الباحث القرآني
﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ﴾
اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِأنَّ ما سَبَقَهُ مِن عَجِيبِ خُلُقِ الإنْسانِ الَّذِي لَمْ يُهَذِّبْهُ الهَدْيُ الإلَهِيُّ يُثِيرُ في نَفْسِ السّامِعِ سُؤالًا عَنْ فَطْرِ الإنْسانِ عَلى هاذِينَ الخُلُقَيْنِ اللَّذَيْنِ (p-١٣٧)يَتَلَقّى بِهِما نِعْمَةَ رَبِّهِ وبَلاءَهُ وكَيْفَ لَمْ يُفْطَرْ عَلى الخُلُقِ الأكْمَلِ لِيَتَلَقّى النِّعْمَةَ بِالشُّكْرِ، والضُّرَّ بِالصَّبْرِ والضَّراعَةِ، وسُؤالًا أيْضًا عَنْ سَبَبِ إذاقَةِ الإنْسانِ النِّعْمَةَ مَرَّةً والبُؤْسَ مَرَّةً فَيَبْطَرُ ويَكْفُرُ وكَيْفَ لَمْ يَجْعَلْ حالَهُ كَفافًا لا لَذّاتَ لَهُ ولا بَلايا كَحالِ العَجْماواتِ فَكانَ جَوابُهُ: أنَّ اللَّهَ المُتَصَرِّفَ في السَّماواتِ والأرْضِ يَخْلُقُ فِيهِما ما يَشاءُ مِنَ الذَّواتِ وأحْوالِها. وهو جَوابٌ إجْمالِيٌّ إقْناعِيٌّ يُناسِبُ حَضْرَةَ التَّرَفُّعِ عَنِ الدُّخُولِ في المُجادَلَةِ عَنِ الشُّئُونِ الإلَهِيَّةِ.
وفِي قَوْلِهِ: ﴿يَخْلُقُ ما يَشاءُ﴾ مِنَ الإجْمالِ ما يَبْعَثُ المُتَأمِّلَ المُنْصِفَ عَلى تَطَلُّبِ الحِكْمَةِ في ذَلِكَ فَإنْ تَطَلَّبَها انْقادَتْ لَهُ كَما أوْمَأ إلى ذَلِكَ تَذْيِيلُ هَذِهِ الجُمْلَةِ بَقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: ٥٠]، فَكَأنَّهُ يَقُولُ: عَلَيْكم بِالنَّظَرِ في الحِكْمَةِ في مَراتِبِ الكائِناتِ وتَصَرُّفِ مُبْدِعِها، فَكَما خَلَقَ المَلائِكَةَ عَلى أكْمَلِ الأخْلاقِ في جَمِيعِ الأحْوالِ، وفَطَرَ الدَّوابَّ عَلى حَدٍّ لا يَقْبَلُ كَمالَ الخَلْقِ، كَذَلِكَ خَلَقَ الإنْسانَ عَلى أساسِ الخَيْرِ والشَّرِّ وجَعَلَهُ قابِلًا لِلزِّيادَةِ مِنهُما عَلى اخْتِلافِ مَراتِبِ عُقُولِ أفْرادِهِ وما يُحِيطُ بِها مِن الِاقْتِداءِ والتَّقْلِيدِ، وخَلَقَهُ كامِلَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ النِّعْمَةِ وضِدِّها لِيَرْتَفِعَ دَرَجاتٍ ويَنْحَطَّ دَرَكاتٍ مِمّا يَخْتارُهُ لِنَفْسِهِ، ولا يُلائِمُ فَطْرُ الإنْسانِ عَلى فِطْرَةِ المَلائِكَةِ حالَةَ عالَمِهِ المادِّيِّ إذْ لا تَأهُّلَ لِهَذا العالَمِ لِأنْ يَكُونَ سُكّانُهُ كالمَلائِكَةِ لِعَدَمِ المُلاءَمَةِ بَيْنَ عالَمِ المادَّةِ وعالَمِ الرُّوحِ. ولِذَلِكَ لَمّا تَمَّ خَلْقُ الفَرْدِ الأوَّلِ مِنَ الإنْسانِ وآنَ أوانُ تَصَرُّفِهِ مَعَ قَرِينَتِهِ بِحَسَبِ ما بَزَغَ فِيهِما مِنَ القُوى، لَمْ يَلْبَثْ أنْ نُقِلَ مِن عالَمِ المَلائِكَةِ إلى عالَمِ المادَّةِ كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ اهْبِطا مِنها جَمِيعًا﴾ [طه: ١٢٣] .
ولَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسُدَّ عَلى النَّوْعِ مَنافِذَ الكَمالِ فَخَلَقَهُ خَلْقًا وسَطًا بَيْنَ المَلَكِيَّةِ والبَهِيمِيَّةِ إذْ رَكَّبَهُ مِنَ المادَّةِ وأوْدَعَ فِيهِ الرُّوحَ ولَمْ يُخَلِّهِ عَنِ الإرْشادِ بِواسِطَةِ وُسَطاءَ وتَعاقُبِهِمْ في العُصُورِ وتَناقُلِ إرْشادِهِمْ بَيْنَ الأجْيالِ، فَإنِ اتَّبَعَ إرْشادَهُمُ التَحَقَ بِأخْلاقِ المَلائِكَةِ حَتّى يَبْلُغَ المَقاماتِ الَّتِي أقامَتْهُ في مَقامِ المُوازَنَةِ بَيْنَ بَعْضِ أفْرادِهِ وبَيْنَ المَلائِكَةِ في التَّفاضُلِ.
وقَدْ أشارَ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ اهْبِطا مِنها جَمِيعًا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ [طه: ١٢٣] ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ [طه: ١٢٤]، (p-١٣٨)وقَوْلُهُ: ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [طه: ١١٦] .
* * *
﴿يَهَبُ لِمَن يَشاءُ إناثًا ويَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذُّكُورَ﴾ ﴿أوْ يُزَوِّجُهم ذُكْرانًا وإناثًا ويَجْعَلُ مَن يَشاءُ عَقِيمًا﴾ [الشورى: ٥٠] بَدَلَ مِن جُمْلَةِ ﴿يَخْلُقُ ما يَشاءُ﴾ بَدَلَ اشْتِمالٍ لِأنَّ خَلْقَهُ ما يَشاءُ يَشْتَمِلُ عَلى هِبَتِهِ لِمَن يَشاءُ ما يَشاءُ.
وهَذا الإبْدالُ إدْماجُ مَثَلٍ جامِعٍ لِصُوَرِ إصابَةِ المَحْبُوبِ وإصابَةِ المَكْرُوهِ فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿ويَجْعَلُ مَن يَشاءُ عَقِيمًا﴾ [الشورى: ٥٠] هو مِنَ المَكْرُوهِ عِنْدَ غالِبِ البَشَرِ ويَتَضَمَّنُ ضَرْبًا مِن ضُرُوبِ الكُفْرانِ وهو اعْتِقادُ بَعْضِ النِّعْمَةِ سَيِّئَةً في عادَةِ المُشْرِكِينَ مِن تَطَيُّرِهِمْ بِوِلادَةِ البَناتِ لَهم، وقَدْ أُشِيرَ إلى التَّعْرِيضِ بِهِمْ في ذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الإناثِ عَلى الذُّكُورِ في ابْتِداءِ تَعْدادِ النِّعَمِ المَوْهُوبَةِ عَلى عَكْسِ العادَةِ في تَقْدِيمِ الذُّكُورِ عَلى الإناثِ حَيْثُما ذُكِرا في القُرْآنِ في نَحْوِ ﴿إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى﴾ [الحجرات: ١٣] وقَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ [القيامة: ٣٩] فَهَذا مِن دَقائِقِ هَذِهِ الآيَةِ.
والمُرادُ: يَهَبُ لِمَن يَشاءُ إناثًا فَقَطْ ويَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذُّكُورَ فَقَطْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: ﴿أوْ يُزَوِّجُهم ذُكْرانًا وإناثًا﴾ [الشورى: ٥٠] .
وتَنْكِيرُ (إناثًا) لِأنَّ التَّنْكِيرَ هو الأصْلُ في أسْماءِ الأجْناسِ وتَعْرِيفُ الذُّكُورِ بِاللّامِ لِأنَّهُمُ الصِّنْفُ المَعْهُودُ لِلْمُخاطَبِينَ، فاللّامُ لِتَعْرِيفِ الجِنْسِ وإنَّما يُصارُ إلى تَعْرِيفِ الجِنْسِ لِمَقْصِدٍ، أيْ يَهَبُ ذَلِكَ الصِّنْفَ الَّذِي تَعْهَدُونَهُ وتَتَحَدَّثُونَ بِهِ وتَرْغَبُونَ فِيهِ عَلى حَدِّ قَوْلِ العَرَبِ: أرْسَلَها العِراكُ، وتَقَدَّمَ في أوَّلِ الفاتِحَةِ. و(أوْ) لِلتَّقْسِيمِ.
والتَّزْوِيجُ قَرْنُ الشَّيْءِ بِشَيْءٍ آخَرَ فَيَصِيرانِ زَوْجًا. ومِن مَجازِهِ إطْلاقُهُ عَلى إنْكاحِ الرَّجُلِ امْرَأةً لِأنَّهُما يَصِيرانِ كالزَّوْجِ، والمُرادُ هُنا: جَعَلَهم زَوْجًا في الهِبَةِ، أيْ يَجَمْعُ لِمَن يَشاءُ فَيَهَبُ لَهُ ذُكْرانًا مُشْفَعِينَ بِإناثٍ فالمُرادُ التَّزْوِيجُ بِصِنْفٍ آخَرَ لا مُقابَلَةُ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الصِّنْفِ بِفَرْدٍ مِنَ الصِّنْفِ الآخَرِ.
(p-١٣٩)والضَّمِيرُ في (يُزَوِّجُهم) عائِدٌ إلى كُلٍّ مِنَ الإناثِ والذُّكُورِ. وانْتَصَبَ ﴿ذُكْرانًا وإناثًا﴾ [الشورى: ٥٠] عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ الجَمْعِ في (يُزَوِّجُهم) .
والعَقِيمُ: الَّذِي لا يُولَدُ لَهُ مِن رَجُلٍ أوِ امْرَأةٍ، وفِعْلُهُ عَقِمَ مِن بابِ فَرِحَ وعَقُمَ مِن بابِ كَرُمَ. وأصْلُ فِعْلِهِ أنْ يَتَعَدّى إلى المَفْعُولِ؛ يُقالُ عَقَمَها اللَّهُ مِن بابِ ضَرَبَ، ويُقالُ عُقِمَتِ المَرْأةُ بِالبِناءِ لِلْمَجْهُولِ، أيْ عَقَمَها عاقِمٌ لِأنَّ سَبَبَ العُقْمِ مَجْهُولٌ عِنْدَهم. فَهو مِمّا جاءَ مُتَعَدِّيًا وقاصِرًا، فالقاصِرُ بِضَمِّ القافِ وكَسْرِها والمُتَعَدِّي بِفَتْحِها، والعَقِيمُ: فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، فَلِذَلِكَ اسْتَوى فِيهِ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ غالِبًا، ورُبَّما ظَهَرَتِ التّاءُ نادِرًا؛ قالُوا: رَحِمٌ عَقِيمَةٌ.
{"ayah":"لِّلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ یَهَبُ لِمَن یَشَاۤءُ إِنَـٰثࣰا وَیَهَبُ لِمَن یَشَاۤءُ ٱلذُّكُورَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











