الباحث القرآني

﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ أُعِيدَ الأمْرُ بِأنْ يَقُولَ لَهم حُجَّةً أُخْرى لَعَلَّها تَرُدُّهم إلى الحَقِّ بَعْدَ ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [الأحقاف: ٤] الآيَةَ، وقَوْلِهِ ﴿قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [الأحقاف: ٨]، وقَوْلِهِ ﴿قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٩] الآيَةَ. وهَذا اسْتِدْراجٌ لَهم لِلْوُصُولِ إلى الحَقِّ في دَرَجاتِ النَّظَرِ، فَقَدْ بادَأهم بِأنَّ ما أحالُوهُ مِن أنْ يَكُونَ رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ لَيْسَ بِمُحالٍ إذْ لَمْ يَكُنْ أوَّلَ النّاسِ جاءَ بِرِسالَةٍ مِنَ اللَّهِ. ثُمَّ أعْقَبَهُ بِأنَّ القُرْآنَ إذا فَرَضْنا أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ وقَدْ كَفَرْتُمْ بِذَلِكَ كَيْفَ يَكُونُ حالُكم عِنْدَ اللَّهِ - تَعالى - . وأقْحَمَ في هَذا أنَّهُ لَوْ شَهِدَ شاهِدٌ مِن أهْلِ الكِتابِ بِوُقُوعِ الرِّسالاتِ ونُزُولِ (p-١٩)الكُتُبِ عَلى الرُّسُلِ، وآمَنَ بِرِسالَتِي كَيْفَ يَكُونُ انْحِطاطُكم عَنْ دَرَجَتِهِ، وقَدْ جاءَكم كِتابٌ فَأعْرَضْتُمْ عَنْهُ، فَهَذا كَقَوْلِهِ ﴿أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابُ لَكُنّا أهْدى مِنهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥٧]، وهَذا تَحْرِيكٌ لِلْهِمَمِ. ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ آيَةُ سُورَةِ فُصِّلَتْ ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَن أضَلُّ مِمَّنْ هو في شِقاقٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: ٥٢] سِوى أنَّ هَذِهِ أقْحَمَ فِيها قَوْلَهُ ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ﴾ فَإنَّ المُشْرِكِينَ كانَتْ لَهم مُخالَطَةٌ مَعَ بَعْضِ اليَهُودِ في مَكَّةَ ولَهم صِلَةٌ بِكَثِيرٍ مِنهم في التِّجارَةِ بِالمَدِينَةِ وخَيْبَرَ فَلَمّا ظَهَرَتْ دَعْوَةُ النَّبِيءِ ﷺ كانُوا يَسْألُونَ مَن لَقَوْهُ مِنَ اليَهُودِ عَنْ أمْرِ الأدْيانِ والرُّسُلِ فَكانَ اليَهُودُ لا مَحالَةَ يُخْبِرُونَ المُشْرِكِينَ بِبَعْضِ الأخْبارِ عَنْ رِسالَةِ مُوسى وكِتابِهِ وكَيْفَ أظْهَرَهُ اللَّهُ عَلى فِرْعَوْنَ. فاليَهُودُ وإنْ كانُوا لا يُقِرُّونَ بِرِسالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَهم يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رِسالَةِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِما هو مُماثِلٌ لِحالِ النَّبِيءِ ﷺ مَعَ قَوْمِهِ وفِيهِ ما يَكْفِي لِدَفْعِ إنْكارِهِمْ رِسالَتَهُ. فالِاسْتِفْهامُ في ”أرَأيْتُمْ“ تَقْرِيرَيٌّ لِلتَّوْبِيخِ، ومَفْعُولا ”أرَأيْتُمْ“ مَحْذُوفانِ. والتَّقْدِيرُ: أرَأيْتُمْ أنْفُسَكم ظالِمِينَ: والضَّمِيرُ المُسْتَتِرُ في ”إنْ كانَ“ عائِدٌ إلى القُرْآنِ المَعْلُومِ مِنَ السِّياقِ أوْ إلى ”ما يُوحى إلَيَّ“ في قَوْلِهِ آنِفًا ﴿إنْ أتَّبِعُ إلّا ما يُوحى إلَيَّ﴾ [الأحقاف: ٩] . وجُمْلَةُ وكَفَرْتُمْ بِهِ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ أرَأيْتُمْ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى فِعْلِ الشَّرْطِ. وكَذَلِكَ جُمْلَةُ ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ﴾ . لِأنَّ مَضْمُونَ كِلْتا الجُمْلَتَيْنِ واقِعٌ فَلا يَدْخُلُ في حَيِّزِ الشَّرْطِ، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ سِياقُ الجَدَلِ. والتَّقْدِيرُ: أفَتَرَوْنَ أنْفُسَكم في ضَلالٍ. وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ جَوابِ الشَّرْطِ المُقَدَّرَةِ وهي تَعْلِيلٌ أيْضًا. والمَعْنى: أتَظُنُّونَ إنْ تَبَيَّنَ أنَّ القُرْآنَ وحْيٌ مِنَ اللَّهِ وقَدْ كَفَرْتُمْ بِذَلِكَ فَشَهِدَ شاهِدٌ عَلى حَقِيقَةِ ذَلِكَ تُوقِنُوا أنَّ اللَّهَ لَمْ يَهْدِكم لِأنَّكم ظالِمُونَ وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الظّالِمِينَ. وضَمِيرا ”كانَ“ و”مِثْلِهِ“ عائِدانِ إلى القُرْآنِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ مَرّاتٍ مِن قَوْلِهِ ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ﴾ [الأحقاف: ٢] وقَوْلِهِ ﴿اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِن قَبْلِ هَذا﴾ [الأحقاف: ٤] . (p-٢٠)وجُمْلَةُ ”واسْتَكْبَرْتُمْ“ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ”وشَهِدَ شاهِدٌ“ إلَخْ وجُمْلَةُ ”وشَهِدَ شاهِدٌ“ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ”إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ“ . والمِثْلُ: المُماثِلُ والمُشابِهُ في صِفَةٍ أوْ فِعْلٍ، وضَمِيرُ ”مِثْلِهِ“ لِلْقُرْآنِ فَلَفْظُ مِثْلِهِ هُنا يَجُوزُ أنْ يُحْمَلَ عَلى صَرِيحِ الوَصْفِ، أيْ عَلى مُماثِلٍ لِلْقُرْآنِ فِيما أنْكَرُوهُ مِمّا تَضَمَّنَهُ القُرْآنُ مِن نَحْوِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وإثْباتِ البَعْثِ، وذَلِكَ المِثْلُ هو كِتابُ التَّوْراةِ أوِ الزَّبُورُ مِن كُتُبِ بَنِي إسْرائِيلَ يَوْمَئِذٍ. ويَجُوزُ أنْ يُحْمَلَ المِثْلُ عَلى أنَّهُ كِنايَةٌ عَمّا أُضِيفَ إلَيْهِ لَفَظُ (مِثْلُ)، فَيَكُونُ لَفْظُ (مِثْلُ) بِمَنزِلَةِ المُقْحَمِ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِ العَرَبِ: (مِثْلُكَ لا يَبْخَلُ)، وكَما هو أحَدُ مَحْمَلَيْنِ في قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] . فالمَعْنى: وشَهِدَ شاهِدٌ عَلى صِدْقِ القُرْآنِ فِيما حَواهُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ مِثْلِهِ عائِدًا عَلى الكَلامِ المُتَقَدِّمِ بِتَأْوِيلِ المَذْكُورِ، أيْ عَلى مِثْلِ ما ذُكِرَ في أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ وأنَّهُ لَيْسَ بِدْعًا مِن كُتُبِ الرُّسُلِ. فالمُرادُ بِـ ﴿شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ﴾ شاهِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، أيْ أيُّ شاهِدٍ، لِأنَّ الكَلامَ إنْباءٌ لَهم بِما كانُوا يَتَساءَلُونَ بِهِ مَعَ اليَهُودِ. وبِهَذا فَسَّرَ الشَّعْبِيُّ ومَسْرُوقٌ واخْتارَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ في الِاسْتِيعابِ في تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ فالخِطابُ في قَوْلِهِ أرَأيْتُمْ وما بَعْدَهُ مُوَجَّهٌ إلى المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وقَتادَةُ ومُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ: المُرادُ بِـ ﴿شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ﴾ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ. ورَوى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ أنَّهُ قالَ: فِيَّ نَزَلَتْ آياتٌ مِن كِتابِ اللَّهِ ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ﴾ الآيَةَ. ومِثْلُ قَوْلِ قَتادَةَ ومُجاهِدٍ وعِكْرِمَةَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ومالِكِ بْنِ أنَسٍ وسُفْيانَ الثَّوْرِيِّ. ووَقَعَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ في بابِ فَضْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مالِكٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ قالَ: وفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ﴾ الآيَةَ، قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: لا أدْرِي قالَ مالِكٌ: الآيَةُ أوْ في الحَدِيثِ. قالَ مَسْرُوقٌ: لَيْسَ هو ابْنُ سَلامٍ لِأنَّهُ أسْلَمَ بِالمَدِينَةِ والسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وقالَ (p-٢١)الشَّعْبِيُّ مِثْلَهُ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الآيَةُ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ وأُمِرَ بِوَضْعِها في سُورَةِ الأحْقافِ، وعَلى هَذا يَكُونُ الخِطابُ في قَوْلِهِ ”أرَأيْتُمْ“ وما بَعْدَهُ لِأهْلِ الكِتابِ بِالمَدِينَةِ وما حَوْلَها. وعِنْدِي أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا إخْبارًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ ﷺ بِما سَيَقَعُ مِن إيمانِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ فَيَكُونُ هو المُرادَ بِـ ﴿شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ﴾ وإنْ كانَتِ الآيَةُ مَكِّيَّةً. والظّاهِرُ أنَّ مِثْلَ هَذِهِ الآيَةِ هو الَّذِي جَرَّأ المُشْرِكِينَ عَلى إنْكارِ نُزُولِ الوَحْيِ عَلى مُوسى وغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ فَقالُوا ﴿لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذا القُرْآنِ ولا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [سبإ: ٣١] وقالُوا ﴿ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١] حِينَ عَلِمُوا أنْ قَدْ لَزِمَتْهُمُ الحُجَّةُ بِنُزُولِ ما سَلَفَ مِنَ الكُتُبِ قَبْلَ القُرْآنِ. وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ تَعْلِيلٌ لِلْكَلامِ المَحْذُوفِ الدّالِّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ كَما عَلِمْتَهُ آنِفًا، أيْ ضَلَلْتُمْ ضَلالًا لا يُرْجى لَهُ زَوالٌ لِأنَّكم ظالِمُونَ ﴿اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ . وهَذا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِظُلْمِهِمْ أنْفُسَهم. وجِيءَ في الشَّرْطِ بِحَرْفِ (إنْ) الَّذِي شَأْنُهُ أنْ يَكُونَ في الشَّرْطِ غَيْرِ المَجْزُومِ بِوُقُوعِهِ مُجاراةً لِحالِ المُخاطَبِينَ اسْتِنْزالًا لِطائِرِ جِماحِهِمْ لِيَنْزِلُوا لِلتَّأمُّلِ والمُحاوَرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب