الباحث القرآني
﴿إنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ والأرْضِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكم خَلائِفَ في الأرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ولا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ إلّا مَقْتًا ولا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهم إلّا خَسارًا﴾ جُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ اسْتِئْنافٌ واصِلٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [فاطر: ٣١] وبَيْنَ جُمْلَةِ ﴿قُلْ أراْيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مَن دُونِ اللَّهِ أرُونِي ماذا خَلَقُوا في الأرْضِ﴾ [فاطر: ٤٠] الآيَةَ، فَتَسَلْسَلَتْ مَعانِيهِ فَعادَ إلى فَذْلَكَةِ الغَرَضِ السّالِفِ المُنْتَقِلِ عَنْهُ مِن قَوْلِهِ ﴿وإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [فاطر: ٢٥] إلى قَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [فاطر: ٣١]، فَكانَتْ جُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ كالتَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [فاطر: ٣١] .
وفِي هَذا إيماءٌ إلى أنَّ اللَّهَ يُجازِي كُلَّ ذِي نِيَّةٍ عَلى حَسَبِ ما أضْمَرَهُ لِيَزْدادَ النَّبِيءُ ﷺ يَقِينًا بِأنَّ اللَّهَ عالِمٌ بِما يُكِنُّهُ المُشْرِكُونَ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ هي كالنَّتِيجَةِ لِجُمْلَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ لِأنَّ ما في الصُّدُورِ مِنَ الأُمُورِ المُغَيَّبَةِ فَيَلْزَمُ مِن عِلْمِ اللَّهِ بِغَيْبِ السَّماواتِ والأرْضِ عِلْمُهُ بِما في صُدُورِ النّاسِ.
وذاتِ الصُّدُورِ ضَمائِرِ النّاسِ ونِيّاتِهِمْ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ في سُورَةِ الأنْفالِ.
وجِيءَ في الإخْبارِ بِعِلْمِ اللَّهِ بِالغَيْبِ بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ، وفي الإخْبارِ بِعِلْمِهِ بِذاتِ الصُّدُورِ بِصِيغَةِ المُبالَغَةِ لِأنَّ المَقْصُودَ مِن إخْبارِ المُخاطَبِينَ تَنْبِيِهُهم عَلى أنَّهُ (p-٣٢٢)كِنايَةٌ عَنِ انْتِفاءِ أنْ يَفُوتَ عِلْمَهُ تَعالى شَيْءٌ. وذَلِكَ كِنايَةٌ عَنِ الجَزاءِ عَلَيْهِ فَهي كِنايَةٌ رَمْزِيَّةٌ.
وجُمْلَةُ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكم خَلائِفَ في الأرْضِ﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ الآيَةَ وبَيْنَ جُمْلَةِ ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ .
والخَلائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وهو الَّذِي يَخْلُفُ غَيْرَهُ في أمْرٍ كانَ لِذَلِكَ الغَيْرِ، كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَعْدَ أُمَمٍ مَضَتْ كَما في قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ جَعَلْناكم خَلائِفَ في الأرْضِ مِن بَعْدِهِمْ﴾ [يونس: ١٤] في سُورَةِ يُونُسَ فَيَكُونُ هَذا بَيانًا لِقَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ هو الَّذِي أوْجَدَكم في الأرْضِ فَكَيْفَ لا يَعْلَمُ ما غابَ في قُلُوبِكم كَما قالَ تَعالى ﴿ألا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ وهو اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾ [الملك: ١٤] ويَكُونُ ماصَدَقُ ضَمِيرِ جَماعَةِ المُخاطَبِينَ شامِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ وغَيْرِهِمْ مِنَ النّاسِ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: هو الَّذِي جَعَلَكم مُتَصَرِّفِينَ في الأرْضِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ويَسْتَخْلِفَكم في الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٢٩]، فَيَكُونَ الكَلامُ بِشارَةً لِلنَّبِيءِ ﷺ بِأنَّ اللَّهَ قَدَّرَ أنْ يَكُونَ المُسْلِمُونَ أهْلَ سُلْطانٍ في الأرْضِ بَعْدَ أُمَمٍ تَداوَلَتْ سِيادَةَ العالَمِ ويَظْهَرُ بِذَلِكَ دِينُ الإسْلامِ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ.
والجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مُفِيدَةٌ تُقَوِّي الحُكْمِ الَّذِي هو جَعْلُ اللَّهِ المُخاطَبِينَ خَلائِفَ في الأرْضِ.
وقَدْ تَفَرَّعَ عَلى قَوْلِهِ ﴿عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ قَوْلُهُ ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ وهو شَرْطٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنايَةً عَنْ عَدَمِ الِاهْتِمامِ بِأمْرِ دَوامِهِمْ عَلى الكُفْرِ.
وجُمْلَةُ ﴿ولا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ إلّا مَقْتًا﴾ بَيانٌ لِجُمْلَةِ ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ وكانَ مُقْتَضى ظاهِرِ هَذا المَعْنى أنْ لا تُعْطَفَ عَلَيْها لِأنَّ البَيانَ لا يُعْطَفُ عَلى المُبَيَّنِ، وإنَّما خُولِفَ ذَلِكَ لِلدَّلالَةِ عَلى الِاهْتِمامِ بِهَذا البَيانِ فَجُعِلَ مُسْتَقِلًّا بِالقَصْدِ إلى الإخْبارِ بِهِ فَعُطِفَتْ عَلى الجُمْلَةِ المُبَيَّنَةِ بِمَضْمُونِها تَنْبِيهًا عَلى ذَلِكَ الِاسْتِقْلالِ، وهَذا مَقْصِدٌ يَفُوتُ لَوْ تُرِكَ العَطْفُ، أمّا ما تُفِيدُهُ مِنَ البَيانِ فَهو أمْرٌ لا يَفُوتُ لِأنَّهُ تَقْتَضِيهِ نِسْبَةُ مَعْنى الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ مِن مَعْنى الجُمْلَةِ الأُولى.
(p-٣٢٣)والمَقْتُ: البُغْضُ مَعَ خِزْيٍ وصَغارٍ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا وساءَ سَبِيلًا﴾ [النساء: ٢٢] في سُورَةِ النِّساءِ، أيْ يَزِيدُهم مَقْتُ اللَّهِ إيّاهم، ومَقْتُ اللَّهِ مَجازٌ عَنْ لازِمِهِ وهو إمْساكُ لُطْفِهِ عَنْهم وجَزاؤُهم بِأشَدِّ العِقابِ.
وتَرْكِيبُ جُمْلَةِ ﴿ولا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ إلّا مَقْتًا﴾ تَرْكِيبٌ عَجِيبٌ لِأنَّ ظاهِرَهُ يَقْتَضِي أنَّ الكافِرِينَ كانُوا قَبْلَ الكُفْرِ مَمْقُوتِينَ عِنْدَ اللَّهِ، فَلَمّا كَفَرُوا زادَهم كُفْرُهم مَقْتًا عِنْدَهُ، في حالِ أنَّ الكُفْرَ هو سَبَبُ مَقْتِ اللَّهِ إيّاهم، ولَوْ لَمْ يَكْفُرُوا لَما مَقَتَهُمُ اللَّهُ. فَتَأْوِيلُ الآيَةِ: أنَّهم لَمّا وُصِفُوا بِالكُفْرِ ابْتِداءً ثُمَّ أخْبَرَ بِأنَّ كُفْرَهم يَزِيدُهم مَقْتًا عُلِمَ أنَّ المُرادَ بِكُفْرِهِمُ الثّانِي الدَّوامُ عَلى الكُفْرِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وقَدْ كانَ المُشْرِكُونَ يَتَكَبَّرُونَ عَلى المُسْلِمِينَ ويُشاقُّونَهم ويُؤَيِّسُونَهم مِنَ الطَّماعِيَّةِ في أنْ يَقْبَلُوا الإسْلامَ بِأنَّهم أعْظَمُ مِن أنْ يَتَّبِعُوهم وأنَّهم لا يُفارِقُونَ دِينَ آبائِهِمْ، ويَحْسَبُونَ ذَلِكَ مَقْتًا مِنهم لِلْمُسْلِمِينَ فَجازاهُمُ اللَّهُ بِزِيادَةِ المَقْتِ عَلى اسْتِمْرارِ الكُفْرِ، قالَ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أكْبَرُ مِن مَقْتِكم أنْفُسَكم إذْ تُدْعَوْنَ إلى الإيمانِ فَتَكْفُرُونَ﴾ [غافر: ١٠]، يَعْنِي: يُنادَوْنَ في المَحْشَرِ، وكَذَلِكَ القَوْلُ في مَعْنى قَوْلِهِ ﴿ولا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهم إلّا خَسارًا﴾ .
والخَسارُ: مَصْدَرُ خَسِرَ مِثْلُ الخَسارَةِ، وهو: نُقْصانُ التِّجارَةِ، واسْتُعِيرَ لِخَيْبَةِ العَمَلِ. شَبَّهَ عَمَلَهم في الكُفْرِ بِعَمَلِ التّاجِرِ والخاسِرِ، أيِ الَّذِي بارَتْ سِلْعَتُهُ فَباعَ بِأقَلَّ مِمّا اشْتَراها بِهِ فَأصابَهُ الخَسارُ فَكُلَّما زادَ بَيْعًا زادَتْ خَسارَتُهُ حَتّى تُفْضِيَ بِهِ إلى الإفْلاسِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ في آياتٍ كَثِيرَةٍ مِنها ما في سُورَةِ البَقَرَةِ.
{"ayahs_start":38,"ayahs":["إِنَّ ٱللَّهَ عَـٰلِمُ غَیۡبِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ","هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَیۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا یَزِیدُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتࣰاۖ وَلَا یَزِیدُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارࣰا"],"ayah":"إِنَّ ٱللَّهَ عَـٰلِمُ غَیۡبِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











