الباحث القرآني
﴿لَهم مِن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ ومِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ﴿ألا ذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ﴾ [الزمر: ١٥] وخُصَّ بِالإبْدالِ لِأنَّهُ أشَدُّ خُسْرانَهِمْ عَلَيْهِمْ لِتَسَلُّطِهِ عَلى إهْلاكِ أجْسامِهِمْ. والخُسْرانُ يَشْتَمِلُ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الخِزْيِ وغَضَبِ اللَّهِ واليَأْسِ مِنَ النَّجاةِ. فَضَمِيرُ ”لَهم“ عائِدٌ إلى مَجْمُوعِ أنْفُسِهِمْ وأهْلِيهِمْ.
والظُّلَلُ: اسْمُ جَمْعِ ظُلَّةٍ، وهي شَيْءٌ مُرْتَفِعٌ مِن بِناءٍ أوْ أعْوادٍ مِثْلُ الصُّفَّةِ يَسْتَظِلُّ بِهِ الجالِسُ تَحْتَهُ، مُشْتَقَّةُ مِنَ الظِّلِّ لِأنَّها يَكُونُ لَها ظِلٌّ في الشَّمْسِ، وتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إلّا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ ﴿وإذا غَشِيَهم مَوْجٌ كالظُّلَلِ﴾ [لقمان: ٣٢] في سُورَةِ لُقْمانَ. وهي هُنا اسْتِعارَةٌ لِلطَّبَقَةِ الَّتِي تَعْلُو أهْلَ النّارِ في نارِ جَهَنَّمَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ مِنَ النّارِ، شُبِّهَتْ بِالظُّلَّةِ في العُلُوِّ والغَشَيانِ (p-٣٦٢)مَعَ التَّهَكُّمِ لِأنَّهم يَتَمَنَّوْنَ ما يَحْجُبُ عَنْهم حَرَّ النّارِ فَعَبَّرَ عَنْ طَبَقاتِ النّارِ بِالظُّلَلِ إشارَةً إلى أنَّهم لا واقِيَ لَهم مِن حَرِّ النّارِ عَلى نَحْوِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وقَوْلُهُ ”لَهم“ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعارَةِ.
وأمّا إطْلاقُ الظُّلَلِ عَلى الطَّبَقاتِ الَّتِي تَحْتَهم فَهو مِن بابِ المُشاكَلَةِ ولِأنَّ الطَّبَقاتِ الَّتِي تَحْتَهم مِنَ النّارِ تَكُونُ ظُلَلًا لِكُفّارٍ آخَرِينَ لِأنَّ جَهَنَّمَ دَرَكاتٌ كَثِيرَةٌ.
* * *
﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ﴾ تَذْيِيلٌ لِلتَّهْدِيدِ بِالوَعِيدِ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ إنَّ الخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمُ﴾ [الزمر: ١٥] الآيَةَ، أوِ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ بِتَقْدِيرِ سُؤالٍ يَخْطُرُ في نَفْسِ السّامِعِ لِوَصْفِ عَذابِهِمْ بِأنَّهُ ظِلٌّ مِنَ النّارِ مِن فَوْقِهِمْ وظِلٌّ مِن تَحْتِهِمْ أنْ يَقُولَ سائِلُ: ما يَقَعُ إعْدادُ العَذابِ لَهم في الآخِرَةِ بَعْدَ فَواتِ تَدارُكِ كُفْرِهِمْ ؟ فَأُجِيبَ بِأنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ العَذابَ في الآخِرَةِ لِتَخْوِيفِ اللَّهِ عِبادَهُ حِينَ يَأْمُرُهم بِالِاسْتِقامَةِ ويُشَرِّعُ لَهُمُ الشَّرائِعَ لِيَعْلَمُوا أنَّهم إذا لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ورُسُلِهِ تَكُونُ ذَلِكَ عاقِبَتُهم. ولَمّا كانَ وعِيدُ اللَّهِ خَبَرًا مِنهُ ولا يَكُونُ إلّا صِدْقًا حَقَّقَ لَهم في الآخِرَةِ ما تَوَعَّدَهم بِهِ في الحَياةِ، وتَخْوِيفُ اللَّهِ بِهِ مَعْناهُ أنَّهُ يُخَوِّفُهم بِالإخْبارِ بِهِ وبِوَصْفِهِ، أمّا إذاقَتُهم إيّاهُ فَهي تَحْقِيقٌ لِلْوَعِيدِ.
ويُعْلَمُ مِن هَذا بِطْرِيقِ المُقابَلَةِ جَعْلُ الجَنَّةِ لِتَرْغِيبِ عِبادِهِ في التَّقْوى، إلّا أنَّهُ طَوى ذِكْرَهُ لِأنَّ السِّياقَ مَوْعِظَةُ أهْلِ الشِّرْكِ، فاللَّهُ جَعَلَ الجَنَّةَ وجَهَنَّمَ إتْمامًا لِحِكْمَتِهِ ومُرادِهِ مِن نِظامِ الحَياةِ الدُّنْيا لِيَكُونَ النّاسُ فِيها عَلى أكْمَلِ ما تَرْتَقِي إلَيْهِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ. والظّاهِرُ أنَّ الجَنَّةَ جَعَلَها اللَّهُ مَسْكَنًا لِأهْلِ النُّفُوسِ المُقَدَّسَةِ مِنَ المَلائِكَةِ والنّاسِ مِثْلَ الرُّسُلِ؛ فَلِذَلِكَ هي مَخْلُوقَةٌ مِن قَبْلِ ظُهُورِ التَّكْلِيفِ، وأمّا جَهَنَّمُ فَيُحْتَمَلُ أنَّها مُقَدَّمَةٌ وهو ظاهِرُ حَدِيثِ «اشْتَكَتِ النّارُ إلى رَبِّها فَقالَتْ: أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأذِنَ لَها بِنَفَسَيْنِ نَفْسٍ في الشِّتاءِ ونَفْسٍ في الصَّيْفِ»، ويُحْتَمَلُ أنَّها تُخْلَقُ يَوْمَ الجَزاءِ ويُتَأوَّلُ الحَدِيثُ.
وقَوْلُهُ تَعالى ذَلِكَ إشارَةٌ إلى ما وصَفَ مِنَ الخُسْرانِ والعَذابِ بِتَأْوِيلِ المَذْكُورِ.
(p-٣٦٣)والتَّخْوِيفُ مَصْدَرُ خَوَّفَهُ، إذا جَعَلَهُ خائِفًا إذا أراهُ ووَصَفَ لَهُ شَيْئًا يُثِيرُ في نَفْسِهِ الخَوْفَ، وهو الشُّعُورُ بِما يُؤْلِمُ النَّفْسَ بِواسِطَةِ إحْدى الحَواسِّ الخَمْسِ.
والعِبادُ المُضافُ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ في المَوْضِعَيْنِ هُنا يَعُمُّ كُلَّ عَبْدٍ مِنَ النّاسِ مِن مُؤْمِنٍ وكافِرٍ إذِ الجَمِيعُ يَخافُونَ العَذابَ عَلى العِصْيانِ، والعَذابُ مُتَفاوِتٌ؛ وأقْصاهُ: الخُلُودُ لِأهْلِ الشِّرْكِ، ولَيْسَ العِبادُ هُنا مُرادًا بِهِ أهلُ القُرْبِ لِأنَّهُ لا يُناسِبُ مَقامَ التَّخْوِيفِ ولِأنَّ قَرِينَةَ قَوْلِهِ ”عِبادَهُ“ تَدُلُّ عَلى أنَّ المُنادَيْنَ جَمِيعُ العِبادِ، فَفُرِّقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ نَحْوِ ﴿يا عِبادِي لا خَوْفَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ﴾ [الزخرف: ٦٨] .
* * *
﴿يا عِبادِ فاتَّقُونِ﴾ تَفْرِيعٌ وتَعْقِيبٌ لِجُمْلَةِ ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ﴾ لِأنَّ التَّخْوِيفَ مُؤْذِنُ بِأنَّ العَذابَ أُعِدَ لِأهْلِ العِصْيانِ فَناسَبَ أنْ يُعْقَبَ بِأمْرِ النّاسِ بِالتَّقْوى لِلتَّفادِي مِنَ العَذابِ.
وقُدِّمَ النِّداءُ عَلى التَّفْرِيعِ مَعَ أنَّ مُقْتَضى الظّاهِرِ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿واتَّقُونِ يا أُولِي الألْبابِ﴾ [البقرة: ١٩٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ لِأنَّ المَقامَ هُنا مَقامُ تَحْذِيرٍ وتَرْهِيبٍ، فَهو جَدِيرٌ بِاسْتِرْعاءِ ألْبابِ المُخاطَبِينَ إلى ما سَيَرِدُ مِن بَعْدُ مِنَ التَّفْرِيعِ عَلى التَّخْوِيفِ بِخِلافِ آيَةِ البَقَرَةِ فَإنَّها في سِياقِ التَّرْغِيبِ في إكْمالِ أعْمالِ الحَجِّ والتَّزَوُّدِ لِلْآخِرَةِ فَلِذَلِكَ جاءَ الأمْرُ بِالتَّقْوى فِيها مَعْطُوفًا بِالواوِ.
وحُذِفَتْ ياءُ المُتَكَلِّمِ مِن قَوْلِهِ يا عِبادِ عَلى أحَدِ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ في المُنادى المُضافِ إلى ياءِ المُتَكَلِّمِ.
{"ayah":"لَهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ ظُلَلࣱ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحۡتِهِمۡ ظُلَلࣱۚ ذَ ٰلِكَ یُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِۦ عِبَادَهُۥۚ یَـٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق