الباحث القرآني
﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلًا أصْحابَ القَرْيَةِ إذْ جاءَها المُرْسَلُونَ﴾ ﴿إذْ أرْسَلْنا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إنّا إلَيْكم مُرْسَلُونَ﴾ أعْقَبَ وصْفَ إعْراضِهِمْ وغَفْلَتِهِمْ عَنِ الِانْتِفاعِ بِهَدْيِ القُرْآنِ بِتَهْدِيدِهِمْ (p-٣٥٨)بِعَذابِ الدُّنْيا؛ إذْ قَدْ جاءَ في آخِرِ هَذِهِ القِصَّةِ قَوْلُهُ ﴿إنْ كانَتْ إلّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإذا هم خامِدُونَ﴾ [يس: ٢٩] .
والضَّرْبُ مَجازٌ مَشْهُورٌ في مَعْنى الوَضْعِ والجَعْلِ، ومِنهُ: ضَرَبَ خَتْمَهُ. وضَرَبْتُ بَيْتًا، وهو هُنا في الجَعْلِ وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما﴾ [البقرة: ٢٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والمَعْنى: اجْعَلْ أصْحابَ القَرْيَةِ والمُرْسَلِينَ إلَيْهِمْ شَبَهًا لِأهْلِ مَكَّةَ وإرْسالِكَ إلَيْهِمْ.
و”لَهم“ يَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ ”اضْرِبْ“ أيِ اضْرِبْ مَثَلًا لِأجْلِهِمْ، أيْ لِأجْلِ أنْ يَعْتَبِرُوا كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ضَرَبَ لَكم مَثَلًا مِن أنْفُسِكُمْ﴾ [الروم: ٢٨]، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لَهم صِفَةٌ لِـ ”مَثَلَ“، أيِ اضْرِبْ شَبِيهًا لَهم كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ﴾ [النحل: ٧٤] .
والمَثَلُ: الشَّبِيهُ، فَقَوْلُهُ ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلًا﴾ مَعْناهُ ونَظِّرْ مَثَلًا، أيْ شَبِّهْ حالَهم في تَكْذِيبِهِمْ بِكَ بِشَبِيهٍ مِنَ السّابِقَيْنَ، ولَمّا غَلَبَ المَثَلُ في المُشابِهِ في الحالِ وكانَ الضَّرْبُ أعَمَّ، جُعِلَ مَثَلًا مَفْعُولًا لِـ ”اضْرِبْ“، أيْ نَظِّرْ حالَهم بِمُشابِهٍ فِيها فَحَصَلَ الِاخْتِلافُ بَيْنَ اضْرِبْ ومَثَلًا بِالِاعْتِبارِ. وانْتَصَبَ مَثَلًا عَلى الحالِ.
وانْتَصَبَ (﴿أصْحابَ القَرْيَةِ﴾) عَلى البَيانِ لِـ ”مَثَلًا“، أوْ بَدَلٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا أوَّلَ لِـ ”اضْرِبْ“ و”مَثَلًا“ مَفْعُولًا ثانِيًا كَقَوْلِهِ تَعالى ”﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً﴾ [النحل: ١١٢]“ .
والمَعْنى: أنَّ حالَ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ كَحالِ أصْحابِ القَرْيَةِ المُمَثَّلِ بِهِمْ.
والقَرْيَةُ، قالَ المُفَسِّرُونَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ هي ”(أنْطاكِيَةُ)“ وهي مَدِينَةٌ بِالشّامِ مُتاخِمَةٌ لِبِلادِ اليُونانِ.
والمُرْسَلُونَ إلَيْها قالَ قَتادَةُ: هم مِنَ الحَوارِيِّينَ بَعَثَهم عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وكانَ ذَلِكَ حِينَ رُفِعَ عِيسى. وذَكَرُوا أسْماءَهم عَلى اخْتِلافٍ في ذَلِكَ.
(p-٣٥٩)وتَحْقِيقُ القِصَّةِ: أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَدْعُ إلى دِينِهِ غَيْرَ بَنِي إسْرائِيلَ ولَمْ يَكُنِ الدِّينُ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ إلّا تَكْمِلَةً لِما اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ الإلَهِيَّةُ إكْمالَهُ مِن شَرِيعَةِ التَّوْارَةِ، ولَكِنَّ عِيسى أوْصى الحَوارِيِّينَ أنْ لا يَغْفُلُوا عَنْ نَهْيِ النّاسِ عَنْ عِبادَةِ الأصْنامِ فَكانُوا إذا رَأوْا رُؤْيا أوْ خَطَرَ لَهم خاطِرٌ بِالتَّوَجُّهِ إلى بَلَدٍ مِن بِلادِ إسْرائِيلَ أوْ مِمّا جاوَرَها، أوْ خَطَرَ في نُفُوسِهِمْ إلْهامٌ بِالتَّوَجُّهِ إلى بَلَدٍ عَلِمُوا أنَّ ذَلِكَ وحْيٌ مِنَ اللَّهِ لِتَحْقِيقِ وصِيَّةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ. وكانَ ذَلِكَ في حُدُودِ سَنَةِ أرْبَعِينَ بَعْدَ مَوْلِدِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ.
ووَقَعَتِ اخْتِلافاتٌ لِلْمُفَسِّرِينَ في تَعْيِينِ الرُّسُلِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إلى أهْلِ أنْطاكِيَةَوَتَحْرِيفاتٌ في الأسْماءِ، والَّذِي يَنْطَبِقُ عَلى ما في كِتابِ أعْمالِ الرُّسُلِ مِن كُتُبِ العَهْدِ الجَدِيدِ أنَّ ”بِرْنابا“ و”شاوَل“ المَدْعُو ”بُولُس“ مِن تَلامِيذِ الحَوارِيِّينَ ووُصِفا بِأنَّهُما مِنَ الأنْبِياءِ، كانا في أنْطاكِيَةَ مُرْسَلَيْنِ لِلتَّعْلِيمِ، وأنَّهُما عُزِّزا بِالتِّلْمِيذِ ”سِيلا“ . وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أنَّ الثّالِثَ هو ”شَمْعُونُ“، لَكِنْ لَيْسَ في سِفْرِ الأعْمالِ ما يَقْتَضِي أنَّ بُولُس وبِرْنابا عُزِّزا بِسَمْعانَ. ووَقَعَ في الإصْحاحِ الثّالِثَ عَشَرَ مِنهُ أنَّهُ كانَ نَبِيٌّ في أنْطاكِيَةَ اسْمُهُ ”سَمْعانُ“ .
والمُكَذِّبُونَ هم مَن كانُوا سُكّانًا بِأنْطاكِيَةَ مِنَ اليَهُودِ واليُونانِ، ولَيْسَ في أعْمالِ الرُّسُلِ سِوى كَلِماتٍ مُجْمَلَةٍ عَنِ التَّكْذِيبِ والمُحاوَرَةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ المُرْسَلِينَ والمُرْسَلِ إلَيْهِمْ، فَذَكَرَ أنَّهُ كانَ هُنالِكَ نَفَرٌ مِنَ اليَهُودِ يَطْعَنُونَ في صِدْقِ دَعْوَةِ بُولُس وبِرْنابا ويُثِيرُونَ عَلَيْهِما نِساءَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِعِيسى مِن وُجُوهِ المَدِينَةِ مِنَ اليُونانِ وغَيْرِهِمْ، حَتّى اضْطُرَّ ”بُولُس وبِرْنابا“ إلى أنْ خَرَجا مِن أنْطاكِيَةَ وقَصَدا أيْقُونِيَّةَ وما جاوَرَها وقاوَمَهُما يَهُودُ بَعْضِ تِلْكَ المُدُنِ، وأنَّ أحْبارَ النَّصارى في تِلْكَ المَدائِنِ رَأوْا أنْ يُعِيدُوا بُولُس وبِرْنابا إلى أنْطاكِيَةَ. وبَعْدَ عَوْدَتِهِما حَصَلَ لَهُما ما حَصَلَ لَهُما في الأُولى وبِالخُصُوصِ في قَضِيَّةِ وُجُوبِ الخِتانِ عَلى مَن يَدْخُلُ في الدِّينِ، فَذَهَبَ بُولُس وبِرْنابا إلى أُورَشْلِيمَ لِمُراجَعَةِ الحَوارِيِّينَ فَرَأى أحْبارُ أُورَشْلِيمَ أنْ يُؤَيِّداهُما بِرَجُلَيْنِ (p-٣٦٠)مِنَ الأنْبِياءِ هُما ”بِرْسابا“ و”سِيلا“ . فَأمّا ”بِرْسابا“ فَلَمْ يَمْكُثْ. وأمّا ”سِيلا“ فَبَقِيَ مَعَ ”بُولُس وبِرْنابا“ يَعِظُونَ النّاسَ. ولَعَلَّ ذَلِكَ كانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إلَيْهِمْ وإلى أصْحابِهِمْ مِنَ الحَوارِيِّينَ. فَهَذا مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى ﴿إذْ أرْسَلْنا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ﴾ إذْ أرْسَلَنا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أسْنَدَ الإرْسالَ والتَّعْزِيزَ إلى اللَّهِ.
والتَّعْزِيزُ: التَّقْوِيَةُ، وفي هَذِهِ المادَّةِ مَعْنى جَعْلِ المُقَوّى عَزِيزًا، فالأحْسَنُ أنَّ التَّعْزِيزَ هو النَّصْرُ.
وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ ”فَعَزَزْنا“ بِتَخْفِيفِ الزّايِ الأُولى، وفِعْلُ عَزَّ بِمَعْنى يُحْيِي مُرادِفًا لِعَزَّزَ كَما قالُوا شَدَّ وشَدَّدَ. وقَرَأ الباقُونَ بِتَشْدِيدِ الزّايِ.
وتَأْكِيدُ قَوْلِهِمْ إنّا إلَيْكم مُرْسَلُونَ لِأجْلِ تَكْذِيبِهِمْ إيّاهم فَأكَّدُوا الخَبَرَ تَأْكِيدًا وسَطًا، ويُسَمّى هَذا ضَرْبًا طَلَبِيًّا.
وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ لِلِاهْتِمامِ بِأمْرِ المُرْسَلِ إلَيْهِمُ المَقْصُودِ إيمانِهِمْ بِعِيسى.
{"ayahs_start":13,"ayahs":["وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلًا أَصۡحَـٰبَ ٱلۡقَرۡیَةِ إِذۡ جَاۤءَهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ","إِذۡ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهِمُ ٱثۡنَیۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثࣲ فَقَالُوۤا۟ إِنَّاۤ إِلَیۡكُم مُّرۡسَلُونَ"],"ayah":"وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلًا أَصۡحَـٰبَ ٱلۡقَرۡیَةِ إِذۡ جَاۤءَهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق