الباحث القرآني
(p-٢١٩)﴿قُلْ إنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ويَقْدِرُ لَهُ وما أنْفَقْتُمْ مِن شَيْءٍ فَهْوَ يُخْلِفُهُ وهْوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾
أتْبَعَ إبْطالَ أنْ تَكُونَ الأمْوالُ والأوْلادُ بِذاتِهِما وسِيلَةَ قُرْبٍ لَدى اللَّهِ تَعالى رَدًّا عَلى مَزاعِمِ المُشْرِكِينَ بِما يُشْبِهُ مَعْنى الِاسْتِدْراكِ عَلى ذَلِكَ الإبْطالِ مِن إثْباتِ الِانْتِفاعِ بِالمالِ لِلتَّقَرُّبِ إلى رِضى اللَّهِ إنِ اسْتُعْمِلَ في طَلَبِ مَرْضاةِ اللَّهِ تَفْصِيلًا لِما أُشِيرَ إلَيْهِ إجْمالًا مِن أنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ قُرْبى إلى اللَّهِ بِقَوْلِهِ ﴿إلّا مَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا﴾ [سبإ: ٣٧] كَما تَقَدَّمَ.
وقَوْلُهُ ﴿إنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ويَقْدِرُ لَهُ﴾ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ قَرِيبًا تَأْكِيدًا لِذَلِكَ ولِيُبْنى عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ”﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن شَيْءٍ﴾ الآيَةَ“ . فالَّذِي تَقَدَّمَ رَدٌّ عَلى المُشْرِكِينَ والمَذْكُورُ هُنا تَرْغِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ والعِباراتُ واحِدَةٌ والمَقاصِدُ مُخْتَلِفَةٌ. وهَذا مِن وُجُوهِ الإعْجازِ أنْ يَكُونَ الكَلامُ الواحِدُ صالِحًا لِغَرَضَيْنِ وأنْ يَتَوَجَّهَ إلى طائِفَتَيْنِ.
ولَمّا كانَ هَذا الثّانِي مُوَجَّهًا إلى المُؤْمِنِينَ أُشِيرَ إلى تَشْرِيفِهِمْ بِزِيادَةِ قَوْلِهِ مِن عِبادِهِ أيِ المُؤْمِنِينَ، وضَمِيرُ ”لَهُ“ عائِدٌ إلى ”مَن“، أيْ ويَقْدِرُ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ. ومَفْعُولُ ”يَقْدِرُ“ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ يَبْسُطُ.
وكانَ ما تَقَدَّمَ حَدِيثًا أنْ يَبْسُطَ الرِّزْقَ لِغَيْرِ المُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَنْعَمُوا بِوَصْفٍ مِن عِبادِهِ لِأنَّ في الإضافَةِ تَشْرِيفًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وفي هَذا امْتِنانٌ عَلى الَّذِينَ يَبْسُطُ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ بِأنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهم فَضْلَ الإيمانِ وفَضْلَ سَعَةِ الرِّزْقِ، وتَسْلِيَةٌ لِلَّذِينِ قَدَرَ عَلَيْهِمْ رِزْقَهم بِأنَّهم نالُوا فَضْلَ الإيمانِ وفَضْلَ الصَّبْرِ عَلى ضِيقِ الحَياةِ.
وفِي تَعْلِيقِ ”لَهُ“ بِـ ”يَقْدِرُ“ إيماءٌ إلى أنَّ ذَلِكَ القَدْرَ لا يَخْلُو مِن فائِدَةٍ لِلْمَقْدُورِ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وهي فائِدَةُ الثَّوابِ عَلى الرِّضا بِما قُسِمَ لَهُ والسَّلامَةِ مِنَ الحِسابِ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيامَةِ. وفي الحَدِيثِ «ما مِن مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُؤْمِنَ إلّا كُفِّرَ بِها عَنْهُ حَتّى الشَّوْكَةُ يُشاكُها» .
ولَوْلا هَذا الإيماءُ لَقِيلَ: ويَقْدِرُ عَلَيْهِ، كَما قالَ ﴿ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللَّهُ﴾ [الطلاق: ٧]، وأمّا حالُ الكافِرِينَ فَإنَّهم يُنْعِمُ عَلى بَعْضِهِمْ بِرِزْقٍ يُحاسَبُونَ عَلَيْهِ أشَدَّ (p-٢٢٠)الحِسابِ يَوْمَ القِيامَةِ إذْ لَمْ يَشْكُرُوا رازِقَهم، ويَقْدِرُ عَلى بَعْضِهِمْ فَلا يَنالُهُ الشَّقاءُ. وهَذا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ ﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن شَيْءٍ فَهو يُخْلِفُهُ﴾ حَثًّا عَلى الإنْفاقِ. والمُرادُ الإنْفاقُ فِيما أذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ.
وهَذا تَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأنَّ نَعِيمَ الآخِرَةِ لا يُنافِي نَعِيمَ الدُّنْيا قالَ تَعالى ﴿ومِنهم مَن يَقُولُ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النّارِ﴾ [البقرة: ٢٠١] ﴿أُولَئِكَ لَهم نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا﴾ [البقرة: ٢٠٢] . فَأمّا نَعِيمُ الدُّنْيا فَهو مُسَبَّبٌ عَنْ أحْوالٍ دُنْيَوِيَّةٍ رَتَّبَها اللَّهُ تَعالى ويَسَّرَها لِمَن يَسَّرَها في عِلْمِهِ بِغَيْبِهِ، وأمّا نَعِيمُ الآخِرَةِ فَهو مُسَبَّبٌ عَنْ أعْمالٍ مُبَيَّنَةٍ في الشَّرِيعَةِ، وكَثِيرٌ مِنَ الصّالِحِينَ يَحْصُلُ لَهُمُ النَّعِيمُ في الدُّنْيا مَعَ العِلْمِ بِأنَّهم مُنَعَّمُونَ في الآخِرَةِ كَما أنْعَمَ عَلى داوُدَ وسُلَيْمانَ وعَلى كَثِيرٍ مِن أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ وكَثِيرٍ مِن أئِمَّةِ الدِّينِ مِثْلِ مالِكِ بْنِ أنَسٍ والشّافِعِيِّ والشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي زَيْدٍ وسَحْنُونٍ.
فَأمّا اخْتِيارُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ حالَةَ الزَّهادَةِ في الدُّنْيا فَلِتَحْصُلَ لَهُ غاياتُ الكَمالِ مِنَ التَّمَحُّضِ لِتَلَقِّي الوَحْيِ وجَمِيلِ الخِصالِ ومِن مُساواةِ جُمْهُورِ أصْحابِهِ في أحْوالِهِمْ وقَدْ بَسَطْناهُ بَيانًا في رِسالَةِ طَعامِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - . وأعْقَبَ ذَلِكَ بِتَرْغِيبِ الأغْنِياءِ في الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ فَجَعَلَ الوَعْدَ بِإخْلافِ ما يُنْفِقُهُ المَرْءُ كِنايَةً عَنِ التَّرْغِيبِ في الإنْفاقِ لِأنَّ وعْدَ اللَّهِ بِإخْلافِهِ مَعَ تَأْكِيدِ الوَعْدِ يَقْتَضِي أنَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ مِنَ المُنافِقِينَ.
وأكَّدَ ذَلِكَ الوَعْدَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وبِجَعْلِ جُمْلَةِ الجَوابِ اسْمِيَّةً وبِتَقْدِيمِ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى الخَبَرِ الفِعْلِيِّ بِقَوْلِهِ: ”فَهو يُخْلِفُهُ“، فَفي هَذا الوَعْدِ ثَلاثَةُ مُؤَكِّداتٍ دالَّةٍ عَلى مَزِيدِ العِنايَةِ بِتَحْقِيقِهِ لِيَنْتَقِلَ مِن ذَلِكَ إلى الكِنايَةِ عَنْ كَوْنِهِ مَرْغُوبَهُ تَعالى.
و”مِن شَيْءٍ“ بَيانٌ لِما في ”ما“ مِنَ العُمُومِ، وجُمْلَةُ ”وهو خَيْرُ الرّازِقِينَ“ تَذْيِيلٌ لِلتَّرْغِيبِ والوَعْدِ بِزِيادَةٍ، لِبَيانِ أنَّ ما يُخْلِفُهُ أفْضَلُ مِمّا أنْفَقَهُ المُنْفِقُ.
”خَيْرُ“ بِمَعْنى أخْيَرَ لِأنَّ الرِّزْقَ الواصِلَ مِن غَيْرِهِ تَعالى إنَّما هو مِن فَضْلِهِ أجْراهُ عَلى يَدِ بَعْضِ مَخْلُوقاتِهِ فَإذا كانَ تَيْسِيرُهُ بِرِضًى مِنَ اللَّهِ عَلى المَرْزُوقِ ووَعْدٍ بِهِ كانَ ذَلِكَ أخْلَقَ بِالبَرَكَةِ والدَّوامِ، وظاهِرُ الآيَةِ أنَّ إخْلافَ الرِّزْقِ يَقَعُ في الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ.
والمُرادُ بِالإنْفاقِ: الإنْفاقُ المُرَغَّبُ فِيهِ في الدِّينِ كالإنْفاقِ عَلى الفُقَراءِ (p-٢٢١)والإنْفاقُ في سَبِيلِ اللَّهِ بِنَصْرِ الدِّينِ. رَوى مالِكٌ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ أنَّهُ قالَ يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: «يا بْنَ آدَمَ أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» . قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: قَدْ يُعَوَّضُ مِثْلَهُ أوْ أزْيَدَ، وقَدْ يُعَوَّضُ ثَوابًا، وقَدْ يُدَّخَرُ لَهُ وهو كالدُّعاءِ في وعْدِ الإجابَةِ اهـ. قُلْتُ: وقَدْ يُعَوَّضُ صِحَّةً وقَدْ يُعَوَّضُ تَعْمِيرًا. ولِلَّهِ في خَلْقِهِ أسْرارٌ.
{"ayah":"قُلۡ إِنَّ رَبِّی یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُ لَهُۥۚ وَمَاۤ أَنفَقۡتُم مِّن شَیۡءࣲ فَهُوَ یُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰزِقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق