الباحث القرآني

(p-٢٥٢)”﴿الأخِلّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلّا المُتَّقِينَ﴾“ ﴿يا عِبادِي لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ ولا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وكانُوا مُسْلِمِينَ﴾ ﴿ادْخُلُوا الجَنَّةَ أنْتُمْ وأزْواجُكم تُحْبَرُونَ﴾ ﴿يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مَن ذَهَبٍ وأكْوابٍ وفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وتَلَذُّ الأعْيُنُ وأنْتُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ ﴿وتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿لَكم فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنها تَأْكُلُونَ﴾ اسْتِئْنافٌ يُفِيدُ أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: بَيانُ بَعْضِ الأهْوالِ الَّتِي أشارَ إلَيْها إجْمالُ التَّهْدِيدِ في قَوْلِهِ ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِن عَذابِ يَوْمٍ ألِيمٍ﴾ [الزخرف: ٦٥] . وثانِيهِما: مَوْعِظَةُ المُشْرِكِيَّةِ بِما يَحْصُلُ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ الأهْوالِ لِأمْثالِهِمْ والحَبْرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وقَدْ أُوثِرَ بِالذِّكْرِ هُنا مِنَ الأهْوالِ ما لَهُ مَزِيدُ تَناسُبٍ لِحالِ المُشْرِكِينَ في تَألُّبِهِمْ عَلى مُناواةِ الرَّسُولِ ﷺ ودِينِ الإسْلامِ، فَإنَّهم ما ألَّبَهم إلّا تَناصُرُهم وتَوادُّهم في الكُفْرِ والتَّباهِي بِذَلِكَ بَيْنَهم في نَوادِيهِمْ وأسْمارِهِمْ، قالَ تَعالى حِكايَةً عَنْ إبْراهِيمَ ﴿وقالَ إنَّما اتَّخَذْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ أوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكم في الحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [العنكبوت: ٢٥] وتِلْكَ شَنْشَنَةُ أهْلِ الشِّرْكِ مِن قَبْلُ. وفِي مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ المُتَقَدِّمُ آنِفًا ﴿حَتّى إذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ﴾ [الزخرف: ٣٨] . والأخِلّاءُ: جَمْعُ خَلِيلٍ، وهو الصّاحِبُ المُلازِمُ، قِيلَ: إنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّخَلُّلِ لِأنَّهُ كالمُتَخَلِّلِ لِصاحِبِهِ والمُمْتَزِجِ بِهِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿واتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: ١٢٥] في سُورَةِ النِّساءِ. والمُضافُ إلَيْهِ (إذْ) مِن قَوْلِهِ ”يَوْمَئِذٍ“ هو المُعَوِّضُ عَنْهُ التَّنْوِينُ دَلَّ عَلَيْهِ المَذْكُورُ قَبْلَهُ في قَوْلِهِ ”﴿مِن عَذابِ يَوْمٍ ألِيمٍ﴾ [الزخرف: ٦٥]“ . (p-٢٥٣)والعَدُوُّ: المُبْغَضُ، ووَزْنُهُ فَعُولٌ بِمَعْنى فاعِلٍ، أيْ عادٍ، ولِذَلِكَ اسْتَوى جَرَيانُهُ عَلى الواحِدِ وغَيْرِهِ، والمُذَكَّرِ وغَيْرِهِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ [النساء: ٩٢] في سُورَةِ النِّساءِ. وتَعْرِيفُ الأخِلّاءِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ وهو مُفِيدٌ اسْتِغْراقًا عُرْفِيًّا، أيِ الأخِلّاءُ مِن فَرِيقَيِ المُشْرِكِينَ والمُؤْمِنِينَ أوِ الأخِلّاءُ مِن قُرَيْشٍ المُتَحَدَّثِ عَنْهم، وإلّا فَإنَّ مِنَ الأخِلّاءِ غَيْرِ المُؤْمِنِينَ مَن لا عَداوَةَ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ وهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَخْدِمُوا خُلَّتَهم في إغْراءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلى الشِّرْكِ والكُفْرِ والمَعاصِي وإنِ افْتَرَقُوا في المَنازِلِ والدَّرَجاتِ يَوْمَ القِيامَةِ. و”يَوْمَئِذٍ“ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”عَدُوٌّ“، وجُمْلَةُ ”يا عِبادِي“ مَقُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الخِطابِ، أيْ نَقُولُ لَهم أوْ يَقُولُ اللَّهُ لَهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ يا عِبادِي بِإثْباتِ الياءِ عَلى الأصْلِ. وقَرَأهُ حَفْصٌ والكِسائِيُّ بِحَذْفِ ياءِ المُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ قالَ أبُو عَلِيٍّ: وحَذْفُها حَسَنٌ؛ لِأنَّها في مَوْضِعِ تَنْوِينٍ، وهي قَدْ عاقَبَتْهُ فَكَما يُحْذَفُ التَّنْوِينُ في الِاسْمِ المُفْرَدِ المُنادى كَذَلِكَ تُحْذَفُ الياءُ هُنا. ومُفاتَحَةُ خِطابِهِمْ بِنَفْيِ الخَوْفِ عَنْهم تَأْنِيسٌ لَهم، ومِنَّةٌ بِإنْجائِهِمْ مِن مِثْلِهِ، وتَذْكِيرٌ لَهم بِسَبَبِ مُخالَفَةِ حالِهِمْ لِحالِ أهْلِ الضَّلالَةِ فَإنَّهم يُشاهِدُونَ ما يُعامَلُ بِهِ أهْلُ الضَّلالَةِ والفَسادِ. و”﴿لا خَوْفٌ﴾“ مَرْفُوعٌ مُنَوَّنٌ في جَمِيعِ القِراءاتِ المَشْهُورَةِ، وإنَّما لَمْ يُفْتَحْ لِأنَّ الفَتْحَ عَلى تَضْمِينِ (مِن) الزّائِدَةِ المُؤَكِّدَةِ لِلْعُمُومِ، وإذْ قَدْ كانَ التَّأْكِيدُ مُفِيدًا التَّنْصِيصَ عَلى عَدَمِ إرادَةِ نَفْيِ الواحِدِ، وكانَ المَقامُ غَيْرَ مُقامِ التَّرَدُّدِ في نَفْيِ جِنْسِ الخَوْفِ عَنْهم لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ واقِعًا بِهِمْ حِينَئِذٍ مَعَ وُقُوعِهِ عَلى غَيْرِهِمْ، فَأمارَةُ نَجاتِهِمْ مِنهُ واضِحَةٌ، لَمْ يَحْتَجْ إلى نَصْبِ اسْمِ (لا)، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الرّابِعَةِ مِن نِساءِ حَدِيثِ أمْ زَرْعٍ «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهامَهْ، لا حَرٌّ ولا قُرٌّ ولا مَخافَةٌ ولا سَآمَهْ» رِوايَتُهُ بِرَفْعِ الأسْماءِ الأرْبَعَةِ لِأنَّ انْتِفاءَ تِلْكَ الأحْوالِ عَنْ لَيْلِ تِهامَةَ مَشْهُورٌ، وإنَّما أرادَتْ بَيانَ وُجُوهِ الشَّبَهِ مِن قَوْلِها كَلَيْلِ تِهامَهْ. (p-٢٥٤)وجِيءَ في قَوْلِهِ ﴿ولا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ بِالمُسْنِدِ إلَيْهِ مُخْبَرًا عَنْهُ بِالمُسْنَدِ الفِعْلِيِّ لِإفادَةِ التَّقَوِّي في نَفْيِ الحُزْنِ عَنْهم، فالتَّقَوِّي أفادَ تَقَوِّيِ النَّفْيِ لا نَفْيَ قُوَّةِ الحُزْنِ الصّادِقِ بِحُزْنٍ غَيْرِ قَوِيٍّ. هَذا هو طَرِيقُ الِاسْتِعْمالِ في نَفْسِ صِيَغِ المُبالَغَةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] تَطْمِينًا لِأنْفُسِهِمْ بِانْتِفاءِ الحُزْنِ عَنْهم في أزْمِنَةِ المُسْتَقْبَلِ، إذْ قَدْ يَهْجِسُ بِخَواطِرِهِمْ هَلْ يَدُومُ لَهُمُ الأمْنُ الَّذِي هم فِيهِ. وجُمْلَةُ ”الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا“ نَعْتٌ لِلْمُنادى مِن قَوْلِهِ يا عِبادِي، جِيءَ فِيها بِالمَوْصُولِ لِدَلالَةِ الصِّلَةِ عَلى عِلَّةِ انْتِفاءِ الخَوْفِ والحُزْنِ عَنْهم، وعُطِفَ عَلى الصِّلَةِ قَوْلُهُ ”﴿وكانُوا مُسْلِمِينَ﴾“ . والمُخالَفَةُ بَيْنَ الصِّلَتَيْنِ إذْ كانَتْ أُولاهُما فِعْلًا ماضِيًا والثّانِيَةُ فِعْلَ كَوْنٍ مُخْبَرًا عَنْهُ باسِمِ فاعِلٍ لِأنَّ الإيمانَ: عَقْدُ القَلْبِ يَحْصُلُ دُفْعَةً واحِدَةً وأمّا الإسْلامُ فَهو الإتْيانُ بِقَواعِدِ الإسْلامِ الخَمْسِ كَما جاءَ تَفْسِيرُهُ في حَدِيثِ سُؤالِ جِبْرِيلَ، فَهو مَعْرُوضٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ النَّفْسِ فَلِذَلِكَ أُوثِرَ بِفِعْلِ (كانَ) الدّالِّ عَلى اتِّحادِ خَبَرِهِ بِاسْمِهِ حَتّى كَأنَّهُ مِن قِوامِ كِيانِهِ. وعَطَفَ أزْواجَهم عَلَيْهِمْ في الإذْنِ بِدُخُولِ الجَنَّةِ مِن تَمامِ نِعْمَةِ التَّمَتُّعِ بِالخُلَّةِ الَّتِي كانَتْ بَيْنَهم وبَيْنَ أزْواجِهِمْ في الدُّنْيا. و”تُحْبَرُونَ“ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ مُضارِعُ حُبِرَ بِالبِناءِ لِلْمَجْهُولِ، وفِعْلُهُ حَبَرَهُ، إذا سَرَّهُ، ومَصْدَرُهُ الحَبْرُ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، والِاسْمُ الحُبُورُ والحَبْرَةُ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَهم في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ [الروم: ١٥] في سُورَةِ الرُّومِ. وجُمْلَةُ ﴿يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ﴾ إلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أجْزاءِ القَوْلِ فَلَيْسَ في ضَمِيرِ ”عَلَيْهِمْ“ التِفاتٌ بَلِ المَقامُ لِضَمِيرِ الغَيْبَةِ. والصِّحافُ: جَمْعُ صَفْحَةٍ، إناءٌ مُسْتَدِيرٌ واسِعُ الفَمِ يَنْتَهِي أسْفَلُهُ بِما يُقارِبُ التَّكْوِيرَ. والصَّفْحَةُ: إناءٌ لِوَضْعِ الطَّعامِ أوِ الفاكِهَةِ مِثْلُ صِحافِ الفَغْفُورِيِّ الصِّينِيِّ تَسَعُ شِبَعَ خَمْسَةٍ، وهي دُونُ القَصْعَةِ الَّتِي تَسَعُ شِبَعَ عَشْرَةٍ. وقَدْ ورَدَأنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابَ اتَّخَذَ صِحافًا عَلى عَدَدِ أزْواجِ النَّبِيءِ ﷺ فَلا يُؤْتى إلَيْهِ بِفاكِهَةٍ أوْ طُرْفَةٍ إلّا أرْسَلَ إلَيْهِنَّ مِنها في تِلْكَ الصِّحافِ. (p-٢٥٥)والأكْوابُ: جَمْعُ كُوبٍ بِضَمِّ الكافِ وهو إناءٌ لِلشَّرابِ مِن ماءٍ أوْ خَمْرٍ مُسْتَطِيلُ الشَّكْلِ لَهُ عُنُقٌ قَصِيرٌ في أعْلى ذَلِكَ العُنُقِ فَمُهُ وهو مَصَبُّ ما فِيهِ، وفَمُهُ أضْيَقُ مِن جَوْفِهِ، والأكْثَرُ أنْ لا تَكُونَ لَهُ عُرْوَةٌ يُمْسَكُ مِنها؛ فَيُمْسَكُ بِوَضْعِ اليَدِ عَلى عُنُقِهِ، وقَدْ تَكُونُ لَهُ عُرْوَةٌ قَصِيرَةٌ، وهو أصْغَرُ مِنَ الإبْرِيقِ إلّا أنَّهُ لا خُرْطُومَ لَهُ ولا عُرْوَةَ في الغالِبِ. وأمّا الإبْرِيقُ فَلَهُ عُرْوَةٌ وخُرْطُومٌ. وحُذِفَ وصْفُ الأكْوابِ لِدَلالَةِ وصْفِ صِحافٍ عَلَيْهِ، أيْ وأكْوابٌ مِن ذَهَبٍ. وهَذِهِ الأكْوابُ تَكُونُ لِلْماءِ وتَكُونُ لِلْخَمْرِ. وجُمْلَةُ ﴿وفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ﴾ إلَخْ حالٌ مِنَ الجَنَّةِ، وهي مِن بَقِيَّةِ القَوْلِ. وضَمِيرُ ”فِيها“ عائِدٌ إلى الجَنَّةِ، وقَدْ عَمَّ قَوْلُهُ ﴿ما تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ﴾ كُلَّ ما تَتَعَلَّقُ الشَّهَواتُ النَّفْسِيَّةُ بِنَوالِهِ وتَحْصِيلِهِ، واللَّهُ يَخْلُقُ في أهْلِ الجَنَّةِ الشَّهَواتِ اللّائِقَةِ بِعالَمِ الخُلُودِ والسُّمُوِّ. ”وتَلَذُّ“ مُضارِعُ لَذَّ بِوَزْنِ عَلِمَ: إذا أحَسَّ لَذَّةً، وحَقُّ فِعْلِهِ أنْ يَكُونَ قاصِرًا فَيُعَدّى إلى الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ اللَّذَّةُ بِالباءِ فَيُقالُ: لَذَّ بِهِ، وكَثُرَ حَذْفُ الباءِ وإيصالُ الفِعْلِ إلى المَجْرُورِ بِنَفْسِهِ فَيَنْتَصِبُ عَلى نَزْعِ الخافِضِ، وكَثُرَ ذَلِكَ في الكَلامِ حَتّى صارَ الفِعْلُ بِمَنزِلَةِ المُتَعَدِّي فَقالُوا: لَذَّهُ. ومِنهُ قَوْلُهُ هُنا ﴿وتَلَذُّ الأعْيُنُ﴾ التَّقْدِيرُ، وتَلَذُّهُ الأعْيُنُ. والضَّمِيرُ المَحْذُوفُ هو رابِطُ الصِّلَةِ بِالمَوْصُولِ. ولَذَّةُ الأعْيُنِ في رُؤْيَةِ الأشْكالِ الحَسَنَةِ والألْوانِ الَّتِي تَنْشَرِحُ لَها النَّفْسُ، فَلَذَّةُ الأعْيُنِ وسِيلَةٌ لِلَذَّةِ النُّفُوسِ فَعَطَفَ ﴿وتَلَذُّ الأعْيُنُ﴾ عَلى ﴿ما تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ﴾ عَطْفَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ، فَقَدْ تَشْتَهِي الأنْفُسُ ما لا تَراهُ الأعْيُنُ كالمُحادَثَةِ مَعَ الأصْحابِ وسَماعِ الأصْواتِ الحَسَنَةِ والمُوسِيقى. وقَدْ تُبْصِرُ الأعْيُنُ ما لَمْ تَسْبِقْ لِلنَّفْسِ شَهْوَةُ رُؤْيَتِهِ أوْ ما اشْتَهَتِ النَّفْسُ طَعْمَهُ أوْ سَمْعَهُ فَيُؤْتى بِهِ في صُوَرٍ جَمِيلَةٍ إكْمالًا لِلنِّعْمَةِ. (p-٢٥٦)و”الأنْفُسُ“ فاعِلُ تَلَذُّ وحُذِفَ المَفْعُولُ لِظُهُورِهِ مِنَ المَقامِ. وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ وأبُو جَعْفَرٍ ما تَشْتَهِيهِ بِهاءِ ضَمِيرٍ عائِدٍ إلى (ما) المَوْصُولَةِ وكَذَلِكَ هو مَرْسُومٌ في مُصْحَفِ المَدِينَةِ ومُصْحَفِ الشّامِ، وقَرَأهُ الباقُونَ (ما تَشْتَهِي) بِحَذْفِ هاءِ الضَّمِيرِ، وكَذَلِكَ رُسِمَ في مُصْحَفِ مَكَّةَ ومُصْحَفِ البَصْرَةِ ومُصْحَفِ الكُوفَةِ. والمَرْوِيُّ عَنْ عاصِمٍ قارِئِ الكُوفَةِ رِوايَتانِ: إحْداهُما أخَذَ بِها حَفْصٌ والأُخْرى أخَذَ بِها أبُو بَكْرٍ. وحَذْفُ العائِدِ المُتَّصِلِ المَنصُوبِ بِفِعْلٍ أوْ وصْفٍ مِن صِلَةِ المَوْصُولِ كَثِيرٌ في الكَلامِ. وقَوْلُهُ ﴿وأنْتُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ بِشارَةٌ لَهم بِعَدَمِ انْقِطاعِ الحَبْرَةِ وسَعَةِ الرِّزْقِ ونَيْلِ الشَّهَواتِ، وجِيءَ فِيهِ بِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدّالَّةِ عَلى الدَّوامِ والثَّباتِ تَأْكِيدًا لِحَقِيقَةِ الخُلُودِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أنْ يُرادَ بِهِ طُولُ المُدَّةِ فَحَسْبُ. وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ لِلِاهْتِمامِ، وعُطِفَ عَلى بَعْضِ ما يُقالُ لَهم مَقُولٌ آخَرُ قُصِدَ مِنهُ التَّنْوِيهُ بِالجَنَّةِ وبِالمُؤْمِنِينَ إذْ أُعْطُوها بِسَبَبِ أعْمالِهِمُ الصّالِحَةِ، فَأُشِيرَ إلى الجَنَّةِ بِاسْمِ إشارَةِ البَعِيدِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِها وإلّا فَإنَّها حاضِرَةٌ نُصْبَ أعْيُنِهِمْ. وجُمْلَةُ ﴿وتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها﴾ الآيَةَ تَذْيِيلٌ لِلْقَوْلِ. واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ و”الجَنَّةُ“ خَبَرُهُ، أيْ تِلْكَ الَّتِي تَرَوْنَها هي الجَنَّةُ الَّتِي سَمِعْتُمْ بِها ووُعِدْتُمْ بِدُخُولِها. وجُمْلَةُ ﴿الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ صِفَةٌ لِلْجَنَّةِ. واسْتُعِيرَ أُورِثْتُمُوها لِمَعْنى: أُعْطِيتُمُوها دُونَ غَيْرِكم، بِتَشْبِيهِ إعْطاءِ اللَّهِ المُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ نَعِيمَ الجَنَّةِ بِإعْطاءِ الحاكِمِ مالَ المَيِّتِ لِوارِثِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ القَرابَةِ لِأنَّهُ أوْلى بِهِ وآثَرُ بِنَيْلِهِ. والباءُ في ﴿بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لِلسَّبَبِيَّةِ وهي سَبَبِيَّةٌ بِجَعْلِ اللَّهِ ووَعْدِهِ، ودَلَّ قَوْلُهُ ”﴿كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾“ عَلى أنَّ عَمَلَهُمُ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الجَنَّةَ أمْرٌ كائِنٌ مُتَقَرَّرٌ، وأنَّ عَمَلَهم ذَلِكَ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ، أيْ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ إلى وفاتِهِمْ. (p-٢٥٧)وجُمْلَةُ ﴿لَكم فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ﴾ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِلْجَنَّةِ. والفاكِهَةُ: الثِّمارُ رَطْبُها ويابِسُها، وهي مِن أحْسَنِ ما يُسْتَلَذُّ مِنَ المَآكِلِ، وطُعُومُها مَعْرُوفَةٌ لِكُلِّ سامِعٍ. ووَجْهُ تَكْرِيرِ الِامْتِنانِ بِنَعِيمِ المَأْكَلِ والمُشْرَبِ في الجَنَّةِ: أنَّ ذَلِكَ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي لا تَخْتَلِفُ الطِّباعُ البَشَرِيَّةُ في اسْتِلْذاذِهِ، ولِذَلِكَ قالَ ”﴿مِنها تَأْكُلُونَ﴾“ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ﴾ [الأنعام: ١٤١] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب