الباحث القرآني
﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا ألْوانُها﴾
اسْتِئْنافٌ فِيهِ إيضاحُ ما سَبَقَهُ مِنِ اخْتِلافِ أحْوالِ النّاسِ في قَبُولِ الهُدى ورَفْضِهِ بِسَبَبِ ما تَهَيَّأتْ خِلْقَةُ النُّفُوسِ إلَيْهِ لِيَظْهَرَ بِهِ أنَّ الِاخْتِلافَ بَيْنَ أفْرادِ الأصْنافِ والأنْواعِ نامُوسٌ جَبَلِيٌّ فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَخْلُوقاتِ هَذا العالَمِ الأرْضِيِّ.
والخِطابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ لِيَدْفَعَ عَنْهُ اغْتِمامَهُ مِن مُشاهَدَةِ عَدَمِ انْتِفاعِ المُشْرِكِينَ بِالقُرْآنِ.
وضُرِبَ اخْتِلافُ الظَّواهِرِ في أفْرادِ الصِّنْفِ الواحِدِ مَثَلًا لِاخْتِلافِ البَواطِنِ تَقْرِيبًا لِلْأفْهامِ، فَكانَ هَذا الِاسْتِئْنافُ مِن الِاسْتِئْنافِ البَيانِيِّ؛ لِأنَّ مِثْلَ هَذا التَّقْرِيبِ مِمّا تَشْرَئِبُّ إلَيْهِ الأفْهامُ عِنْدَ سَماعِ قَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشاءُ﴾ [فاطر: ٢٢] .
والرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، والِاسْتِفْهامُ تَقْرِيرِيٌّ، وجاءَ التَّقْرِيرُ عَلى النَّفْيِ عَلى ما هو المُسْتَعْمَلُ كَما بَيَّنّاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ألَمْ يَرَوْا أنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٤٨] في سُورَةِ (الأعْرافِ) وفي آياتٍ أُخْرى.
وضَمِيرُ فَأخْرَجْنا التِفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى التَّكَلُّمِ.
والألْوانُ: جَمْعُ لَوْنٍ وهو عَرَضٌ، أيْ كَيْفِيَّةٌ تَعْرِضُ لِسُطُوحِ الأجْسامِ يُكَيِّفُهُ النُّورُ كَيْفِيّاتٍ مُخْتَلِفَةً عَلى اخْتِلافِ ما يَحْصُلُ مِنها عِنْدَ انْعِكاسِها إلى عَدَساتِ الأعْيُنِ (p-٣٠١)مِن شِبْهِ الظُّلْمَةِ وهو لَوْنُ السَّوادِ وشِبْهِ الصُّبْحِ هو لَوْنُ البَياضِ، فَهُما الأصْلانِ لِلْألْوانِ، وتَنْشَقُّ مِنها ألْوانٌ كَثِيرَةٌ وُضِعَتْ لَها أسْماءٌ اصْطِلاحِيَّةٌ وتَشْبِيهِيَّةٌ. وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها﴾ [البقرة: ٦٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وتَقَدَّمَ في سُورَةِ النَّحْلِ.
والمَقْصُودُ مِن الِاعْتِبارِ هو اخْتِلافُ ألْوانِ الأصْنافِ مِنَ النَّوْعِ الواحِدِ كاخْتِلافِ ألْوانِ التُّفّاحِ مَعَ ألْوانِ السَّفَرْجَلِ، وألْوانِ العِنَبِ مَعَ ألْوانِ التِّينِ، واخْتِلافِ ألْوانِ الأفْرادِ مِنَ الصِّنْفِ الواحِدِ تاراتٍ كاخْتِلافِ ألْوانِ التُّمُورِ والزَّيْتُونِ والأعْنابِ والتُّفّاحِ والرُّمّانِ.
وذِكْرُ إنْزالِ الماءِ مِنَ السَّماءِ إدْماجٌ في الغَرَضِ لِلِاعْتِبارِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ مَعَ ما فِيهِ مِنِ اتِّحادِ أصْلِ نَشْأةِ الأصْنافِ والأنْواعِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿تُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الأُكُلِ﴾ [الرعد: ٤]، وذَلِكَ أرْعى لِلِاعْتِبارِ.
وجِيءَ بِالجُمْلَتَيْنِ الفِعْلِيَّتَيْنِ في ”أنْزَلَ“ وأخْرَجْنا لِأنَّ إنْزالَ الماءِ وإخْراجَ الثَّمَراتِ مُتَجَدِّدٌ آنًا فَآنًا.
والِالتِفاتُ مِنَ الغَيْبَةِ إلى التَّكَلُّمِ في قَوْلِهِ ”أنْزَلَ“ وقَوْلِهِ ”أخْرَجْنا“ لِأنَّ الِاسْمَ الظّاهِرَ أنْسَبُ بِمَقامِ الِاسْتِدْلالِ عَلى القُدْرَةِ لِأنَّهُ الِاسْمُ الجامِعُ لِمَعانِي الصِّفاتِ.
وضَمِيرُ التَّكَلُّمِ أنْسَبُ بِما فِيهِ امْتِنانٌ.
وقُدِّمَ الِاعْتِبارُ بِاخْتِلافِ أحْوالِ الثَّمَراتِ لِأنَّ في اخْتِلافِها سَعَةً تُشْبِهُ سَعَةَ اخْتِلافِ النّاسِ في المَنافِعِ والمَدارِكِ والعَقائِدِ. وفي الحَدِيثِ «مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ رِيحُها طَيِّبٌ وطَعْمُها طَيِّبٌ، ومَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُها طَيِّبٌ ولا رِيحَ لَها، ومَثَلُ المُنافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحانَةِ رِيحُها طَيِّبٌ وطَعْمُها مُرٌّ، ومَثَلُ المُنافِقِ الَّذِي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ طَعْمُها مُرٌّ ولا رِيحَ لَها» .
وجُرِّدَ مُخْتَلِفًا مِن عَلامَةِ التَّأْنِيثِ مَعَ أنَّ فاعِلَهُ جَمْعٌ وشَأْنُ النَّعْتِ السَّبَبِيِّ أنْ يُوافِقَ مَرْفُوعَهُ في التَّذْكِيرِ وضِدِّهِ والإفْرادِ وضِدِّهِ، ولا يُوافِقُ في ذَلِكَ مَنعُوتَهُ (p-٣٠٢)لِأنَّهُ لَمّا كانَ الفاعِلُ جَمْعًا لِما لا يَعْقِلُ وهو الألْوانُ كانَ حَذْفُ التّاءِ في مِثْلِهِ جائِزًا في الِاسْتِعْمالِ، وآثَرَهُ القُرْآنُ إيثارًا لِلْإيجازِ.
والمُرادُ بِالثَّمَراتِ: ثَمَراتُ النَّخِيلِ والأعْنابِ وغَيْرِها، فَثَمَراتُ النَّخِيلِ أكْثَرُ الثَّمَراتِ ألْوانًا، فَإنَّ ألْوانَها تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ أطْوارِها، فَمِنها الأخْضَرُ والأصْفَرُ والأحْمَرُ والأسْوَدُ.
* * *
﴿ومِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُها وغَرابِيبُ سُودٌ﴾
عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ﴾ فَهي مِثْلُها مُسْتَأْنَفَةٌ، وعَطْفُها عَلَيْها لِلْمُناسَبَةِ الظّاهِرَةِ.
وجُدَدٌ مُبْتَدَأٌ ﴿ومِنَ الجِبالِ﴾ خَبَرُهُ. وتَقْدِيمُ الخَبَرِ لِلِاهْتِمامِ ولِلتَّشْوِيقِ لِذِكْرِ المُبْتَدَأِ حَثًّا عَلى التَّأمُّلِ والنَّظَرِ.
و”مِن“ تَبْعِيضِيَّةٌ عَلى مَعْنى: وبَعْضُ تُرابِ الجِبالِ جُدَدٌ، فَفي الجَبَلِ الواحِدِ تُوجَدُ جُدَدٌ مُخْتَلِفَةٌ، وقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الجُدَدِ بَعْضُها في بَعْضِ الجِبالِ وبَعْضٌ آخَرُ في بَعْضٍ آخَرَ.
وجُدَدٌ: جَمْعُ جُدَّةٍ بِضَمِّ الجِيمِ، وهي الطَّرِيقَةُ والخُطَّةُ في الشَّيْءِ تَكُونُ واضِحَةً فِيهِ. يُقالُ لِلْخُطَّةِ السَّوْداءِ الَّتِي عَلى ظَهْرِ الحِمارِ جُدَّةٌ، ولِلظَّبْيِ جُدَّتانِ مِسْكِيَّتا اللَّوْنِ تَفْصِلانِ بَيْنَ لَوْنَيْ ظَهْرِهِ وبَطْنِهِ، والجُدَدُ البِيضُ الَّتِي في الجِبالِ هي ما كانَتْ صُخُورًا بَيْضاءَ مِثْلَ المَرْوَةِ، أوْ كانَتْ تَقْرُبُ مِنَ البَياضِ فَإنَّ مِنَ التُّرابِ ما يَصِيرُ في لَوْنِ الأهْصَبِ فَيُقالُ: تُرابٌ أبْيَضُ، ولا يَعْنُونَ أنَّهُ أبْيَضُ كالجِيرِ والجِصِّ بَلْ يَعْنُونَ أنَّهُ مُخالِفٌ لِغالِبِ ألْوانِ التُّرابِ، والجُدَدُ الحُمْرُ هي ذاتُ الحِجارَةِ الحَمْراءِ في الجِبالِ.
وغَرابِيبُ: جَمْعُ غِرْبِيبٍ، والغِرْبِيبُ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الأسْوَدِ الحالِكِ سَوادُهُ، ولا تُعْرَفُ لَهُ مادَّةٌ مُشْتَقٌّ هو مِنها، وأحْسَبُ أنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الجامِدِ، وهو الغُرابُ لِشُهْرَةِ الغُرابِ بِالسَّوادِ.
وسُودٌ: جَمْعُ أسْوَدَ وهو الَّذِي لَوْنُهُ السَّوادُ.
(p-٣٠٣)فالغِرْبِيبُ يَدُلُّ عَلى أشَدَّ مِن مَعْنى أسْوَدَ، فَكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يَكُونَ غَرابِيبُ مُتَأخِّرًا عَنْ سُودٍ لِأنَّ الغالِبَ أنَّهم يَقُولُونَ: أسْوَدُ غِرْبِيبٌ، كَما يَقُولُونَ: أبْيَضُ يَقَقٌ وأصْفَرُ فاقِعٌ وأحْمَرُ قانٍ، ولا يَقُولُونَ: غِرْبِيبٌ أسَوْدُ وإنَّما خُولِفَ ذَلِكَ لِلرِّعايَةِ عَلى الفَواصِلِ المَبْنِيَّةِ عَلى الواوِ والياءِ السّاكِنَتَيْنِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ ﴿واللَّهُ هو الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾ [فاطر: ١٥]، عَلى أنَّ في دَعْوى أنْ يَكُونَ غَرِيبًا تابِعًا لِأسْوَدَ نَظَرًا، والآيَةُ تُؤَيِّدُ هَذا النَّظَرَ، ودَعْوى كَوْنِ غَرابِيبُ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سُودٌ تَكَلُّفٌ واضِحٌ، وكَذَلِكَ دَعْوى الفَرّاءِ: أنَّ الكَلامَ عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، وغَرَضُ التَّوْكِيدِ حاصِلٌ عَلى كُلِّ حالٍ.
{"ayah":"أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ ثَمَرَ ٰتࣲ مُّخۡتَلِفًا أَلۡوَ ٰنُهَاۚ وَمِنَ ٱلۡجِبَالِ جُدَدُۢ بِیضࣱ وَحُمۡرࣱ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهَا وَغَرَابِیبُ سُودࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق