الباحث القرآني

﴿وجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سُدًّا ومِن خَلْفِهِمْ سُدًّا﴾ هَذا ارْتِقاءٌ في حِرْمانِهِمْ مِنَ الِاهْتِداءِ لَوْ أرادُوا تَأمُّلًا بِأنَّ فَظاظَةَ قُلُوبِهِمْ لا تَقْبَلُ الِاسْتِنْتاجَ مِنَ الأدِلَّةِ والحُجَجِ بِحَيْثُ لا يَتَحَوَّلُونَ عَمّا هم فِيهِ، فَمُثِّلَتْ حالُهم بِحالَةِ مَن جُعِلُوا بَيْنَ سَدَّيْنِ، أيْ جِدارَيْنِ: سَدًّا أمامَهم، وسَدًّا خَلْفَهم، فَلَوْ رامُوا (p-٣٥١)تَحَوُّلًا عَنْ مَكانِهِمْ وسَعْيَهِمْ إلى مُرادِهِمْ لَما اسْتَطاعُوهُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَما اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ولا يَرْجِعُونَ﴾ [يس: ٦٧]، وقَوْلِ أبِي الشِّيصِ: ؎وقَفَ الهَوى بِي حَيْثُ أنْتَ فَلَيْسَ لِي مُتَأخَّرٌ عَنْهُ ولا مُتَقَدَّمُ وقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ في قَوْلِ. ؎ومِنَ الحَوادِثِ لا أبالَكَ أنَنِـي ∗∗∗ ضُرِبَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بِالأسْدادِ ؎لا أهْتَدِي فِيها لِمَوْضِعِ تَلْـعَةِ ∗∗∗ بَيْنَ العَذِيبِ وبَيْنَ أرْضِ مُرادِ وتَقَدَّمَ السَّدُّ في سُورَةِ الكَهْفِ. وفِي مَفاتِيحِ الغَيْبِ: مانِعُ الإيمانِ: إمّا أنْ يَكُونَ في النَّفْسِ، وإمّا أنْ يَكُونَ خارِجًا عَنْها. ولَهُمُ المانِعانِ جَمِيعًا: أمّا في النَّفْسِ فالغُلُّ، وأمّا مِنَ الخارِجِ فالسَّدُّ فَلا يَقَعُ نَظَرُهم عَلى أنْفُسِهِمْ فَيَرَوُا الآياتِ الَّتِي في أنْفُسِهِمْ لِأنَّ المُقْمَحَ لا يَرى نَفْسَهُ، ولا يَقَعُ نَظَرُهم عَلى الآفاقِ لِأنَّ مَن بَيْنَ السَّدَّيْنِ لا يُبْصِرُونَ الآفاقَ فَلا تَتَبَيَّنُ لَهُمُ الآياتُ كَما قالَ تَعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] . وإعادَةُ فَعْلِ و”جَعَلْنا“ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ في مَعْنى قَوْلِهِ ﴿إنّا جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ أغْلالًا﴾ [يس: ٨] الآيَةَ، تَأْكِيدٌ لِهَذا الجَعْلِ، وأمّا عَلى الوَجْهِ الثّانِي في مَعْنى ﴿إنّا جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ أغْلالًا﴾ [يس: ٨] فَإعادَةُ فِعْلِ و”جَعَلْنا“ لِأنَّهُ جَعْلٌ حاصِلٌ في الدُّنْيا فَهو مُغايِرٌ لِلْجَعْلِ الحاصِلِ يَوْمَ القِيامَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ”سُدًّا“ بِالضَّمِّ وهو اسْمُ الجِدارِ الَّذِي يَسُدُّ بَيْنَ داخِلٍ وخارِجٍ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ وخَلَفٌ بِالفَتْحِ وهو مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ ما يُسَدُّ بِهِ. * * * ﴿فَأغْشَيْناهم فَهم لا يُبْصِرُونَ﴾ تَفْرِيعٌ عَلى كِلا المَفْعُولَيْنِ ﴿جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ أغْلالًا﴾ [يس: ٨] و﴿جَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا ومِن خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ لِأنَّ في كِلا الفِعْلَيْنِ مانِعًا مِن أحْوالِ النَّظَرِ. وفِي الكَلامِ اكْتِفاءٌ عَنْ ذِكْرِ ما يَتَفَرَّعُ ثانِيًا عَلى تَمْثِيلِهِمْ بِمَن جُعِلُوا بَيْنَ سَدَّيْنِ مِن عَدَمِ اسْتِطاعَةِ التَّحَوُّلِ عَمّا هم عَلَيْهِ. (p-٣٥٢)والإغْشاءُ: وضْعُ الغِشاءِ. وهو ما يُغَطِّي الشَّيْءَ. والمُرادُ: أغْشَيْنا أبْصارَهم، فَفي الكَلامِ حَذْفُ مُضافٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّياقُ، وأكَّدَهُ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ فَهم لا يُبْصِرُونَ، وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى المُسْنَدِ الفِعْلِيِّ لِإفادَةِ تَقَوِّي الحُكْمِ، أيْ: تَحْقِيقِ عَدَمِ إبْصارِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب