الباحث القرآني
(p-٢٧٩)﴿وما يَسْتَوِي البَحْرانِ هَذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وهَذا مِلْحٌ أُجاجٌ ومِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وتَرى الفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾
انْتِقالٌ مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِالأحْوالِ في الأجْواءِ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ عَلى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعالى بِالإلَهِيَّةِ إلى الِاسْتِدْلالِ بِما عَلى الأرْضِ مِن بِحارٍ وأنْهارٍ وما في صِفاتِها مِن دَلالَةٍ زائِدَةٍ عَلى دَلالَةِ وُجُودِ أعْيانِها، عَلى عِظَمِ مَخْلُوقاتِ اللَّهِ تَعالى، فَصِيغَ هَذا الِاسْتِدْلالُ عَلى أُسْلُوبٍ بَدِيعٍ إذِ اقْتُصِرَ فِيهِ عَلى التَّنْبِيهِ عَلى الحِكْمَةِ الرَّبّانِيَّةِ في المَخْلُوقاتِ وهي نامُوسُ تَمايُزِها بِخَصائِصَ مُخْتَلِفَةٍ واتِّحادِ أنْواعِها في خَصائِصَ مُتَماثِلَةٍ اسْتِدْلالًا عَلى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعالى كَقَوْلِهِ ”تُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الأُكُلِ“ ويَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الِاسْتِدْلالَ بِخَلْقِ البَحْرَيْنِ أنْفُسِهِما لِأنَّ ذِكْرَ اخْتِلافِ مَذاقِهِما يَسْتَلْزِمُ تَذَكُّرَ تَكْوِينِهِما.
فالتَّقْدِيرُ: وخَلَقَ البَحْرَيْنِ العَذْبَ والأُجاجَ عَلى صُورَةٍ واحِدَةٍ وخالَفَ بَيْنَ أعْراضِها، فَفي الكَلامِ إيجازُ حَذْفٍ، وإنَّما قُدِّمَ مِن هَذا الكَلامِ تَفاوُتُ البَحْرَيْنِ في المَذاقِ واقْتُصِرَ عَلَيْهِ لِأنَّهُ المَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِأفانِينِ الدَّلائِلِ عَلى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعالى.
وفِي الكَشّافِ: ضَرَبَ البَحْرِينِ العَذْبَ والمالِحَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ والكافِرِ، ثُمَّ قالَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِطْرادِ في صِفَةِ البَحْرَيْنِ وما عُلِّقَ بِهِما مِن نِعْمَتِهِ وعَطائِهِ ”ومِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا“ .
والبَحْرُ في كَلامِ العَرَبِ: اسْمٌ لِلْماءِ الكَثِيرِ القارِّ في سَعَةٍ، فالفُراتُ والدِّجْلَةُ بَحْرانِ عَذْبانِ وبَحْرُ خَلِيجِ العَجَمِ مِلْحٌ. وتَقَدَّمَ ذِكْرُ البَحْرَيْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ”﴿وهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ﴾ [الفرقان: ٥٣]“ في سُورَةِ الفُرْقانِ وقَدِ اتَّحَدا في إخْراجِ الحِيتانِ والحِلْيَةِ، أيِ اللُّؤْلُؤِ والمَرْجانِ، وهُما يُوجَدُ أجْوَدُهُما في بَحْرِ العَجَمِ حَيْثُ مَصَبُّ النَّهْرَيْنِ ولِماءِ النَّهْرَيْنِ العَذْبِ واخْتِلاطِهِ بِماءِ البَحْرِ المالِحِ أثَرٌ في جَوْدَةِ اللُّؤْلُؤِ كَما بَيَّنّاهُ فِيما تَقَدَّمَ في سُورَةِ النَّحْلِ، فَقَوْلُهُ ”﴿ومِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا﴾“ كُلِّيَّةٌ، وقَوْلُهُ ”﴿وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً﴾“ كُلٌّ لا كُلِّيَّةٌ لِأنَّ مِن مَجْمُوعِها تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً. وكَلِمَةُ ”كُلٍّ“ صالِحَةٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، فَعَطْفُ ”وتَسْتَخْرِجُونَ“ مِنِ اسْتِعْمالِ المُشْتَرَكِ في مَعْنَيَيْهِ.
(p-٢٨٠)فالِاخْتِلافُ بَيْنَ البَحْرِينِ بِالعُذُوبَةِ والمُلُوحَةِ دَلِيلٌ عَلى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ. والتَّخالُفُ في بَعْضِ مُسْتَخْرَجاتِهِما والتَّماثُلُ في بَعْضِها دَلِيلٌ آخَرُ عَلى دَقِيقِ الصُّنْعِ وهَذا مِن أفانِينِ الِاسْتِدْلالِ.
والعَذْبُ: الحُلْوُ حَلاوَةً مَقْبُولَةً في الذَّوْقِ.
والمِلْحُ بِكَسْرِ المِيمِ: الشَّيْءُ المَوْصُوفُ بِالمُلُوحَةِ بِذاتِهِ لا بِإلْقاءِ مِلْحٍ فِيهِ، فَأمّا الشَّيْءُ الَّذِي يُلْقى فِيهِ المِلْحُ حَتّى يَكْتَسِبَ مُلُوحَةً فَإنَّما يُقالُ لَهُ: مالِحٌ، ولا يُقالُ: مِلْحٌ.
ومَعْنى ”﴿سائِغٌ شَرابُهُ﴾“ أنَّ شُرْبَهُ لا يُكَلِّفُ النَّفْسَ كَراهَةً، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الإساغَةِ وهي اسْتِطاعَةُ ابْتِلاعِ المَشْرُوبِ دُونَ غُصَّةٍ ولا كُرْهٍ. قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْرُبَ:
؎فَساغَ لِيَ الشَّرابُ وكُنْتُ قَبْلُ أكادُ أغُصُّ بِالماءِ الحَمِيمِ
والأُجاجُ: الشَّدِيدُ المُلُوحَةِ، وتَقَدَّمَ ذِكْرُ البَحْرِ في قَوْلِهِ تَعالى ”﴿ويَعْلَمُ ما في البَرِّ والبَحْرِ﴾ [الأنعام: ٥٩]“ في سُورَةِ الأنْعامِ، وبَقِيَّةُ الآيَةِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في أوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ.
وتَقْدِيمُ الظَّرْفِ في قَوْلِهِ ”﴿فِيهِ مَواخِرَ﴾“ عَلى عَكْسِ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ، لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَسُوقَةٌ مَساقَ الِاسْتِدْلالِ عَلى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعالى في المَخْلُوقاتِ وأُدْمِجَ فِيهِ الِامْتِنانُ بِقَوْلِهِ ”يَأْكُلُونَ“ .
”﴿وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً﴾“ وقَوْلِهِ ”﴿لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾“ فَكانَ المَقْصِدُ الأوَّلُ مِن سِياقِها الِاسْتِدْلالُ عَلى عَظِيمِ الصُّنْعِ فَهو الأهَمُّ هُنا. ولَمّا كانَ طَفْوُ الفُلْكِ عَلى الماءِ حَتّى لا يَغْرَقَ فِيهِ أظْهَرَ في الِاسْتِدْلالِ عَلى عَظِيمِ الصُّنْعِ مِنَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ النِّعْمَةِ والِامْتِنانِ قُدِّمَ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ وهو الظَّرْفِيَّةُ في البَحْرِ. والمَخْرُ في البَحْرِ آيَةُ صُنْعِ اللَّهِ أيْضًا بِخَلْقِ وسائِلِ ذَلِكَ والإلْهامِ لَهُ، إلّا أنَّ خُطُورَةَ السَّفَرِ مِن ذَلِكَ الوَصْفِ أوْ ما يَتَبادَرُ إلى الفَهْمِ فَأُخِّرَ هُنا لِأنَّهُ مِن مُسْتَتْبَعاتِ الغَرَضِ لا مِن مَقْصِدِهِ، فَهو يَسْتَتْبِعُ نِعْمَةَ تَيْسِيرِ الأسْفارِ لِقَطْعِ المَسافاتِ الَّتِي لَوْ قُطِعَتْ بِسَيْرِ القَوافِلِ لَطالَتْ مُدَّةُ الأسْفارِ.
ومِن هُنا يَلْمَعُ بارِقُ الفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وآيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ في كَوْنِ فِعْلِ ”لِتَبْتَغُوا“ غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِالواوِ هُنا ومَعْطُوفًا نَظِيرُهُ في آيَةِ النَّحْلِ لِأنَّ الِابْتِغاءَ عُلِّقَ (p-٢٨١)هُنا بِـ ”مَواخِرَ“ إيقافًا عَلى الغَرَضِ مِن تَقْدِيمِ الظَّرْفِ، وفي آيَةِ النَّحْلِ ذُكِرَ المَخْرُ في عِدادِ الِامْتِنانِ لِأنَّ بِهِ تَيْسِيرَ الأسْفارِ، ثُمَّ فُصِلَ بَيْنَ ”مَواخِرَ“ وعِلَّتِهِ بِظَرْفِ ”فِيهِ“، فَصارَ ما يُومِئُ إلَيْهِ الظَّرْفُ فَصْلًا بِغَرَضٍ أُدْمِجَ إدْماجًا وهو الِاسْتِدْلالُ عَلى عَظِيمِ الصُّنْعِ بِطَفْوِ الفُلْكِ عَلى الماءِ، فَلَمّا أُرِيدَ الِانْتِقالُ مِنهُ إلى غَرَضٍ آخَرَ، وهو العَوْدُ إلى الِامْتِنانِ بِالمَخْرِ لِنِعْمَةِ التِّجارَةِ في البَحْرِ عُطِفَ المُغايِرُ في الغَرَضِ.
{"ayah":"وَمَا یَسۡتَوِی ٱلۡبَحۡرَانِ هَـٰذَا عَذۡبࣱ فُرَاتࣱ سَاۤىِٕغࣱ شَرَابُهُۥ وَهَـٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجࣱۖ وَمِن كُلࣲّ تَأۡكُلُونَ لَحۡمࣰا طَرِیࣰّا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡیَةࣰ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِیهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُوا۟ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق