الباحث القرآني

(p-٢٣٣)﴿بَشِّرِ المُنافِقِينَ بِأنَّ لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ ﴿وقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكم في الكِتابِ أنْ إذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها ويُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهم حَتّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكم إذًا مِثْلُهم إنَّ اللَّهَ جامِعُ المُنافِقِينَ والكافِرِينَ في جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكم فَإنْ كانَ لَكم فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكم وإنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكم ونَمْنَعْكم مِنَ المُؤْمِنِينَ فاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكم يَوْمَ القِيامَةِ ولَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ . اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ ناشِئٌ عَنْ وصْفِ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا﴾ [النساء: ١٣٧]، فَإنَّ أُولَئِكَ كانُوا مُظْهِرِينَ الكُفْرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وكانَ ثَمَّةَ طائِفَةٌ تُبْطِنُ الكُفْرَ وهم أهْلُ النِّفاقِ، ولَمّا كانَ التَّظاهُرُ بِالإيمانِ ثُمَّ تَعْقِيبُهُ بِالكُفْرِ ضَرْبًا مِنَ التَّهَكُّمِ بِالإسْلامِ وأهْلِهِ، جِيءَ في جَزاءِ عَمَلِهِمْ بِوَعِيدٍ مُناسِبٍ لِتَهَكُّمِهِمْ بِالمُسْلِمِينَ، فَجاءَ بِهِ عَلى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ إذْ قالَ ”﴿بَشِّرِ المُنافِقِينَ﴾“، فَإنَّ البِشارَةَ هي الخَبَرُ بِما يَفْرَحُ المُخْبَرُ بِهِ، ولَيْسَ العَذابُ كَذَلِكَ. ولِلْعَرَبِ في التَّهَكُّمِ أسالِيبُ كَقَوْلِ شَقِيقِ بْنِ سُلَيْكٍ الأسَدِيِّ: ؎أتانِي مِن أبِي أنَسٍ وعِيدٌ فَسُلَّ لِغَيْظَةِ الضَّحّاكِ جِسْمِي وقَوْلِ النّابِغَةِ: ؎فَإنَّكَ سَوْفَ تَحْلُمُ أوْ تَناهى ∗∗∗ إذا ما شِبْتَ أوْ شابَ الغُرابُ وقَوْلِ ابْنِ زَيّابَةَ: ؎نُبِّئْتُ عَمْرًا غارِزًا رَأْسَهُ ∗∗∗ في سِنَةٍ يُوعِدُ أخْوالَهُ ؎وتِلْكَ مِنهُ غَيْرُ مَأْمُونَةٍ ∗∗∗ أنْ يَفْعَلَ الشَّيْءَ إذا قالَهُ (p-٢٣٤)ومَجِيءُ صِفَتِهِمْ بِطَرِيقَةِ المَوْصُولِ لِإفادَةِ تَعْلِيلِ اسْتِحْقاقِهِمُ العَذابَ الألِيمَ، أيْ لِأنَّهُمُ اتَّخَذُوا الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أيِ اتَّخَذُوهم أوْلِياءَ لِأجْلِ مُضادَّةِ المُؤْمِنِينَ. والمُرادُ بِالكافِرِينَ مُشْرِكُو مَكَّةَ، أوْ أحْبارُ اليَهُودِ، لِأنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِالمَدِينَةِ مُشْرِكُونَ صُرَحاءُ في وقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَيْسَ إلّا مُنافِقُونَ ويَهُودُ. وجُمْلَةُ ﴿أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ بِاعْتِبارِ المَعْطُوفِ وهو ﴿فَإنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ﴾ وقَوْلُهُ ”أيَبْتَغُونَ“ هو مَنشَأُ الِاسْتِئْنافِ، وفي ذَلِكَ إيماءٌ إلى أنَّ المُنافِقِينَ لَمْ تَكُنْ مُوالاتُهم لِلْمُشْرِكِينَ لِأجْلِ المُماثَلَةِ في الدِّينِ والعَقِيدَةِ، لِأنَّ مُعْظَمَ المُنافِقِينَ مِنَ اليَهُودِ، بَلِ اتَّخَذُوهم لِيَعْتَزُّوا بِهِمْ عَلى المُؤْمِنِينَ، وإيماءً إلى أنَّ المُنافِقِينَ شَعَرُوا بِالضَّعْفِ فَطَلَبُوا الِاعْتِزازَ، وفي ذَلِكَ نِهايَةُ التَّجْهِيلِ والذَّمِّ. والِاسْتِفْهامُ إنْكارٌ وتَوْبِيخٌ، ولِذَلِكَ صَحَّ التَّفْرِيعُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ ﴿فَإنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ أيْ لا عِزَّةَ إلّا بِهِ، لِأنَّ الِاعْتِزازَ بِغَيْرِهِ باطِلٌ. كَما قِيلَ: مَنِ اعْتَزَّ بِغَيْرِ اللَّهِ هانَ. وإنْ كانَ المُرادُ بِالكافِرِينَ اليَهُودَ فالِاسْتِفْهامُ تَهَكُّمٌ بِالفَرِيقَيْنِ كَقَوْلِ المَثَلِ: ؎كالمُسْتَغِيثِ مِنَ الرَّمْضاءِ بِالنّارِ . وهَذا الكَلامُ يُفِيدُ التَّحْذِيرَ مِن مُخالَطَتِهِمْ بِطَرِيقِ الكِنايَةِ. وجُمْلَةُ ﴿وقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكم في الكِتابِ﴾ إلَخْ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ ﴿بَشِّرِ المُنافِقِينَ﴾ تَذْكِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ بِما كانُوا أُعْلِمُوا بِهِ مِمّا يُؤَكِّدُ التَّحْذِيرَ مِن مُخالَطَتِهِمْ، فَضَمِيرُ الخِطابِ مُوَجَّهٌ إلى المُؤْمِنِينَ، وضَمائِرُ الغَيْبَةِ إلى المُنافِقِينَ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ ”يَتَّخِذُونَ“، فَيَكُونُ ضَمِيرُ الخِطابِ في قَوْلِهِ ﴿وقَدْ نُزِّلَ عَلَيْكُمْ﴾ خِطابًا لِأصْحابِ الصِّلَةِ مِن قَوْلِهِ ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ﴾ عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ، كَأنَّهم بَعْدَ أنْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الصِّلَةُ صارُوا مُعَيَّنِينَ مَعْرُوفِينَ، فالتُفِتَ إلَيْهِمْ بِالخِطابِ، لِأنَّهم يَعْرِفُونَ أنَّهم أصْحابُ تِلْكَ الصِّلَةِ، فَلَعَلَّهم أنْ يُقْلِعُوا عَنْ مُوالاةِ الكافِرِينَ. وعَلَيْهِ فَضَمِيرُ الخِطابِ لِلْمُنافِقِينَ، وضَمائِرُ الغَيْبَةِ لِلْكافِرِينَ، والَّذِي نُزِّلَ في الكِتابِ هو آياتٌ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ في القُرْآنِ: في شَأْنِ كُفْرِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ واسْتِهْزائِهِمْ. قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّ الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ هُنا هو قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ الأنْعامِ ﴿وإذا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فَأعْرِضْ عَنْهم حَتّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [الأنعام: ٦٨] لِأنَّ شَأْنَ الكافِرِينَ يَسْرِي إلى الَّذِينَ يَتَّخِذُونَهم أوْلِياءَ، والظّاهِرُ أنِ الَّذِي أحالَ اللَّهُ عَلَيْهِ هو ما (p-٢٣٥)تَكَرَّرَ في القُرْآنِ مِن قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ في البَقَرَةِ ﴿وإذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إنّا مَعَكم إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤] مِمّا حَصَلَ مِن مَجْمُوعِهِ تَقَرُّرُ هَذا المَعْنى. و”أنْ“ في قَوْلِهِ ﴿أنْ إذا سَمِعْتُمْ﴾ تَفْسِيرِيَّةٌ، لِأنَّ ”نُزِّلَ“ تَضَمَّنَ مَعْنى الكَلامِ دُونَ حُرُوفِ القَوْلِ، إذْ لَمْ يَقْصِدْ حِكايَةَ لَفْظِ ”ما نُزِّلَ“ بَلْ حاصِلَ مَعْناهُ. وجَعَلَها بَعْضُهم مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ واسْمَها ضَمِيرَ شَأْنٍ مَحْذُوفًا، وهو بَعِيدٌ. وإسْنادُ الفِعْلَيْنِ: ”يُكْفَرُ“ و”يُسْتَهْزَأُ“ إلى المَجْهُولِ لِتَتَأتّى، بِحَذْفِ الفاعِلِ، صَلاحِيَةُ إسْنادِ الفِعْلَيْنِ إلى الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ. وفِيهِ إيماءٌ إلى أنَّ المُنافِقِينَ يَرْكَنُونَ إلى المُشْرِكِينَ واليَهُودِ لِأنَّهم يَكْفُرُونَ بِالآياتِ ويَسْتَهْزِئُونَ، فَتَنْثَلِجُ لِذَلِكَ نُفُوسُ المُنافِقِينَ، لِأنَّ المُنافِقِينَ لا يَسْتَطِيعُونَ أنْ يَتَظاهَرُوا بِذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَشْفِي غَلِيلَهم أنْ يَسْمَعَ المُسْلِمُونَ ذَلِكَ مِنَ الكُفّارِ. وقَدْ جُعِلَ زَمانُ كُفْرِهِمْ واسْتِهْزائِهِمْ هو زَمَنُ سَماعِ المُؤْمِنِينَ آياتِ اللَّهِ. والمَقْصُودُ أنَّهُ زَمَنُ نُزُولِ آياتِ اللَّهِ أوْ قِراءَةِ آياتِ اللَّهِ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إلى سَماعِ المُؤْمِنِينَ، لِيُشِيرَ إلى عَجِيبِ تَضادِّ الحالَيْنِ، فَفي حالَةِ اتِّصافِ المُنافِقِينَ بِالكُفْرِ بِاللَّهِ والهَزْلِ بِآياتِهِ يَتَّصِفُ المُؤْمِنُونَ بِتَلَقِّي آياتِهِ والإصْغاءِ إلَيْها وقَصْدِ الوَعْيِ لَها والعَمَلِ بِها. وأعْقَبَ ذَلِكَ بِتَفْرِيعِ النَّهْيِ عَنْ مُجالَسَتِهِمْ في تِلْكَ الحالَةِ حَتّى يَنْتَقِلُوا إلى غَيْرِها، لِئَلّا يَتَوَسَّلَ الشَّيْطانُ بِذَلِكَ إلى اسْتِضْعافِ حِرْصِ المُؤْمِنِينَ عَلى سَماعِ القُرْآنِ، لِأنَّ لِلْأخْلاقِ عَدْوى، وفي المَثَلِ ؎تُعْدِي الصِّحاحَ مَبارِكُ الجُرْبِ . وهَذا النَّهْيُ يَقْتَضِي الأمْرَ بِمُغادَرَةِ مَجالِسِهِمْ إذا خاضُوا في الكُفْرِ بِالآياتِ والِاسْتِهْزاءِ بِها. وفي النَّهْيِ عَنِ القُعُودِ إلَيْهِمْ حِكْمَةٌ أُخْرى: وهي وُجُوبُ إظْهارِ الغَضَبِ لِلَّهِ مِن ذَلِكَ كَقَوْلِهِ ﴿تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكم مِنَ الحَقِّ﴾ [الممتحنة: ١] . و”حَتّى“ حَرْفٌ يَعْطِفُ غايَةَ الشَّيْءِ عَلَيْهِ، فالنَّهْيُ عَنِ القُعُودِ مَعَهم غايَتُهُ أنْ يَكُفُّوا عَنِ الخَوْضِ في الكُفْرِ بِالآياتِ والِاسْتِهْزاءِ بِها. وهَذا الحُكْمُ تَدْرِيجٌ في تَحْرِيمِ مُوالاةِ المُسْلِمِينَ لِلْكافِرِينَ، جُعِلَ مَبْدَأُ ذَلِكَ أنْ لا يَحْضُرُوا مَجالِسَ كُفْرِهِمْ لِيَظْهَرَ التَّمايُزُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ الخُلَّصِ وبَيْنَ المُنافِقِينَ، ورُخِّصَ (p-٢٣٦)لَهُمُ القُعُودُ مَعَهم إذْ خاضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِ حَدِيثِ الكُفْرِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكم وإخْوانَكم أوْلِياءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلى الإيمانِ ومَن يَتَوَلَّهم مِنكم فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [التوبة: ٢٣] ﴿قُلْ إنْ كانَ آباؤُكم وأبْناؤُكم وإخْوانُكم وأزْواجُكم وعَشِيرَتُكم وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكم مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ﴾ [التوبة: ٢٤] . وجُعِلَ جَوابُ القُعُودِ مَعَهُمُ المَنهِيُّ عَنْهُ أنَّهم إذا لَمْ يَنْتَهُوا عَنِ القُعُودِ مَعَهم يَكُونُونَ مِثْلَهم في الِاسْتِخْفافِ بِآياتِ اللَّهِ إذْ قالَ ﴿إنَّكم إذًا مِثْلُهُمْ﴾ فَإنَّ ”إذَنْ“ حَرْفُ جَوابٍ وجَزاءٍ لِكَلامٍ مَلْفُوظٍ بِهِ أوْ مُقَدَّرٍ. والمُجازاةُ هُنا لِكَلامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنِ القُعُودِ مَعَهُمْ؛ فَإنَّ التَّقْدِيرَ: إنْ قَعَدْتُمْ مَعَهم إذَنْ إنَّكم مِثْلُهم. ووُقُوعُ إذَنْ جَزاءً لِكَلامٍ مُقَدَّرٍ شائِعٌ في كَلامِ العَرَبِ كَقَوْلِ العَنْبَرِيِّ: ؎لَوْ كُنْتُ مِن مازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إبِلِي ∗∗∗ بَنُو اللَّقِيطَةِ مِن ذُهْلِ بْنِ شَيْبانا ؎إذَنْ لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ ∗∗∗ عِنْدَ الحَفِيظَةِ إنْ ذُو لَوْثَةٍ لانا . قالَ المَرْزُوقِيُّ في شَرْحِ الحَماسَةِ: وفائِدَةُ ”إذَنْ“ هو أنَّهُ أخْرَجَ البَيْتَ الثّانِيَ مَخْرَجَ جَوابِ قائِلٍ لَهُ: ولَوِ اسْتَباحُوا ماذا كانَ يَفْعَلُ بَنُو مازِنٍ ؟ فَقالَ: إذَنْ لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ. قُلْتُ: ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وما كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لارْتابَ المُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٨] . التَّقْدِيرُ: فَلَوْ كُنْتَ تَتْلُو وتَخُطُّ إذَنْ لارْتابَ المُبْطِلُونَ. فَقَدْ عُلِمَ أنَّ الجَزاءَ في قَوْلِهِ إنَّكم إذَنْ مِثْلُهم عَنِ المَنهِيِّ عَنْهُ لا عَنِ النَّهْيِ، كَقَوْلِ الرّاجِزِ، وهو مِن شَواهِدِ اللُّغَةِ والنَّحْوِ: ؎لا تَتْرُكَنِّي فِيهِمْ شَطِيرا ∗∗∗ إنِّي إذَنْ أهْلِكَ أوْ أطِيرا . والظّاهِرُ أنَّ فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ كانُوا يَجْلِسُونَ هَذِهِ المَجالِسَ فَلا يُقْدِمُونَ عَلى تَغْيِيرِ هَذا ولا يَقُومُونَ عَنْهم تَقِيَّةً لَهم فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وهَذِهِ المُماثَلَةُ لَهم خارِجَةٌ مَخْرَجَ التَّغْلِيظِ والتَّهْدِيدِ والتَّخْوِيفِ، ولا يَصِيرُ المُؤْمِنُ مُنافِقًا بِجُلُوسِهِ إلى المُنافِقِينَ، وأُرِيدَ المُماثَلَةُ في المَعْصِيَةِ لا في مِقْدارِها، أيْ أنَّكم تَصِيرُونَ مِثْلَهم في التَّلَبُّسِ بِالمَعاصِي. (p-٢٣٧)وقَوْلُهُ ﴿إنَّ اللَّهَ جامِعُ المُنافِقِينَ والكافِرِينَ في جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ تَحْذِيرٌ مِن أنْ يَكُونُوا مِثْلَهم، وإعْلامٌ بِأنَّ الفَرِيقَيْنِ سَواءٌ في عَدَواةِ المُؤْمِنِينَ، ووَعِيدٌ لِلْمُنافِقِينَ بِعَدَمِ جَدْوى إظْهارِهِمُ الإسْلامَ لَهم. وجُمْلَةُ ”الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكم“ صِفَةٌ لِلْمُنافِقِينَ وحْدَهم بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﴿وإنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ . والتَّرَبُّصُ حَقِيقَةً في المُكْثِ بِالمَكانِ، وقَدْ مَرَّ قَوْلُهُ ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وهو مَجازٌ في الِانْتِظارِ وتَرَقُّبِ الحَوادِثِ. وتَفْصِيلُهُ قَوْلُهُ ﴿فَإنْ كانَ لَكم فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ﴾ الآياتِ. وجُعِلَ ما يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ فَتْحًا لِأنَّهُ انْتِصارٌ دائِمٌ، ونُسِبَ إلى اللَّهِ لِأنَّهُ مُقَدِّرُهُ ومُرِيدُهُ بِأسْبابٍ خَفِيَّةٍ ومُعْجِزاتٍ بَيِّنَةٍ. والمُرادُ بِالكافِرِينَ هُمُ المُشْرِكُونَ مِن أهْلِ مَكَّةَ وغَيْرُهم لا مَحالَةَ، إذْ لا حَظَّ لِلْيَهُودِ في الحَرْبِ، وجُعِلَ ما يَحْصُلُ لَهم مِنَ النَّصْرِ نَصِيبًا تَحْقِيرًا لَهُ، والمُرادُ نَصِيبٌ مِنَ الفَوْزِ في القِتالِ. والِاسْتِحْواذُ: الغَلَبَةُ والإحاطَةُ، أبْقَوُا الواوَ عَلى أصْلِها ولَمْ يَقْلِبُوها ألِفًا بَعْدَ الفَتْحَةِ عَلى خِلافِ القِياسِ. وهَذا أحَدُ الأفْعالِ الَّتِي صُحِّحَتْ عَلى خِلافِ القِياسِ مِثْلَ: اسْتَجْوَبَ، وقَدْ يَقُولُونَ: اسْتَحاذَ عَلى القِياسِ كَما يَقُولُونَ: اسْتَجابَ واسْتَصابَ. والِاسْتِفْهامُ تَقْرِيرِيٌّ. ومَعْنى ﴿ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ ألَمْ نَتَوَلَّ شُئُونَكم ونُحِيطْ بِكم إحاطَةَ العِنايَةِ والنُّصْرَةِ ﴿ونَمْنَعْكم مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ أيْ مِن أنْ يَنالَكم بِأْسُهم، فالمَنعُ هُنا إمّا مَنعٌ مَكْذُوبٌ يُخَيِّلُونَهُ الكُفّارَ واقِعًا وهو الظّاهِرُ، وإمّا مَنعٌ تَقْدِيرِيٌّ وهو كَفُّ النُّصْرَةِ عَنِ المُؤْمِنِينَ، والتَّجَسُّسُ عَلَيْهِمْ بِإبْلاغِ أخْبارِهِمْ لِلْكافِرِينَ، وإلْقاءُ الأراجِيفِ والفِتَنِ بَيْنَ جُيُوشِ المُؤْمِنِينَ، وكُلُّ ذَلِكَ مِمّا يُضْعِفُ بَأْسَ المُؤْمِنِينَ إنْ وقَعَ، وهَذا القَوْلُ كانَ يَقُولُهُ مَن يَنْدَسُّ مِنَ المُنافِقِينَ في جَيْشِ المُسْلِمِينَ في الغَزَواتِ، وخاصَّةً إذا كانَتْ جُيُوشُ المُشْرِكِينَ قُرْبَ المَدِينَةِ مِثْلَ غَزْوَةِ الأحْزابِ. وقَوْلُهُ ﴿فاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكم يَوْمَ القِيامَةِ﴾ الفاءُ لِلْفَصِيحَةِ، والكَلامُ إنْذارٌ لِلْمُنافِقِينَ وكِفايَةٌ لِمُهِمِّ المُؤْمِنِينَ، بِأنْ فُوِّضَ أمْرُ جَزاءِ المُنافِقِينَ عَلى مَكائِدِهِمْ وخُزَعْبِلاتِهِمْ إلَيْهِ تَعالى. (p-٢٣٨)وقَوْلُهُ ﴿ولَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ تَثْبِيتٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِأنَّ مِثْلَ هَذِهِ الأخْبارِ عَنْ دَخائِلِ الأعْداءِ وتَألُّبِهِمْ: مِن عَدُوٍّ مُجاهِرٍ بِكُفْرِهِ، وعَدُوٍّ مُصانِعٍ مُظْهِرٍ لِلْأُخُوَّةِ، وبَيانُ هَذِهِ الأفْعالِ الشَّيْطانِيَّةِ البالِغَةِ أقْصى المَكْرِ والحِيلَةِ يُثِيرُ مَخاوِفَ في نُفُوسِ المُسْلِمِينَ وقَدْ يُخَيِّلُ لَهم مَهاوِيَ الخَيْبَةِ في مُسْتَقْبَلِهِمْ، فَكانَ مِن شَأْنِ التَّلَطُّفِ بِهِمْ أنْ يُعَقِّبَ ذَلِكَ التَّحْذِيرَ بِالشَّدِّ عَلى العَضُدِ، والوَعْدِ بِحُسْنِ العاقِبَةِ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِأنْ لا يَجْعَلَ لِلْكافِرِينَ، وإنْ تَألَّبَتْ عِصاباتُهم، واخْتَلَفَتْ مَناحِي كُفْرِهِمْ، سَبِيلًا عَلى المُؤْمِنِينَ. والمُرادُ بِالسَّبِيلِ طَرِيقُ الوُصُولِ إلى المُؤْمِنِينَ بِالهَزِيمَةِ والغَلَبَةِ، بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِعَلى، ولِأنَّ سَبِيلَ العَدُوِّ إلى عَدُوِّهِ هو السَّعْيُ إلى مَضَرَّتِهِ، ولَوْ قالَ لَكَ الحَبِيبُ: لا سَبِيلَ إلَيْكَ، لَتَحَسَّرْتَ؛ ولَوْ قالَ لَكَ العَدُوُّ: لا سَبِيلَ إلَيْكَ، لَتَهَلَّلْتَ بِشْرًا، فَإذا عُدِّيَ بِعَلى صارَ نَصًّا في سَبِيلِ الشَّرِّ والأذى. فالآيَةُ وعْدٌ مَحْضُ دُنْيَوِيٍّ، ولَيْسَتْ مِنَ التَّشْرِيعِ في شَيْءٍ، ولا مِن أُمُورِ الآخِرَةِ في شَيْءٍ لِنُبُوِّ المَقامِ عَنْ هَذَيْنِ. فَإنْ قُلْتَ: إذا كانَ وعْدًا لَمْ يَجُزْ تَخَلُّفُهُ، ونَحْنُ نَرى الكافِرِينَ يَنْتَصِرُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ انْتِصارًا بَيِّنًا، ورُبَّما تَمَلَّكُوا بِلادَهم وطالَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ تَأْوِيلُ هَذا الوَعْدِ. قُلْتُ: إنْ أُرِيدَ بِالكافِرِينَ والمُؤْمِنِينَ الطّائِفَتانِ المَعْهُودَتانِ بِقَرِينَةِ القِصَّةِ فالإشْكالُ زائِلٌ، لِأنَّ اللَّهَ جَعَلَ عاقِبَةَ النَّصْرِ أيّامَئِذٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وقَطَعَ دابِرَ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَلَمْ يَلْبَثُوا أنْ ثُقِفُوا وأُخِذُوا وقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ودَخَلَتْ بَقِيَّتُهم في الإسْلامِ فَأصْبَحُوا أنْصارًا لِلدِّينِ؛ وإنْ أُرِيدَ العُمُومُ فالمَقْصُودُ مِنَ المُؤْمِنِينَ المُؤْمِنُونَ الخُلَّصُ الَّذِينَ تَلَبَّسُوا بِالإيمانِ بِسائِرِ أحْوالِهِ وأُصُولِهِ وفُرُوعِهِ، ولَوِ اسْتَقامَ المُؤْمِنُونَ عَلى ذَلِكَ لَما نالَ الكافِرُونَ مِنهم مَنالًا، ولَدَفَعُوا عَنْ أنْفُسِهِمْ خَيْبَةً وخَبالًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب