الباحث القرآني
﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ ﴿إنّا جَعَلْناهُ قُرْءانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ أقْسَمَ بِالكِتابِ المُبِينِ وهو القُرْآنُ عَلى أنَّ القُرْآنَ جَعَلَهُ اللَّهُ عَرَبِيًّا واضِحَ الدَّلالَةِ فَهو حَقِيقٌ بِأنْ يُصَدِّقُوا بِهِ لَوْ كانُوا غَيْرَ مُكابِرِينَ، ولَكِنَّهم بِمُكابَرَتِهِمْ كانُوا كَمَن لا يَعْقِلُونَ. فالقَسَمُ بِالقُرْآنِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِ وهو تَوْكِيدٌ لِما تَضَمَّنَهُ جَوابُ القَسَمِ إذْ لَيْسَ القَسَمُ هُنا بِرافِعٍ لِتَكْذِيبِ المُنْكِرِينَ إذْ لا يُصَدِّقُونَ بِأنَّ المُقْسِمَ هو اللَّهُ تَعالى فَإنَّ المُخاطَبَ بِالقَسَمِ هُمُ المُنْكِرُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ) وتَفْرِيعِ ﴿أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا﴾ [الزخرف: ٥] عَلَيْهِ. وتَوْكِيدُ الجَوابِ بِـ (إنَّ) زِيادَةُ تَوْكِيدٍ لِلْخَبَرِ أنَّ القُرْآنَ مِن جَعْلِ اللَّهِ.
وفِي جَعْلِ المُقْسَمِ بِهِ القُرْآنَ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مُبِينًا، وجَعْلِ جَوابِ القَسَمِ أنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مُبِينًا، تَنْوِيهٌ خاصٌّ بِالقُرْآنِ إذْ جَعَلَ المُقْسَمَ بِهِ هو المُقَسَمَ عَلَيْهِ، وهَذا ضَرْبٌ عَزِيزٌ بَدِيعٌ لِأنَّهُ يُومِئُ إلى أنَّ المُقْسَمَ عَلى شَأْنِهِ بَلَغَ غايَةَ الشَّرَفِ فَإذا أرادَ المُقْسِمُ أنْ يُقْسِمَ عَلى ثُبُوتِ شَرَفٍ لَهُ لَمْ يَجِدْ ما هو أوْلى بِالقَسَمِ بِهِ لِلتَّناسُبِ بَيْنَ القَسَمِ والمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وجَعَلَ صاحِبُ الكَشّافِ مِن قَبِيلِهِ قَوْلَ أبِي تَمّامٍ:(p-١٦٠)
؎وثَناياكِ إنَّهَـا إغْـرِيضُ ولَآلٍ تُؤْمٌ وبَرْقٌ ومِيضُ
إذْ قَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ جُمْلَةَ إنَّها إغْرِيضُ جَوابَ القَسَمِ وهو الَّذِي تَبِعَهُ عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ والقَزْوِينِيُّ في شَرْحَيْهِما لِلْكَشّافِ، وهو ما فَسَّرَ بِهِ التَّبْرِيزِيُّ في شَرْحِهِ لِدِيوانِ أبِي تَمّامٍ، ولَكِنَّ التَّفْتَزانِيَّ أبْطَلَ ذَلِكَ في شَرْحِ الكَشّافِ وجَعَلَ جُمْلَةَ (إنَّها إغْرِيضُ) اسْتِئْنافًا أيِ اعْتِراضًا لِبَيانِ اسْتِحْقاقِ ثَناياها أنْ يُقْسِمَ بِها، وجَعَلَ جَوابَ القَسَمِ قَوْلَهُ بَعْدَ أبْياتٍ ثَلاثَةٍ:
؎لَتَكاءَدْنَنِي غِمارٌ مِنَ الأحْ ∗∗∗ داثِ لَمْ أدْرِ أيَّهُنَّ أخُوضُ
والنُّكَتُ والخُصُوصِيّاتُ الأدَبِيَّةُ يَكْفِي فِيها الِاحْتِمالُ المَقْبُولُ فَإنَّ قَوْلَهُ قَبْلَهُ:
؎وارْتِكاضُ الكَرى بِعَيْنَيْكَ في النَّ ∗∗∗ وْمِ فُنُونًا وما بِعَيْنِي غُمُوضُ
يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَسَمًا ثانِيًا فَيَكُونَ البَيْتُ جَوابًا لَهُ.
وإطْلاقُ اسْمِ الكِتابِ عَلى القُرْآنِ بِاعْتِبارِ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَهُ لِيُكْتَبَ وأنَّ الأُمَّةَ مَأْمُورُونَ بِكِتابَتِهِ وإنْ كانَ نُزُولُهُ عَلى الرَّسُولِ ﷺ لَفْظًا غَيْرَ مَكْتُوبٍ.
وفِي هَذا إشارَةٌ إلى أنَّهُ سَيُكْتَبُ في المَصاحِفِ، والمُرادُ بِـ (الكِتابِ) ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ وقَدْ كَتَبَهُ كُتّابُ الوَحْيِ.
وضَمِيرُ (جَعَلْناهُ) عائِدٌ إلى الكِتابِ، أيْ إنّا جَعَلْنا الكِتابَ المُبِينَ قُرْآنًا والجَعْلُ: الإيجادُ والتَّكْوِينُ، وهو يَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ.
والمَعْنى: أنَّهُ مَقْرُوءٌ دُونَ حُضُورِ كِتابٍ فَيَقْتَضِي أنَّهُ مَحْفُوظٌ في الصُّدُورِ ولَوْلا ذَلِكَ لَما كانَتْ فائِدَةٌ لِلْإخْبارِ بِأنَّهُ مَقْرُوءٌ لِأنَّ كُلَّ كِتابٍ صالِحٌ لِأنْ يُقْرَأُ. والإخْبارُ عَنِ الكِتابِ بِأنَّهُ قُرْآنٌ مُبالَغَةٌ في كَوْنِ هَذا الكِتابِ مَقْرُوءًا، أيْ مُيَسَّرًا لِأنْ يُقْرَأُ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ [القمر: ١٧] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٧] . وقَوْلِهِ: ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] .
فَحَصَلَ بِهَذا الوَصْفِ أنَّ الكِتابَ المُنَزَّلَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ جامِعٌ لِوَصْفَيْنِ: كَوْنِهِ كِتابًا، وكَوْنِهِ مَقْرُوءًا عَلى ألْسِنَةِ الأُمَّةِ. وهَذا مِمّا اخْتُصَّ بِهِ كِتابُ الإسْلامِ.
(p-١٦١)و(عَرَبِيًّا) نِسْبَةً إلى العَرَبِ، وإذْ قَدْ كانَ المَنسُوبُ كِتابًا ومَقْرُوءًا فَقَدِ اقْتَضى أنَّ نِسْبَتَهُ إلى العَرَبِ نِسْبَةُ الكَلامِ واللُّغَةِ إلى أهْلِها، أيْ هو مِمّا يَنْطِقُ العَرَبُ بِمِثْلِ ألْفاظِهِ، وبِأنْواعِ تَراكِيبِهِ.
وانْتَصَبَ قُرْآنًا عَلى الحالِ مِن مَفْعُولِ جَعَلْناهُ.
ومَعْنى جَعْلِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا تَكْوِينُهُ عَلى ما كُوِّنَتْ عَلَيْهِ لُغَةُ العَرَبِ، وأنَّ اللَّهَ بِباهِرِ حِكْمَتِهِ جَعَلَ هَذا الكِتابَ قُرْآنًا بِلُغَةِ العَرَبِ لِأنَّها أشْرَفُ اللُّغاتِ وأوْسَعُها دَلالَةً عَلى عَدِيدِ المَعانِي، وأنْزَلَهُ بَيْنَ أهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ لِأنَّهم أفْهَمُ لِدَقائِقِها، ولِذَلِكَ اصْطَفى رَسُولَهُ مِن أهْلِ تِلْكَ اللُّغَةِ لِتَتَظاهَرَ وسائِلُ الدَّلالَةِ والفَهْمِ فَيَكُونُوا المُبَلِّغِينَ مُرادَ اللَّهِ إلى الأُمَمِ. وإذا كانَ هَذا القُرْآنُ بِهاتِهِ المَثابَةِ فَلا يَأْبى مِن قَبُولِهِ إلّا قَوْمٌ مُسْرِفُونَ في الباطِلِ بُعَداءُ عَنِ الإنْصافِ والرُّشْدِ، ولَكِنَّ اللَّهَ أرادَ هَدْيَهم فَلا يُقْطَعُ عَنْهم ذِكْرُهُ حَتّى يَتِمَّ مُرادُهُ ويَكْمُلَ انْتِشارُ دِينِهِ فَعَلَيْهِمْ أنْ يُراجِعُوا عُقُولَهم ويَتَدَبَّرُوا إخْلاصَهم فَإنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُؤاخِذِهِمْ بِما سَلَفَ مِن إسْرافِهِمْ إنْ هم ثابُوا إلى رُشْدِهِمْ.
والمَقْصُودُ بِوَصْفِ الكِتابِ بِأنَّهُ عَرَبِيٌّ غَرَضانِ: أحَدُهُما التَّنْوِيهُ بِالقُرْآنِ، ومَدْحُهُ بِأنَّهُ مَنسُوجٌ عَلى مِنوالِ أفْصَحِ لُغَةٍ، وثانِيهِما التَّوَرُّكُ عَلى المُعانِدِينَ مِنَ العَرَبِ حِينَ لَمْ يَتَأثَّرُوا بِمَعانِيهِ بِأنَّهم كَمَن يَسْمَعُ كَلامًا بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَتِهِ، وهَذا تَأْكِيدٌ لِما تَضَمَّنَهُ الحَرْفانِ المُقَطَّعانِ المُفْتَتَحَةُ بِهِما السُّورَةُ مِن مَعْنى التَّحَدِّي بِأنَّ هَذا كِتابٌ بِلُغَتِكم وقَدْ عَجَزْتُمْ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِهِ.
وحَرْفُ (لَعَلَّ) مُسْتَعارٌ لِمَعْنى الإرادَةِ وتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ في أوائِلِ سُورَةِ البَقَرَةِ.
والعَقْلُ: الفَهْمُ.
والغَرَضُ: التَّعْرِيضُ بِأنَّهم أهْمَلُوا التَّدَبُّرَ في هَذا الكِتابِ وأنَّ كَمالَهُ في البَيانِ والإفْصاحِ نَسْتَأْهِلُ العِنايَةَ بِهِ لا الإعْراضَ عَنْهُ، فَقَوْلُهُ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ مُشْعِرٌ بِأنَّهم لَمْ يَعْقِلُوا.
والمَعْنى: أنّا يَسَّرْنا فَهْمَهُ عَلَيْكم لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ فَأعْرَضْتُمْ ولَمْ تَعْقِلُوا مَعانِيَهُ، (p-١٦٢)لِأنَّهُ قَدْ نَزَلَ مِقْدارٌ عَظِيمٌ لَوْ تَدَبَّرُوهُ لَعَقَلُوا، فَهَذا الخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْرِيضِ عَلى طَرِيقَةِ الكِنايَةِ.
{"ayahs_start":2,"ayahs":["وَٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡمُبِینِ","إِنَّا جَعَلۡنَـٰهُ قُرۡءَ ٰ نًا عَرَبِیࣰّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ"],"ayah":"إِنَّا جَعَلۡنَـٰهُ قُرۡءَ ٰ نًا عَرَبِیࣰّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق