الباحث القرآني
﴿ويَوْمَ نَحْشُرُهم جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أهَؤُلاءِ إيّاكم كانُوا يَعْبُدُونَ﴾ ﴿قالُوا سُبْحانَكَ أنْتَ ولِيُّنا مِن دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أكْثَرُهم بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾
عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ولَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمُ﴾ [سبإ: ٣١] الآيَةَ اسْتِكْمالًا لِتَصْوِيرِ فَظاعَةِ حالِهِمْ يَوْمَ الوَعْدِ الَّذِي أنْكَرُوهُ تَبَعًا لِما وصَفَ مِن حالِ مُراجَعَةِ المُسْتَكْبِرِينَ مِنهم والمُسْتَضْعَفِينَ، فَوَصَفَ هُنا افْتِضاحَهم بِتَبَرُّؤِ المَلائِكَةِ مِنهم وشَهادَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم يَعْبُدُونَ الجِنَّ.
وضَمِيرُ الغَيْبَةِ مِن ”نَحْشُرُهم“ عائِدٌ إلى ما عادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ ﴿وقالُوا نَحْنُ أكْثَرُ أمْوالًا وأوْلادًا﴾ [سبإ: ٣٥] الَّذِي هو عائِدٌ إلى الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْلِهِ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذا القُرْآنِ﴾ [سبإ: ٣١]، والكَلامُ كُلُّهُ مُنْتَظِمٌ في أحْوالِ المُشْرِكِينَ، وجَمِيعُ ”فَعِيلٍ“ بِمَعْنى ”مَفْعُولٍ“، أيْ مَجْمُوعٍ، وكَثُرَ اسْتِعْمالُهُ وصْفًا لِإفادَةِ شُمُولِ أفْرادِ ما أُجْرِيَ هو عَلَيْهِ مِن ذَواتٍ وأحْوالٍ، أيْ يَجْمَعُهُمُ المُتَكَلِّمُ قالَ لَبِيدٌ:
؎عَرِيَتْ وكانَ بِها الجَمِيعُ فَأبْكَرُويا مِنها وغُودِرَ نُؤْيُها وثِمامُها
وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ﴾ [هود: ٥٥] في سُورَةِ هُودٍ. فَلَفْظُ ”جَمِيعًا“ يَعُمُّ أصْنافَ المُشْرِكِينَ عَلى اخْتِلافِ نِحَلِهِمْ واعْتِقادِهِمْ في شِرْكِهِمْ فَقَدْ كانَ مُشْرِكُو العَرَبِ نِحَلًا شَتّى يَأْخُذُ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ وما كانُوا يُحَقِّقُونَ مَذْهَبًا مُنْتَظِمَ العَقائِدِ والأقْوالِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِما يُنافِي بَعْضُهُ بَعْضًا.
والمَقْصِدُ مِن هَذِهِ الآيَةِ إبْطالُ قَوْلِهِمْ في المَلائِكَةِ: إنَّهم بَناتُ اللَّهِ، وقَوْلِهِمْ: ”﴿لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهُمْ﴾ [الزخرف: ٢٠]“ كَما في سُورَةِ الزُّخْرُفِ. وكانُوا يَخْلِطُونَ بَيْنَ المَلائِكَةِ والجِنِّ ويَجْعَلُونَ بَيْنَهم نَسَبًا فَكانُوا يَقُولُونَ: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ مِن سَرْواتِ الجِنِّ. (p-٢٢٢)وقَدْ كانَ حَيٌّ مِن خُزاعَةَ يُقالُ لَهم: بَنُو مُلَيْحٍ، بِضَمِّ المِيمِ وفَتْحِ اللّامِ وسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، يَعْبُدُونَ الجِنَّ والمَلائِكَةَ. والِاقْتِصارُ عَلى تَقْرِيرِ المَلائِكَةِ واسْتِشْهادِهِمْ عَلى المُشْرِكِينَ لِأنَّ إبْطالَ إلَهِيَّةِ المَلائِكَةِ يُفِيدُ إبْطالَ إلَهِيَّةِ ما هو دُونَهُ مِمَّنْ عَبَدَ مِن دُونِ اللَّهِ بِدَلالَةِ الفَحْوى، أيْ بِطَرِيقِ الأوْلى فَإنَّ ذَلِكَ التَّقْرِيرَ مِن أجْلِ ما جُعِلَ الحَشْرُ لِأجْلِهِ.
وتَوْجِيهُ الخِطابِ إلى المَلائِكَةِ بِهَذا الِاسْتِفْهامِ مُسْتَعْمَلٌ بِالتَّعْرِيضِ بِالمُشْرِكِينَ عَلى طَرِيقَةِ المَثَلِ إيّاكَ أعْنِي واسْمَعِي يا جارَةُ.
والإشارَةُ بِـ ”هَؤُلاءِ“ إلى فَرِيقٍ كانُوا عَبَدُوا المَلائِكَةَ والجِنَّ ومَن شايَعَهم عَلى أقْوالِهِمْ مِن بَقِيَّةِ المُشْرِكِينَ.
وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ عَلى ”يَعْبُدُونَ“ لِلِاهْتِمامِ والرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ.
وحُكِيَ قَوْلُ المَلائِكَةِ بِدُونِ عاطِفٍ لِوُقُوعِهِ في المُحاوَرَةِ كَما تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، ولِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ بِصِيغَةِ الماضِي لِأنَّ ذَلِكَ هو الغالِبُ في الحِكايَةِ.
وجَوابُ المَلائِكَةِ يَتَضَمَّنُ إقْرارًا مَعَ التَّنَزُّهِ عَنْ لَفْظِ كَوْنِهِمْ مَعْبُودِينَ كَما يَتَنَزَّهُ مَن يَحْكِي كُفْرَ أحَدٍ فَيَقُولُ قالَ: هو مُشْرِكٌ بِاللَّهِ، وإنَّما القائِلُ قالَ: أنا مُشْرِكٌ بِاللَّهِ.
فَمَوْرِدُ التَّنْزِيهِ في قَوْلِ المَلائِكَةِ سُبْحانَكَ هو أنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ مُسْتَحِقًّا أنْ يُعْبَدَ، مَعَ لازِمِ الفائِدَةِ وهو أنَّهم يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَلا يُضَرُّونَ بِأنْ يَكُونُوا مَعْبُودِينَ.
والوَلِيُّ: النّاصِرُ والحَلِيفُ والصَّدِيقُ مُشْتَقٌّ مِنَ الوَلْيِ، مَصْدَرُ ولِيَ بِوَزْنِ عَلِمَ، وكُلٌّ مِن فاعِلِ الوَلْيِ ومَفْعُولِهِ ولِيٌّ؛ لِأنَّ الوَلايَةَ نِسْبَةٌ تَسْتَدْعِي طَرَفَيْنِ ولِذَلِكَ كانَ الوَلِيُّ فَعِيلًا صالِحًا لِمَعْنى فاعِلٍ ولِمَعْنى مَفْعُولٍ. فَيَقَعُ اسْمُ الوَلِيِّ عَلى المُوالِي بِكَسْرِ اللّامِ وعَلى المُوالى بِفَتْحِها وقَدْ ورَدَ بِالمَعْنَيَيْنِ في القُرْآنِ وكَلامِ العَرَبِ كَثِيرًا.
فَمَعْنى أنْتَ ولِيُّنا لا نُوالِي غَيْرَكَ، أيْ لا نَرْضى بِهِ ولِيًّا، والعِبادَةُ ولايَةٌ بَيْنَ العابِدِ والمَعْبُودِ، ورِضى المَعْبُودِ بِعِبادَةِ عابِدِهِ إيّاهُ وِلايَةٌ بَيْنَ المَعْبُودِ وعابِدِهِ، فَقَوْلُ المَلائِكَةِ: ”سُبْحانَكَ“ تَبَرُّؤٌ مِنَ الرِّضى بِأنْ يَعْبُدَهُمُ المُشْرِكُونَ لِأنَّ المَلائِكَةَ لَمّا (p-٢٢٣)جَعَلُوا أنْفُسَهم مُوالِينَ لِلَّهِ فَقَدْ كَذَّبُوا المُشْرِكِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا لَهُمُ الإلَهِيَّةَ، لِأنَّ العابِدَ لا يَكُونُ مَعْبُودًا. ولَقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى لَفْظِ ولِيٍّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ أغَيْرَ اللَّهِ أتَّخِذُ ولِيًّا﴾ [الأنعام: ١٤] في سُورَةِ الأنْعامِ وفي آخِرِ سُورَةِ الرَّعْدِ.
و”مِن“ زائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ و”دُونَ“ اسْمٌ لِمَعْنى غَيْرٍ، أيْ: أنْتَ ولِيُّنا وهم لَيْسُوا أوْلِياءَ لَنا ولا نَرْضى بِهِمْ لِكُفْرِهِمْ فَـ ”مِن دُونِهِمْ“ تَأْكِيدٌ لِما أفادَتْهُ جُمْلَةُ أنْتَ ولِيُّنا مِنَ الحَصْرِ لِتَعْرِيفِ الجُزْأيْنِ.
وبَلْ لِلْإضْرابِ الِانْتِقالِيِّ انْتِقالًا مِنَ التَّبَرُّؤِ مِنهم إلى الشَّهادَةِ عَلَيْهِمْ وعَلى الَّذِينَ سَوَّلُوا لَهم عِبادَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى، ولَيْسَ إضْرابَ إبْطالٍ لِأنَّ المُشْرِكِينَ المُتَحَدَّثَ عَنْهم كانُوا يَعْبُدُونَ المَلائِكَةَ، والمَعْنى بَلْ كانَ أكْثَرُ هَؤُلاءِ يَعْبُدُونَ الجِنَّ وكانَ الجِنُّ راضِينَ بِعِبادَتِهِمْ إيّاهم. وحاصِلُ المَعْنى، أنّا مُنْكِرُونَ عِبادَتَهم إيّانا ولَمْ نَأْمُرْهم بِها ولَكِنَّ الجِنَّ سَوَّلَتْ لَهم عِبادَةَ غَيْرِ اللَّهِ فَعَبَدُوا الجِنَّ وعَبَدُوا المَلائِكَةَ.
وجُمْلَةُ ”أكْثَرُهم“ لِلْمُشْرِكِينَ وضَمِيرُ ”بِهِمْ“ لِلْجِنِّ والمَقامُ يَرُدُّ كُلَّ ضَمِيرٍ إلى مَعادِهِ ولَوْ تَماثَلَتِ الضَّمائِرُ كَما في قَوْلِ عَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ:
؎عُدْنا ولَوْلا نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعُهم ∗∗∗ بِالمُسْلِمِينَ وأحْرَزُوا ما جَمَّعُوا
أيْ أحْرَزَ جَمْعُ المُشْرِكِينَ ما جَمَعَهُ المُسْلِمُونَ مِن مَغانِمَ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ”نَحْشُرُهم“ و”نَقُولُ“ بِنُونِ العَظَمَةِ. وقَرَأ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ بِياءِ الغائِبِ فِيهِما، والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى رَبِّي مِن قَوْلِهِ ﴿قُلْ إنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ويَقْدِرُ لَهُ﴾ [سبإ: ٣٩] .
{"ayahs_start":40,"ayahs":["وَیَوۡمَ یَحۡشُرُهُمۡ جَمِیعࣰا ثُمَّ یَقُولُ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ إِیَّاكُمۡ كَانُوا۟ یَعۡبُدُونَ","قَالُوا۟ سُبۡحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِیُّنَا مِن دُونِهِمۖ بَلۡ كَانُوا۟ یَعۡبُدُونَ ٱلۡجِنَّۖ أَكۡثَرُهُم بِهِم مُّؤۡمِنُونَ"],"ayah":"قَالُوا۟ سُبۡحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِیُّنَا مِن دُونِهِمۖ بَلۡ كَانُوا۟ یَعۡبُدُونَ ٱلۡجِنَّۖ أَكۡثَرُهُم بِهِم مُّؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق