الباحث القرآني
﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إلَهَ إلّا هو إلَيْهِ المَصِيرُ﴾ .
أُجْرِيَتْ عَلى اسْمِ اللَّهِ سِتَّةُ نُعُوتٍ مَعارِفُ، بَعْضُها بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ وبَعْضُها بِالإضافَةِ إلى مُعَرَّفٍ بِالحَرْفِ.
ووَصْفُ اللَّهِ بِوَصْفَيِ العَزِيزِ العَلِيمِ هُنا تَعْرِيضٌ بِأنَّ مُنْكِرِي تَنْزِيلِ الكِتابِ مِنهُ مَغْلُوبُونَ مَقْهُورُونَ، وبِأنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّهُ نُفُوسُهم فَهو مُحاسِبُهم عَلى ذَلِكَ، ورَمْزٌ إلى أنَّ القُرْآنَ كَلامُ العَزِيزِ العَلِيمِ فَلا يَقْدِرُ غَيْرُ اللَّهِ عَلى مِثْلِهِ ولا يَعْلَمُ غَيْرُ اللَّهِ أنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ.
وهَذا وجْهُ المُخالَفَةِ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ ونَظِيرَتِها مِن أوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ الَّتِي جاءَ فِيها وصْفُ العَزِيزِ الحَكِيمِ، عَلى أنَّهُ يَتَأتّى في الوَصْفِ بِالعِلْمِ ما تَأتّى في بَعْضِ احْتِمالاتِ وصْفِ الحَكِيمِ في سُورَةِ الزُّمَرِ. ويَتَأتّى في الوَصْفَيْنِ أيْضًا ما تَأتّى هُنالِكَ مِن طَرِيقِ إعْجازِ القُرْآنِ.
وفِي ذِكْرِهِما رَمَزٌ إلى أنَّ اللَّهَ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ وأنَّهُ لا يُجارِي أهْواءَ النّاسِ فِيمَن يُرَشِّحُونَهُ لِذَلِكَ مِن كُبَرائِهِمْ ﴿وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] .
وفِي إتْباعِ الوَصْفَيْنِ العَظِيمَيْنِ بِأوْصافِ (﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ﴾) تَرْشِيحٌ لِذَلِكَ التَّعْرِيضِ كَأنَّهُ يَقُولُ: إنْ كُنْتُمْ أذْنَبْتُمْ بِالكُفْرِ بِالقُرْآنِ فَإنَّ تَدارُكَ ذَنْبِكم في مَكِنَتِكم لِأنَّ اللَّهَ مُقَرَّرٌ اتِّصافُهُ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ وبِغُفْرانِ الذَّنْبِ فَكَما غَفَرَ لِمَن تابُوا مِنَ الأُمَمِ فَقَبِلَ إيمانَهَمْ يَغْفِرُ لِمَن يَتُوبُ مِنكم.
وتَقْدِيمُ (غافِرِ) عَلى (قابِلِ التَّوْبِ) مَعَ أنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ في الحُصُولِ لِلِاهْتِمامِ (p-٨٠)بِتَعْجِيلِ الإعْلامِ بِهِ لِمَنِ اسْتَعَدَّ لِتَدارُكِ أمْرِهِ فَوَصْفُ ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ﴾ تَعْرِيضٌ بِالتَّرْغِيبِ، وصِفَتا ﴿شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ تَعْرِيضٌ بِالتَّرْهِيبِ.
والتَّوْبُ: مَصْدَرُ تابَ، والتَّوْبُ بِالمُثَنّاةِ والثَّوْبُ بِالمُثَلَّثَةِ والأوْبُ كُلُّها بِمَعْنى الرُّجُوعِ، أيِ الرُّجُوعِ إلى أمْرِ اللَّهِ وامْتِثالِهِ بَعْدَ الِابْتِعادِ عَنْهُ. وإنَّما عُطِفَتْ صِفَةُ (وقابَلِ التَّوْبِ) بِالواوِ عَلى صِفَةِ (غافِرِ الذَّنْبِ) ولَمْ تُفْصَلْ كَما فُصِلَتْ صِفَتا (العَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ) وصِفَةُ (شَدِيدِ العِقابِ) إشارَةٌ إلى نُكْتَةٍ جَلِيلَةٍ وهي إفادَةُ أنْ يَجْمَعَ لِلْمُذْنِبِ التّائِبِ بَيْنَ رَحْمَتَيْنِ بَيْنَ أنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُ فَيَجْعَلَها لَهُ طاعَةً، وبَيْنَ أنْ يَمْحُوَ عَنْهُ بِها الذُّنُوبَ الَّتِي تابَ مِنها ونَدِمَ عَلى فِعْلِها، فَيُصْبِحَ كَأنَّهُ لَمْ يَفْعَلْها. وهَذا فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ.
وقَوْلُهُ (شَدِيدِ العِقابِ) إفْضاءٌ بِصَرِيحِ الوَعِيدِ عَلى التَّكْذِيبِ بِالقُرْآنِ لِأنَّ مَجِيئَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ﴾ [غافر: ٢] يُفِيدُ أنَّهُ المَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ بِواسِطَةِ دَلالَةِ مُسْتَتْبِعاتِ التَّراكِيبِ.
والمُرادُ بِ (غافِرِ) و(قابَلِ) أنَّهُ مَوْصُوفٌ بِمَدْلُولَيْهِما فِيما مَضى إذْ لَيْسَ المُرادُ أنَّهُ سَيَغْفِرُ وسَيَقْبَلُ، فاسْمُ الفاعِلِ فِيهِما مَقْطُوعٌ عَنْ مُشابَهَةِ الفِعْلِ، وهو غَيْرُ عامِلٍ عَمَلَ الفِعْلِ، فَلِذَلِكَ يَكْتَسِبُ التَّعْرِيفَ بِالإضافَةِ الَّتِي تَزِيدُ تَقْرِيبَهُ مِنَ الأسْماءِ، وهو المَحْمَلُ الَّذِي لا يُناسِبُ غَيْرَهُ هُنا.
و(شَدِيدِ) صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُضافَةٌ لِفاعِلِها، وقَدْ وقَعَتْ نَعْتًا لِاسْمِ الجَلالَةِ اعْتِدادًا بِأنَّ التَّعْرِيفَ الدّاخِلَ عَلى فاعِلِ الصِّفَةِ يَقُومُ مَقامَ تَعْرِيفِ الصِّفَةِ فَلَمْ يُخالِفْ ما هو المَعْرُوفُ في الكَلامِ مِنَ اتِّحادِ النَّعْتِ والمَنعُوتِ في التَّعْرِيفِ واكْتِسابِ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ التَّعْرِيفَ بِالإضافَةِ هو قَوْلُ نُحاةِ الكُوفَةِ طَرْدًا لِبابِ التَّعْرِيفِ بِالإضافَةِ، وسِيبَوَيْهِ يُجَوِّزُ اكْتِسابَ الصِّفاتِ المُضافَةِ التَّعْرِيفَ بِالإضافَةِ إلّا الصِّفَةَ المُشَبَّهَةَ لِأنَّ إضافَتَها إنَّما هي لِفاعِلِها في المَعْنى لِأنَّ أصْلَ ما تُضافُ إلَيْهِ الصِّفَةُ المُشَبَّهَةُ أنَّهُ كانَ فاعِلًا فَكانَتْ إضافَتُها إلَيْهِ مُجَرَّدَ تَخْفِيفٍ لَفْظِيٍّ والخَطْبُ سَهُلٌ.
والطَّوْلُ يُطْلَقُ عَلى سَعَةِ الفَضْلِ وسَعَةِ المالِ، ويُطْلَقُ عَلى القُدْرَةِ كَما في القامُوسِ، وظاهِرُهُ الإطْلاقُ وأقَرَّهُ في تاجِ العَرُوسِ وجَعَلَهُ مِن مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ، (p-٨١)ووُقُوعُهُ مَعَ (شَدِيدِ العِقابِ) ومُزاوَجَتُها بِوَصْفَيْ ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ﴾ لِيُشِيرَ إلى التَّخْوِيفِ بِعَذابِ الآخِرَةِ مِن وصْفِ (شَدِيدِ العِقابِ)، وبِعَذابِ الدُّنْيا مِن وصْفِ (ذِي الطَّوْلِ) كَقَوْلِهِ ﴿أوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وعَدْناهم فَإنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾ [الزخرف: ٤٢]، وقَوْلُهُ ﴿قُلْ إنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يُنَزِّلَ آيَةً﴾ [الأنعام: ٣٧] .
وأعْقَبَ ذَلِكَ بِما يَدُلُّ عَلى الوَحْدانِيَّةِ وبِأنَّ المَصِيرَ، أيِ المَرْجِعَ إلَيْهِ تَسْجِيلًا لِبُطْلانِ الشِّرْكِ وإفْسادًا لِإحالَتِهِمُ البَعْثَ.
فَجُمْلَةُ (﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾) في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وأتْبَعَ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ (إلَيْهِ المَصِيُرُ) إنْذارًا بِالبَعْثِ والجَزاءِ لِأنَّهُ لَمّا أُجْرِيَتْ صِفاتُ ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ﴾ أُثِيرَ في الكَلامِ الإطْماعُ والتَّخْوِيفُ فَكانَ حَقِيقًا بِأنْ يَشْعُرُوا بِأنَّ المَصِيرَ إمّا إلى ثَوابِهِ وإمّا إلى عِقابِهِ فَلْيَزِنُوا أنْفُسَهم لِيَضَعُوها حَيْثُ يَلُوحُ مِن حالِهِمْ.
وتَقْدِيُمُ المَجْرُورِ في (إلَيْهِ المَصِيرُ) لِلِاهْتِمامِ ولِلرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ بِحَرْفَيْنِ: حَرْفِ لِينٍ، وحَرْفٍ صَحِيحٍ مِثْلَ: العَلِيمِ، والبِلادِ، وعِقابِ.
وقَدِ اشْتَمَلَتْ فاتِحَةُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلى ما يُشِيرُ إلى جَوامِعِ أغْراضِها ويُناسِبُ الخَوْضَ في تَكْذِيبِ المُشْرِكِينَ بِالقُرْآنِ ويُشِيرُ إلى أنَّهم قَدْ اعْتَزُّوا بِقُوَّتِهِمْ ومَكانَتِهِمْ وأنَّ ذَلِكَ زائِلٌ عَنْهم كَما زالَ عَنْ أُمَمٍ أشَدَّ مِنهم، فاسْتَوْفَتْ هَذِهِ الفاتِحَةُ كَمالَ ما يُطْلَبُ في فَواتِحِ الأغْراضِ مِمّا يُسَمّى بَراعَةَ المَطْلَعِ أوْ بَراعَةَ الِاسْتِهْلالِ.
{"ayah":"غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِیدِ ٱلۡعِقَابِ ذِی ٱلطَّوۡلِۖ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَیۡهِ ٱلۡمَصِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق