الباحث القرآني
”﴿وأشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّها ووُضِعَ الكِتابُ وجِيءَ بِالنَّبِيئِينَ والشُّهَداءِ وقُضِيَ بَيْنَهم بِالحَقِّ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ ﴿ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وهْوَ أعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ﴾“ .
صَوَّرَتْ هَذِهِ الآياتُ جَلالَ ذَلِكَ المَوْقِفِ وجَمالَهُ أبْدَعَ تَصْوِيرٍ والتَّعْرِيفُ في الأرْضِ تَعْرِيفُ العَهْدِ الذِّكْرِيِّ الضِّمْنِيِّ فَقَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ ﴿فَإذا هم قِيامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨] أنَّهم قِيامٌ عَلى قَرارٍ فَإنَّ القِيامَ يَسْتَدْعِي مَكانًا تَقُومُ فِيهِ تِلْكَ الخَلائِقُ وهو أرْضُ الحَشْرِ وهي السّاهِرَةُ في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ النّازِعاتِ ﴿فَإنَّما هي زَجْرَةٌ واحِدَةٌ﴾ [النازعات: ١٣] ﴿فَإذا هم بِالسّاهِرَةِ﴾ [النازعات: ١٤] وفُسِّرَتْ بِأنَّها الأرْضُ البَيْضاءُ النَّقِيَّةُ ولَيْسَ المُرادُ الأرْضَ الَّتِي كانُوا عَلَيْها في الدُّنْيا فَإنَّها قَدِ اضْمَحَلَّتْ قالَ تَعالى ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ﴾ [إبراهيم: ٤٨] .
وإشْراقُ الأرْضِ انْتِشارُ الضَّوْءِ عَلَيْها، يُقالُ: أشْرَقَتِ الأرْضُ، ولا يُقالُ: أشْرَقَتِ الشَّمْسُ، كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ (﴿بِالعَشِيِّ والإشْراقِ﴾ [ص: ١٨]) في سُورَةِ (ص) .
وإضافَةُ النُّورِ إلى الرَّبِّ إضافَةُ تَعْظِيمٍ لِأنَّهُ مُنْبَعِثٌ مِن جانِبِ القُدْسِ وهو الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ﴾ [النور: ٣٥] الآيَةَ مِن سُورَةِ النُّورِ. فَإضافَةُ نُورِ الرَّبِّ إضافَةُ تَشْرِيفٍ لِلْمُضافِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿هَذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكم آيَةً﴾ [الأعراف: ٧٣] كَما أنَّ إضافَةَ ”رَبِّ“ إلى ضَمِيِرِ الأرْضِ لِتَشْرِيفِ المُضافِ إلَيْهِ، أيْ بِنُورٍ خاصٍّ خَلَقَهُ اللَّهُ فِيها لا بِسُطُوعِ مِصْباحٍ ولا بِنُورِ كَوْكَبِ شَمْسٍ أوْ غَيْرِها، وإذْ قَدْ كانَ النُّورُ نُورًا ذاتِيًّا لِتِلْكَ الأرْضِ كانَ إشارَةً إلى خُلُوصِها مِن ظُلُماتِ الأعْمالِ فَدَلَّ عَلى أنَّ ما يَجْرِي عَلى تِلْكَ الأرْضِ مِنَ الأعْمالِ والأحْداثِ حَقٌّ وكَمالٌ في بابِهِ لِأنَّ عالَمَ الأنْوارِ لا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِن ظُلُماتِ الأعْمالِ، ألا تَرى أنَّ العالَمَ الأرْضِيَّ لَمّا لَمْ يَكُنْ نَيِّرًا بِذاتِهِ بَلْ كانَ نُورُهُ مُقْتَبَسًا مِن شُرُوقِ الشَّمْسِ والكَواكِبِ لَيْلًا كانَ ما عَلى وجْهِ الأرْضِ مِنَ الأعْمالِ والمَخْلُوقاتِ (p-٦٧)خَلِيطًا مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ. وهَذا يُغْنِي عَنْ جَعْلِ النُّورِ مُسْتَعارًا لِلْعَدْلِ فَإنَّ ذَلِكَ المَعْنى حاصِلٌ بِدَلالَةِ الِالتِزامِ كِنايَةً، ولَوْ حُمِلَ النُّورُ عَلى مَعْنى العَدْلِ لَكانَ أقَلَّ شُمُولًا لِأحْوالِ الحَقِّ والكَمالِ وهو يُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ ﴿وقُضِيَ بَيْنَهم بِالحَقِّ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ . هَذا هو الوَجْهُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ وقَدْ ذَهَبَ فِيها المُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ والخَلْفِ طَرائِقَ شَتّى.
والكِتابُ تَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الجِنْسِ، أيْ وُضِعَتِ الكُتُبُ وهي صَحائِفُ أعْمالِ العِبادِ أُحْضِرَتْ لِلْحِسابِ بِما فِيها مِن صالِحٍ وسَيِّئٍ.
والوَضْعُ: الحَطُّ، والمُرادُ بِهِ هُنا الإحْضارُ.
ومَجِيءُ النَّبِيِّينَ لِلشَّهادَةِ عَلى أُمَمِهِمْ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١] في سُورَةِ النِّساءِ.
والشُّهَداءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ وهو الشّاهِدُ، قالَ تَعالى ﴿وجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وشَهِيدٌ﴾ [ق: ٢١] في سُورَةِ (ق) . والمُرادُ الشُّهَداءُ مِنَ المَلائِكَةِ الحَفَظَةِ المُوَكَّلِينَ بِإحْصاءِ أعْمالِ العِبادِ.
وضَمِيرُ (بَيْنَهم) عائِدٌ إلى ﴿مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ﴾ [الزمر: ٦٨] أيْ قُضِيَ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالكِتابِ كُتُبَ الشَّرائِعِ الَّتِي شَرَعَها اللَّهُ لِلْعِبادِ عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ ويَكُونُ إحْضارُها شاهِدَةً عَلى الأُمَمِ بِتَفاصِيلِ ما بَلَّغَهُ الرُّسُلُ إلَيْهِمْ لِئَلّا يَزْعُمُوا أنَّهم لَمْ تَبْلُغْهُمُ الأحْكامُ.
وقَدْ صَوَّرَتِ الآيَةُ صُورَةَ المَحْكَمَةِ الكامِلَةِ الَّتِي أشْرَقَتْ بِنُورِ العَدْلِ، وصَدْرَ الحُكْمُ عَلى ما يَسْتَحِقُّهُ المَحْكُومُ فِيهِمْ مِن كَرامَةٍ ونَذالَةٍ، ولِذَلِكَ قالَ ﴿وقُضِيَ بَيْنَهم بِالحَقِّ﴾ أيْ صَدَرَ القَضاءُ فِيهِمْ بِما يَسْتَحِقُّونَ وهو مُسَمّى الحَقِّ، فَمِنَ القَضاءِ ما هو فَصْلٌ بَيْنَ النّاسِ في مُعامَلاتِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ مِن كُلِّ ظالِمٍ ومَظْلُومٍ ومُعْتَدٍ ومُعْتَدى عَلَيْهِ في اخْتِلافِ المُعْتَقَداتِ واخْتِلافِ المُعامَلاتِ قالَ تَعالى ﴿إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [يونس: ٩٣] .
(p-٦٨)ومِنَ القَضاءِ القَضاءُ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما هي بِهِ حَقِيقَةٌ مِن مَرْتَبَةِ الثَّوابِ أوِ العِقابِ وهو قَوْلُهُ ﴿ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ﴾ .
فَقَضاءُ اللَّهِ هو القَضاءُ العامُّ الَّذِي لا يَقْتَصِرُ عَلى أنْصافِ المُتَداعِينَ كَقَضاءِ القاضِي، ولا عَلى سُلُوكِ الدّاعِرِينَ كَقَضاءِ والِي الشُّرْطَةِ، ولا عَلى مُراقَبَةِ المُغِيرِينَ كَقَضاءِ والِي الحِسْبَةِ، ولَكِنَّهُ قَضاءٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما اعْتَدَتْ وفِيما سَلَكَتْ وفِيما بَدَّلَتْ، ويَزِيدُ عَلى ذَلِكَ بِأنَّهُ قَضاءٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما اخْتَلَتْ بِهِ مِن عَمَلٍ وبِما أضْمَرَتْهُ مِن ضَمائِرَ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وإلى ذَلِكَ تُشِيرُ المَراتِبُ الثَّلاثُ في الآيَةِ: مَرْتَبَةُ ﴿وقُضِيَ بَيْنَهم بِالحَقِّ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾، ومَرْتَبَةُ ﴿ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ﴾، ومَرْتَبَةُ ﴿وهُوَ أعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ﴾ .
والتَّوْفِيَةُ: إعْطاءُ الشَّيْءِ وافِيًا لا نَقْصَ فِيهِ عَنِ الحَقِّ في إعْطائِهِ ولا عَنْ عَطاءِ أمْثالِهِ.
وفِي قَوْلِهِ (ما عَمِلَتْ) مُضافٌ مَحْذُوفٌ، أيْ جَزاءُ ما عَمِلَهُ المَرْءُ لا يُوَفّاهُ بَعْدَ أنْ عَمِلَهُ وإنَّما يُوَفّى جَزاءَهُ.
والقَوْلُ في الأفْعالِ الماضَوِيَّةِ في قَوْلِهِ ”وأشْرَقَتْ، ووُضِعَ، وجِيءَ، ووُفِّيَتْ“ كالقَوْلِ في قَوْلِهِ ﴿ونُفِخَ في الصُّورِ﴾ [الزمر: ٦٨] .
{"ayahs_start":69,"ayahs":["وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَـٰبُ وَجِا۟یۤءَ بِٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَقُضِیَ بَیۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ","وَوُفِّیَتۡ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا یَفۡعَلُونَ"],"ayah":"وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَـٰبُ وَجِا۟یۤءَ بِٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَقُضِیَ بَیۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق