَوْلِ خِطامٍ المُجاشِعِيِّ:
؎وصالِياتٍ كَكَما يُؤْثَفَيْنْ
ولا يُغْتَفَرُ مِثْلُهُ لِلْمُوَلَّدِينَ.
فَأمّا إذا كانَتْ (ما) نافِيَةً وأرادَ المُتَكَلِّمُ تَأْكِيدَها تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا، فالإتْيانُ بِحَرْفِ (إنْ) بَعْدَ (ما) أحْرى كَما في قَوْلِ النّابِغَةِ:
؎رَمادٌ كَكُحْلِ العَيْنِ ما إنْ أُبِينُـهُ ∗∗∗ ونُؤْيٌ كَجَذْمِ الحَوْضِ أثْلَمُ خاشِعُ
وفائِدَةُ قَوْلِهِ وجَعَلْنا لَهم سَمْعًا وأبْصارًا وأفْئِدَةً أنَّهم لَمْ يَنْقُصْهم شَيْءٌ مِن شَأْنِهِ أنْ يُخِلَّ بِإدْراكِهِمُ الحَقَّ لَوْلا العِنادُ، وهَذا تَعْرِيضٌ بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، أيْ أنَّكم حَرَمْتُمْ أنْفُسَكُمُ الِانْتِفاعَ بِسَمْعِكم وأبْصارِكم وعُقُولِكم كَما حُرِمُوهُ، والحالَةُ مُتَّحِدَةٌ والسَّبَبُ مُتَّحِدٌ فَيُوشِكُ أنْ يَكُونَ الجَزاءُ كَذَلِكَ.
وإفْرادُ السَّمْعِ دُونَ الأبْصارِ والأفْئِدَةِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ أخَذَ اللَّهُ سَمْعَكم وأبْصارَكُمْ﴾ [الأنعام: ٤٦] في سُورَةِ الأنْعامِ، وقَوْلِهِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ في سُورَةِ يُونُسَ.
و(مِن) في قَوْلِهِ ”مِن شَيْءٍ“ زائِدَةٌ لِلتَّنْصِيصِ عَلى انْتِفاءِ الجِنْسِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ ”شَيْءٍ“ المَجْرُورُ بِـ (مِن) الزّائِدَةِ نائِبًا عَنِ المَفْعُولِ المُطْلَقِ لِأنَّ المُرادَ بِشَيْءٍ مِنَ الإغْناءِ، وحَقُّ شَيْءٍ النَّصْبُ وإنَّما جُرَّ بِدُخُولِ حَرْفِ الجَرِّ الزّائِدِ.
(p-٥٤)و(إذْ) ظَرْفٌ، أيْ مُدَّةُ جُحُودِهِمْ وهو مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْلِيلِ لِاسْتِواءِ مُؤَدّى الظَّرْفِ ومُؤَدّى التَّعْلِيلِ لِأنَّهُ لَمّا جَعَلَ الشَّيْءَ مِنَ الإغْناءِ مُعَلِّقًا نَفْيَهُ بِزَمانِ جَحْدِهم بِآياتِ اللَّهِ كَما يُسْتَفادُ مِن إضافَةِ (إذْ) إلى الجُمْلَةِ بَعْدَها، عُلِمَ أنَّ لِذَلِكَ الزَّمانِ تَأْثِيرًا في نَفْيِ الإغْناءِ.
وآياتُ اللَّهِ دَلائِلُ إرادَتِهِ مِن مُعْجِزاتِ رَسُولِهِمْ، ومِنَ البَراهِينِ الدّالَّةِ عَلى صِدْقِ ما دَعاهم إلَيْهِ.
وقَدِ انْطَبَقَ مِثالُهم عَلى حالِ المُشْرِكِينَ فَإنَّهم جَحَدُوا بِآياتِ اللَّهِ وهي آياتُ القُرْآنِ لِأنَّها جَمَعَتْ حَقِيقَةَ الآياتِ بِالمَعْنَيَيْنِ.
وحاقَ بِهِمْ: أحاطَ بِهِمْ وما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ العَذابُ، عَدَلَ عَنِ اسْمِهِ الصَّرِيحِ إلى المَوْصُولِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى ضَلالِهِمْ وسُوءِ نَظَرِهِمْ.
{"ayah":"وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰهُمۡ فِیمَاۤ إِن مَّكَّنَّـٰكُمۡ فِیهِ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ سَمۡعࣰا وَأَبۡصَـٰرࣰا وَأَفۡـِٔدَةࣰ فَمَاۤ أَغۡنَىٰ عَنۡهُمۡ سَمۡعُهُمۡ وَلَاۤ أَبۡصَـٰرُهُمۡ وَلَاۤ أَفۡـِٔدَتُهُم مِّن شَیۡءٍ إِذۡ كَانُوا۟ یَجۡحَدُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











