الباحث القرآني
(p-١٤٧)﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكم إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ﴿أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ في العَذابِ والضَّلالِ البَعِيدِ﴾
انْتِقالٌ إلى قَوْلَةٍ أُخْرى مِن شَناعَةِ أهْلِ الشِّرْكِ مَعْطُوفَةٍ عَلى ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينا السّاعَةُ﴾ [سبإ: ٣] . وهَذا القَوْلُ قائِمٌ مَقامَ الِاسْتِدْلالِ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ لِأنَّ قَوْلَهم لا تَأْتِينا السّاعَةُ دَعْوى وقَوْلُهم ﴿هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكم إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ مُسْتَنَدُ تِلْكَ الدَّعْوى، ولِذَلِكَ حُكِيَ بِمِثْلِ الأُسْلُوبِ الَّذِي حُكِيَتْ بِهِ الدَّعْوى في المُسْنَدِ والمُسْنَدِ إلَيْهِ.
وأدْمَجُوا في الِاسْتِدْلالِ التَّعْجِيبَ مِنَ الَّذِي يَأْتِي بِنَقِيضِ دَلِيلِهِمْ، ثُمَّ إرْدافُ ذَلِكَ التَّعْجِيبِ بِالطَّعْنِ في المُتَعَجَّبِ بِهِ.
والمُخاطَبُ بِقَوْلِهِمْ (﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ﴾) غَيْرُ مَذْكُورٍ لِأنَّ المَقْصُودَ في الآيَةِ الِاعْتِبارُ بِشَناعَةِ القَوْلِ ولا غَرَضَ يَتَعَلَّقُ بِالمَقُولِ لَهم. فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهم هَذا تَقاوُلًا بَيْنَهم، أوْ يَقُولُهُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ، أوْ يَقُولُ كُبَراؤُهم لِعامَّتِهِمْ ودَهْمائِهِمْ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُ كُفّارِ مَكَّةَ لِلْوارِدِينَ عَلَيْهِمْ في المَوْسِمِ. وهَذا الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ (نَدُلُّكم) مِن أنَّهُ خِطابٌ لِمَن لَمْ يَبْلُغْهم قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ .
والِاسْتِفْهامُ مُسْتَعْمَلٌ في العَرْضِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَقُلْ هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَّكّى﴾ [النازعات: ١٨]، وهو عَرْضٌ مُكَنّى بِهِ مِنَ التَّعْجِيبِ، أيْ هَلْ نَدُلُّكم عَلى أُعْجُوبَةٍ مِن رَجُلٍ يُنْبِئُكم بِهَذا النَّبَأِ المُحالِ.
والمَعْنى: تَسْمَعُونَ مِنهُ ما سَمِعْناهُ مِنهُ فَتَعْرِفُوا عُذْرَنا في مُناصَبَتِهِ العَداءَ. وقَدْ كانَ المُشْرِكُونَ هَيَّأُوا ما يَكُونُ جَوابًا لِلَّذِينَ يَرِدُونَ عَلَيْهِمْ في المَوْسِمِ مِن قَبائِلِ العَرَبِ يَتَساءَلُونَ عَنْ خَبَرِ هَذا الَّذِي ظَهَرَ فِيهِمْ يَدَّعِي أنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ إلى النّاسِ، وعَنِ الوَحْيِ الَّذِي يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ كَما ورَدَ في خَبَرِ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ إذْ قالَ لِقُرَيْشٍ: إنَّهُ قَدْ حَضَرَ هَذا المَوْسِمُ وأنَّ وُفُودَ العَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكم فِيهِ، وقَدْ سَمِعُوا بِأمْرِ صاحِبِكم هَذا، فَأجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا واحِدًا ولا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبَ بَعْضُكم بَعْضًا ويَرُدَّ قَوْلُكم بَعْضُهُ بَعْضًا، فَقالُوا: فَأنْتَ يا أبا عَبْدِ شَمْسٍ فَقُلْ وأقِمْ لَنا رَأيًا نَقُولُ بِهِ. قالَ (p-١٤٨)بَلْ أنْتُمْ قُولُوا أسْمَعْ، قالُوا: نَقُولُ كاهِنٌ ؟ قالَ لا واللَّهِ ما هو بِكاهِنٍ لَقَدْ رَأيْنا الكُهّانَ فَما هو بِزَمْزَمَةِ الكاهِنِ ولا بِسَجْعِهِ. قالُوا فَنَقُولُ مَجْنُونٌ ؟ قالَ ما هو بِمَجْنُونٍ لَقَدْ رَأيْنا الجُنُونَ وعَرَفْناهُ فَما هو بِخَنَقِهِ ولا تَخَلُّجِهِ ولا وسْوَسَتِهِ، قالُوا فَنَقُولُ شاعِرٌ ؟ قالَ: لَقَدْ عَرَفْنا الشِّعْرَ كُلَّهُ فَما هو بِالشِّعْرِ، فَقالُوا: فَنَقُولُ ساحِرٌ ؟ قالَ: ما هو بِنَفْثِهِ ولا عَقْدِهِ، قالُوا: فَما نَقُولُ يا أبا عَبْدِ شَمْسٍ ؟ قالَ: إنَّ أقْرَبَ القَوْلِ فِيهِ أنْ تَقُولُوا: ساحِرٌ، جاءَ بِقَوْلٍ هو سِحْرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ المَرْءِ وأبِيهِ وبَيْنَ المَرْءِ وأخِيهِ وبَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ وبَيْنَ المَرْءِ وعَشِيرَتِهِ.
فَلَعَلَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الوارِدِينَ عَلى مَكَّةَ بِهاتِهِ المَقالَةِ ﴿هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكم إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ طَمَعًا مِنهم بِأنَّها تَصْرِفُ النّاسَ عَنِ النَّظَرِ في الدَّعْوَةِ تَلَبُّسًا بِاسْتِحالَةِ هَذا الخَلْقِ الجَدِيدِ.
ويُرَجِّحُ ذَلِكَ إتْمامُها بِالِاسْتِفْهامِ ﴿أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبا أمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ .
ثُمَّ إنْ كانَ التَّقاوُلُ بَيْنَ المُشْرِكِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فالتَّعْبِيرُ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ بِـ (رَجُلٍ) مُنَكَّرٍ مَعَ كَوْنِهِ مَعْرُوفًا بَيْنَهم وعَنْ أهْلِ بَلَدِهِمْ، قَصَدُوا مِن تَنْكِيرِهِ أنَّهُ لا يُعْرَفُ تَجاهُلًا مِنهم. قالَ السَّكّاكِيُّ: كَأنْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مِنهُ إلّا أنَّهُ رَجُلٌ ما.
وإنْ كانَ قَوْلُ المُشْرِكِينَ مُوَجَّهًا إلى الوارِدِينَ مَكَّةَ في المَوْسِمِ، كانَ التَّعْبِيرُ بِـ (رَجُلٍ) جَرْيًا عَلى مُقْتَضى الظّاهِرِ لِأنَّ الوارِدِينَ لا يَعْرِفُونَ النَّبِيءَ ﷺ ولا دَعْوَتَهُ فَيَكُونُ كَقَوْلِ أبِي ذَرٍّ قَبْلَ إسْلامِهِ لِأخِيهِ اذْهَبْ فاسْتَعْلِمْ لَنا خَبَرَ هَذا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيءٌ، ومَعْنى نَدُلُّكم نُعَرِّفُكم ونُرْشِدُكم. وأصْلُ الدَّلالَةِ الإرْشادُ إلى الطَّرِيقِ المُوصِلِ إلى مَكانٍ مَطْلُوبٍ. وغالِبُ اسْتِعْمالِ هَذا الفِعْلِ أنْ يَكُونَ إرْشادُ مَن يَطْلُبُ مَعْرِفَةً، وبِذَلِكَ فالآيَةُ تَقْتَضِي أنَّ هَذا القَوْلَ يَقُولُونَهُ لِلَّذِينَ يَسْألُونَهم عَنْ خَبَرِ رَجُلٍ ظَهَرَ بَيْنَهم يَدَّعِي النُّبُوءَةَ فَيَقُولُونَ: هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ يَزْعُمُ كَذا، أيْ لَيْسَ بِنَبِيءٍ بَلْ مُفْتَرٍ أوْ مَجْنُونٍ، فَمَوْرِدُ الِاسْتِفْهامِ هو ما تَضَمَّنَهُ قَوْلُهم (﴿إذا مُزَّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ﴿أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾)، أيْ هَلْ (p-١٤٩)تُرِيدُونَ أنْ نَدُلَّكم عَلى مَن هَذِهِ صِفَتُهُ، أيْ ولَيْسَ مِن صِفَتِهِ أنَّهُ نَبِيءٌ بَلْ هو: إمّا كاذِبٌ أوْ غَيْرُ عاقِلٍ.
والإنْباءُ: الإخْبارُ عَنْ أمْرٍ عَظِيمٍ، وعَظَمَةُ هَذا القَوْلِ عِنْدَهم عَظَمَةُ إقْدامِ قائِلِهِ عَلى ادِّعاءِ وُقُوعِ ما يَرَوْنَهُ مُحالَ الوُقُوعِ.
وجُمْلَةُ (﴿إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾) هي المُنَبَّأُ بِهِ. ولَمّا كانَ الإنْباءُ في مَعْنى القَوْلِ؛ لِأنَّهُ إخْبارٌ صَحَّ أنْ يَقَعَ بَعْدَهُ ما هو مِن قَوْلِ المُنَبِّئِ. فالتَّقْدِيرُ مِن جِهَةِ المَعْنى: يَقُولُ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ، ولِذَلِكَ اجْتُلِبَتْ (إنَّ) المَكْسُورَةُ الهَمْزَةِ دُونَ المَفْتُوحَةِ لِمُراعاةِ حِكايَةِ القَوْلِ.
وهَذِهِ حِكايَةُ ما نَبَّأ بِهِ لِأنَّ المُنَبِّئَ إنَّما نَبَّأ بِأنَّ النّاسَ يَصِيرُونَ في خَلْقٍ جَدِيدٍ.
وأمّا شِبْهُ الجُمْلَةِ وهو قَوْلُهُ ﴿إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ فَلَيْسَ مِمّا نَبَّأ بِهِ الرَّجُلُ وإنَّما هو اعْتِراضٌ في كَلامِ الحاكِينَ تَنْبِيهًا عَلى اسْتِحالَةِ ما يَقُولُهُ هَذا الرَّجُلُ عَلى أنَّهُ لازِمٌ لِإثْباتِ الخَلْقِ الجَدِيدِ لِكُلِّ الأمْواتِ. ولَيْسَ (إذا) بِمُفِيدٍ شَرْطًا لِلْخَلْقِ الجَدِيدِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ لِلْخَلْقِ الجَدِيدِ أنْ يَتَقَدَّمَهُ البِلى، ولَكِنَّ المُرادَ أنَّهُ يَكُونُ البِلى حائِلًا دُونَ الخَلْقِ الجَدِيدِ المُنَبَّأِ بِهِ.
وتَقْدِيمُ هَذا الِاعْتِراضِ لِلِاهْتِمامِ بِهِ لِيَتَقَرَّرَ في أذْهانِ السّامِعِينَ؛ لِأنَّهُ مَناطُ الإحالَةِ في زَعْمِهِمْ، فَإنَّ إعادَةَ الحَياةِ لِلْأمْواتِ تَكُونُ بَعْدَ انْعِدامِ أجْزاءِ الأجْسادِ، وتَكُونُ بَعْدَ تَفْرِيقِها تَفَرُّقًا قَرِيبًا مِنَ العَدَمِ، وتَكُونُ بَعْدَ تَفَرُّقٍ ما، وتَكُونُ مَعَ بَقاءِ الأجْسادِ عَلى حالِها بَقاءً مُتَفاوِتًا في الصَّلابَةِ والرُّطُوبَةِ، وهم أنْكَرُوا إعادَةَ الحَياةِ في سائِرِ الأحْوالِ ولَكِنَّهم خَصُّوا في كَلامِهِمِ الإعادَةَ بَعْدَ التَّمَزُّقِ كُلَّ مُمَزَّقٍ، أيْ بَعْدَ اضْمِحْلالِ الأجْسادِ أوْ تَفَرُّقِها الشَّدِيدِ، لِقُوَّةِ اسْتِحالَةِ إرْجاعِ الحَياةِ إلَيْها بَعْدَئِذٍ.
والتَّمْزِيقُ: تَفْكِيكُ الأجْزاءِ المُتَلاصِقَةِ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ بِحَيْثُ تَصِيرُ قِطَعًا مُتَباعِدَةً.
والمُمَزَّقُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِمَزَّقَهُ مِثْلَ المُسَرَّحِ لِلتَّسْرِيحِ.
و(كُلَّ) عَلى الوَجْهَيْنِ مُسْتَعْمَلَةٌ في مَعْنى الكَثْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعالى (﴿ولَوْ جاءَتْهم كُلُّ آيَةٍ﴾ [يونس: ٩٧]) وقَوْلِ النّابِغَةِ:(p-١٥٠)
؎بِها كُلُّ ذَيّالٍ
وقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
والخَلْقُ الجَدِيدُ: الحَدِيثُ العَهْدِ بِالوُجُودِ، أيْ في خَلْقٍ غَيْرِ الخَلْقِ الأوَّلِ الَّذِي أبْلاهُ الزَّمانُ، فَجَدِيدٌ فَعِيلٌ مِن جَدَّ بِمَعْنى قَطَعَ. فَأصْلُ مَعْنى جَدِيدٍ مَقْطُوعٌ وأصْلُهُ وصْفٌ لِلثَّوْبِ الَّذِي يَنْسِجُهُ النّاسِجُ فَإذا أتَمَّهُ قَطَعَهُ مِنَ المِنوالِ. أُرِيدَ بِهِ أنَّهُ بِحِدْثانِ قَطْعِهِ فَصارَ كِنايَةً عَنْ عَدَمِ لِبْسِهِ، ثُمَّ شاعَ ذَلِكَ فَصارَ الجَدِيدُ وصْفًا بِمَعْنى الحَدِيثِ العَهْدِ، وتُنُوسِيَ مَعْنى المَفْعُولِيَّةِ مِنهُ فَصارَ وصْفًا بِمَعْنى الفاعِلِيَّةِ، فَيُقالُ: جَدَّ الثَّوْبُ بِالرَّقْعِ بِمَعْنى: كانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِنَسْجٍ. ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ جَدَّ اللّازِمِ مُطاوِعًا لِـ (جَدَّهُ) المُتَعَدِّي كَما كانَ (جَبَرَ العَظْمُ) مُطاوِعًا لِـ (جَبَرَ) كَما في قَوْلِ العَجّاجِ:
؎قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلَهُ فَجَبَرَ
وبِهَذا يَحِقُّ الجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِ البَصْرِيِّينَ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا جَدِيدًا فَعِيلًا بِمَعْنى فاعِلٍ، وقَوْلِ الكُوفِيِّينَ بِأنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٌ، وعَلى هَذَيْنِ الأعْتِبارَيْنِ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: مَلْحَفَةٌ جَدِيدٌ كَما قالَ (﴿إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [الأعراف: ٥٦]) .
ووَصْفُ الخَلْقِ الجَدِيدِ بِاعْتِبارِ أنَّ المَصْدَرَ بِمَنزِلَةِ اسْمِ الجِنْسِ يَكُونُ قَدِيمًا فَهو إذَنْ بِمَعْنى الحاصِلِ بِالمَصْدَرِ، ويَكُونُ جَدِيدًا فَهو بِمَنزِلَةِ اسْمِ الفاعِلِ فَوُصِفَ بِالجَدِيدِ لِيَتَمَحَّضَ لِأحَدِ احْتِمالَيْهِ، والظَّرْفِيَّةُ مِن قَوْلِهِ (﴿فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾) مَجازِيَّةٌ في قُوَّةِ التَّلَبُّسِ بِالخَلْقِ الجَدِيدِ تَلَبُّسًا كَتَلَبُّسِ المَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ.
وجُمْلَةُ ﴿أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ في مَوْضِعِ صِفَةٍ ثانِيَةٍ لِـ (رَجُلٍ) أتَوْا بِها اسْتِفْهامِيَّةً لِتَشْرِيَكِ المُخاطَبِينَ مَعَهم في تَرْدِيدِ الرَّجُلِ بَيْنَ هَذَيْنِ الحالَيْنِ.
وحُذِفَتْ هَمْزَةُ فِعْلِ (أفْتَرى) لِأنَّها هَمْزَةُ وصْلٍ فَسَقَطَتْ لِأنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهامِ وُصِلَتْ بِالفِعْلِ فَسَقَطَتْ هَمْزَةُ الوَصْلِ في الدَّرَجِ.
وجَعَلُوا حالَ الرَّسُولِ ﷺ دائِرًا بَيْنَ الكَذِبِ والجُنُونِ بِناءً عَلى أنَّهُ إنْ كانَ ما قالَهُ مِنَ البَعْثِ قالَهُ عَنْ عَمْدٍ وسَلامَةِ عَقْلٍ فَهو في زَعْمِهِمْ مُفْتَرٍ لِأنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّ (p-١٥١)ذَلِكَ لا يُطابِقُ الواقِعَ؛ لِأنَّهُ مُحالٌ في نَظَرِهِمُ القاصِرِ، وإنْ كانَ قالَهُ بِلِسانِهِ لِإمْلاءِ عَقْلٍ مُخْتَلٍّ فَهو مَجْنُونٌ وكَلامُ المَجْنُونِ لا يُوصَفُ بِالِافْتِراءِ. وإنَّما رَدَّدُوا حالَهُ بَيْنَ الأمْرَيْنِ بِناءً عَلى أنَّهُ أخْبَرَ عَنْ تَلَقِّي وحْيٍ مِنَ اللَّهِ فَلَمْ يَبْقَ مُحْتَمِلًا لِقِسْمٍ ثالِثٍ وهو أنْ يَكُونَ مُتَوَهِّمًا أوْ غالِطًا كَما لا يَخْفى.
وقَدِ اسْتَدَلَّ الجاحِظُ بِهَذِهِ الآيَةِ لِرَأْيِهِ في أنَّ الكَلامَ يَصِفُهُ العَرَبُ بِالصِّدْقِ إنْ كانَ مُطابِقًا لِلْواقِعِ مَعَ اعْتِقادِ المُتَكَلِّمِ لِذَلِكَ، وبِالكَذِبِ إنْ كانَ غَيْرَ مُطابِقٍ لِلْواقِعِ ولا لِلِاعْتِقادِ، وما سِوى هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ لا يُوصَفُ بِصِدْقٍ ولا كَذِبٍ بَلْ هو واسِطَةٌ بَيْنَهُما وهو الَّذِي يُخالِفُ الواقِعَ ويُوافِقُ اعْتِقادَ المُتَكَلِّمِ أوْ يُخالِفُ الِاعْتِقادَ الواقِعَ أوْ يُخالِفُهُما مَعًا أوْ لَمْ يَكُنْ لِصاحِبِهِ اعْتِقادٌ ومِن هَذا الصِّنْفِ الأخِيرِ كَلامُ المَجْنُونِ.
ولا يَصِحُّ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ دَلِيلًا لَهُ لِأنَّها حَكَتْ كَلامَ المُشْرِكِينَ في مَقامِ تَمْوِيهِهِمْ وضَلالِهِمْ أوْ تَضْلِيلِهِمْ فَهو مِنَ السَّفْسَفَطَةِ، ثُمَّ إنَّ الِافْتِراءَ أخَصُّ مِنَ الكَذِبِ لِأنَّ الِافْتِراءَ إنْ كانَ عَنْ عَمْدٍ فَمُقابَلَتُهُ بِالجُنُونِ لا تَقْتَضِي أنَّ كَلامَ المَجْنُونِ لَيْسَ مِنَ الكَذِبِ بَلْ إنَّهُ لَيْسَ مِنَ الِافْتِراءِ.
والِافْتِراءُ: الِاخْتِلاقُ وإيجادُ خَبَرٍ لا مُخْبِرَ لَهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ [المائدة: ١٠٣] في سُورَةِ العُقُودِ.
وقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ اسْتِدْلالَهم بِما أشارَ إلى أنَّهم ضالُّونَ أوْ مُضِلُّونَ، وواهِمُونَ أوْ مُوهِمُونَ، فَأبْطَلَ قَوْلَهم بِحَذافِرِهِ بِحَرْفِ الإضْرابِ، ثُمَّ بِجُمْلَةِ ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ في العَذابِ والضَّلالِ البَعِيدِ﴾ . فَقابَلَ ما وصَفُوا بِهِ الرَّسُولَ ﷺ بِوَصْفَيْنِ: أنَّهم في العَذابِ وذَلِكَ مُقابِلُ قَوْلِهِمْ أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا لِأنَّ الَّذِي يَكْذِبُ عَلى اللَّهِ يُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَذابَهُ، وأنَّهم في الضَّلالِ البَعِيدِ، وذَلِكَ مُقابِلُ قَوْلِهِمْ (بِهِ جِنَّةٌ) .
وعَدَلَ عَنْ أنْ يُقالَ: بَلْ أنْتُمْ في العَذابِ والضَّلالِ إلى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ إدْماجًا لِتَهْدِيدِهِمْ.
والضَّلالُ: خَطَأُ الطَّرِيقِ المُوصِّلِ إلى المَقْصُودِ. والبَعِيدُ وُصِفَ بِهِ الضَّلالُ (p-١٥٢)بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ وصْفًا لِطَرِيقِ الضّالِّ، فَإسْنادُ وصْفِهِ إلى الضَّلالِ مَجازِيٌّ؛ لِأنَّهُ صِفَةُ مَكانِ الضَّلالِ وهو الطَّرِيقُ الَّذِي حادَ عَنِ المَكانِ المَقْصُودِ؛ لِأنَّ الضّالَّ كُلَّما تَوَغَّلَ مَسافَةً في الطَّرِيقِ المَضْلُولِ فِيهِ ازْدادَ بُعْدًا عَنِ المَقْصُودِ فاشْتَدَّ ضَلالُهُ وعَسُرَ خَلاصُهُ، وهو مَعَ ذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلْإسْنادِ المَجازِيِّ.
وقَوْلُهُ (﴿فِي العَذابِ﴾) إدْماجٌ يَصِفُ بِهِ حالَهم في الآخِرَةِ مَعَ وصْفِ حالِهِمْ في الدُّنْيا.
والظَّرْفِيَّةُ بِمَعْنى الإعْدادِ لَهم فَحَصَلَ في حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ مَجازانِ إذْ جُعِلَ العَذابُ والضَّلالُ لِتَلازُمِهِما كَأنَّهُما حاصِلانِ مَعًا، فَهَذا مِنِ اسْتِعْمالِ المَوْضُوعِ لِلْواقِعِ فِيما لَيْسَ بِواقِعٍ تَنْبِيهًا عَلى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ.
{"ayahs_start":7,"ayahs":["وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ هَلۡ نَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلࣲ یُنَبِّئُكُمۡ إِذَا مُزِّقۡتُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمۡ لَفِی خَلۡقࣲ جَدِیدٍ","أَفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِۦ جِنَّةُۢۗ بَلِ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ فِی ٱلۡعَذَابِ وَٱلضَّلَـٰلِ ٱلۡبَعِیدِ"],"ayah":"أَفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِۦ جِنَّةُۢۗ بَلِ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ فِی ٱلۡعَذَابِ وَٱلضَّلَـٰلِ ٱلۡبَعِیدِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











