الباحث القرآني
﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكم والقائِلِينَ لِإخْوانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنا ولا يَأْتُونَ البَأْسَ إلّا قَلِيلًا﴾ ﴿أشِحَّةً عَلَيْكم فَإذا جاءَ الخَوْفُ رَأيْتَهم يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أعْيُنُهم كالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإذا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكم بِألْسِنَةٍ حِدادٍ أشِحَّةً عَلى الخَيْرِ﴾ [الأحزاب: ١٩]
اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ ناشِئٌ عَنْ قَوْلِهِ ﴿مَن ذا الَّذِي يَعْصِمُكم مِنَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ١٧] لِأنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ سُؤالًا يَهْجِسُ في نُفُوسِهِمْ أنَّهم يُخْفُونَ مَقاصِدَهم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلا يَشْعُرُ بِمُرادِهِمْ مِنَ الِاسْتِئْذانِ، فَأُمِرَ أنْ يَقُولَ لَهم ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ﴾ أيْ فاللَّهُ يُنْبِئُ رَسُولَهُ بِكم بِأنَّ فِعْلَ أُولَئِكَ تَعْوِيقٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وقَدْ جُعِلَ هَذا الِاسْتِئْنافُ تَخَلُّصًا لِذِكْرِ فَرِيقٍ آخَرَ مِنَ المُعَوِّقِينَ.
و(قَدْ) مُفِيدٌ لِلتَّحْقِيقِ لِأنَّهم لِنِفاقِهِمْ ومَرَضِ قُلُوبِهِمْ يَشُكُّونَ في لازِمِ هَذا الخَبَرِ وهو إنْباءُ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِهِمْ، أوْ لِأنَّهم لِجَهْلِهِمُ النّاشِئِ عَنِ الكُفْرِ يَظُنُّونَ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ خَفايا القُلُوبِ. وذَلِكَ لَيْسَ بِعَجِيبٍ في عَقائِدِ أهْلِ الكُفْرِ. فَفي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ( اجْتَمَعَ عِنْدَ البَيْتِ قُرَشِيّانِ وثَقَفِيٌّ أوْ ثَقَفِيّانِ وقُرَشِيُّ كَثِيرَةُ شَحْمِ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةُ فِقْهِ قُلُوبِهِمْ، فَقالَ أحَدُهم: أتَرَوْنَ أنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ ما نَقُولُ ؟ قالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إذا جَهَرْنا ولا يَسْمَعُ إذا أخْفَيْنا. وقالَ الآخَرُ: إنْ كانَ يَسْمَعُ إذا جَهَرْنا فَإنَّهُ يَسْمَعُ إذا أخْفَيْنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكم سَمْعُكم ولا أبْصارُكم ولا جُلُودُكم ولَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: ٢٢] . (p-٢٩٤)فَلِلتَّوْكِيدِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ مَوْقِعٌ.
ودُخُولُ (قَدْ) عَلّى المُضارِعِ لا يُخْرِجُها عَنْ مَعْنى التَّحْقِيقِ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ مِن أهْلِ العَرَبِيَّةِ، وأنَّ ما تَوَهَّمُوهُ مِنَ التَّقْلِيلِ إنَّما دَلَّ عَلَيْهِ المَقامُ في بَعْضِ المَواضِعِ لا مِن دَلالَةِ قَدْ، ومِثْلُهُ إفادَةُ التَّكْثِيرِ، وتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٤٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ [النور: ٦٤] في آخِرِ سُورَةِ النُّورِ.
والمُعَوِّقُ: اسْمُ فاعِلٍ مَن عَوَّقَ الدّالِّ عَلى شِدَّةِ حُصُولِ العَوْقِ. يُقالُ: عاقَهُ عَنْ كَذا، إذا مَنَعَهُ وثَبَّطَهُ عَنْ شَيْءٍ، فالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلشِّدَّةِ والتَّكْثِيرِ مِثْلَ: قَطَّعَ الحَبْلَ، إذا قَطَعَهُ قِطَعًا كَبِيرَةً، ﴿وغَلَّقَتِ الأبْوابَ﴾ [يوسف: ٢٣]، أيْ أحْكَمَتْ غَلْقَها. ويَكُونُ لِلتَّكْثِيرِ في الفِعْلِ القاصِرِ مِثْلَ: مَوَّتَ المالُ، إذا كَثُرَ المَوْتُ في الإبِلِ، وطَوَّفَ فُلانٌ، إذا أكْثَرَ الطَّوافَ، والمَعْنى: يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَحْرِصُونَ عَلى تَثْبِيطِ النّاسِ عَنِ القِتالِ. والخِطابُ بِقَوْلِهِ مِنكم لِلْمُنافِقِينَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرارُ﴾ [الأحزاب: ١٦] .
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ القائِلُونَ لِإخْوانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنا هُمُ المُعَوِّقِينَ أنْفُسُهم فَيَكُونَ مِن عَطْفِ صِفاتِ المَوْصُوفِ الواحِدِ، كَقَوْلِهِ:
؎إلى المَلِكِ القَرِمِ وابْنِ الهُمامِ
ويَجُوزُ أنْ يَكُونُوا طائِفَةً أُخْرى وإخْوانُهم هُمُ المُوافِقُونَ لَهم في النِّفاقِ، فالمُرادُ: الأُخُوَّةُ في الرَّأْيِ والدِّينِ. وذَلِكَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، ومُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ، ومَن مَعَهُما مِنَ الَّذِينَ انْخَزَلُوا عَنْ جَيْشِ المُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَرَجَعُوا إلى المَدِينَةِ كانُوا يُرْسِلُونَ إلى مَن بَقِيَ مِنَ المُنافِقِينَ في جَيْشِ المُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لَهم ﴿هَلُمَّ إلَيْنا﴾ أيِ ارْجِعُوا إلَيْنا. قالَ قَتادَةُ: هَؤُلاءِ ناسٌ مِنَ المُنافِقِينَ يَقُولُونَ لَهم: ما مُحَمَّدٌ وأصْحابُهُ إلّا أكَلَةُ رَأْسٍ (أيْ نَفَرٌ قَلِيلٌ يَأْكُلُونَ رَأْسَ بَعِيرٍ) ولَوْ كانُوا لَحْمًا لالتَهَمَهم أبُو سُفْيانَ ومِن مَعَهُ (تَمْثِيلًا بِأنَّهم سَهْلٌ تَغَلُّبُ أبِي سُفْيانَ عَلَيْهِمْ) .
وهَلُمَّ اسْمُ فِعْلِ أمْرٍ بِمَعْنى أقْبِلْ في لُغَةِ أهْلِ الحِجازِ وهي الفُصْحى، فَلِذَلِكَ تَلْزَمُ هَذِهِ الكَلِمَةُ حالَةً واحِدَةً عِنْدَهم لا تَتَغَيَّرُ عَنْها، يَقُولُونَ: هَلُمَّ، لِلْواحِدِ (p-٢٩٥)والمُتَعَدِّدِ المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، وهي فِعْلٌ عِنْدَ بَنِي تَمِيمٍ فَلِذَلِكَ يُلْحِقُونَها العَلاماتِ يَقُولُونَ: هَلُمَّ وهَلُمِّي وهَلُمّا وهَلُمُّوا وهَلْمُمْنَ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ﴾ [الأنعام: ١٥٠] في سُورَةِ الأنْعامِ.
والمَعْنى: انْخَزِلُوا عَنْ جَيْشِ المُسْلِمِينَ وأقْبِلُوا إلَيْنا.
وجُمْلَةُ ﴿ولا يَأْتُونَ البَأْسَ إلّا قَلِيلًا﴾ كَلامٌ مُسْتَقِلٌّ فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ حالًا مِنَ القائِلِينَ لِإخْوانِهِمْ ﴿هَلُمَّ إلَيْنا﴾ . ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلى المُعَوِّقِينَ والقائِلِينَ لِأنَّ الفِعْلَ يُعْطَفُ عَلى المُشْتَقِّ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فالمُغِيراتِ صُبْحًا فَأثَرْنَ﴾ [العاديات: ٣] وقَوْلِهِ ﴿إنَّ المُصَّدِّقِينَ والمُصَّدِّقاتِ وأقْرَضُوا اللَّهَ﴾ [الحديد: ١٨]، فالتَّقْدِيرُ هُنا: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوَّقِينَ والقائِلِينَ وغَيْرَ الآتِينَ البَأْسَ، أوْ والَّذِينَ لا يَأْتُونَ البَأْسَ. ولَيْسَ في تَعْدِيَةِ فِعْلِ العِلْمِ إلى لا يَأْتُونَ إشْكالٌ لِأنَّهُ عَلى تَأْوِيلٍ كَما أنَّ عَمَلَ النّاسِخِ في قَوْلِهِ وأقْرَضُوا عَلى تَأْوِيلِ، أيْ يَعْلَمُ اللَّهُ أنَّهم لا يَأْتُونَ البَأْسَ إلّا قَلِيلًا، أيْ يَعْلَمُ أنَّهم لا يَقْصِدُونَ بِجَمْعِ إخْوانِهِمْ مَعَهُمُ الِاعْتِضادَ بِهِمْ في الحَرْبِ ولَكِنْ عَزْلَهم عَنِ القِتالِ.
ومَعْنى إلّا قَلِيلًا إلّا زَمانًا قَلِيلًا، وهو زَمانُ حُضُورِهِمْ مَعَ المُسْلِمِينَ المُرابِطِينَ، وهَذا كَقَوْلِهِ ﴿فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا﴾ [النساء: ٤٦]، أيْ إيمانًا ظاهِرًا، ومِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أو بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ﴾ [الرعد: ٣٣] . وقَلِيلًا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ إتْيانًا قَلِيلًا، وقِلَّتُهُ تَظْهَرُ في قِلَّةِ زَمانِهِ وفي قِلَّةِ غَنائِهِ.
والبَأْسُ: الحَرْبُ وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيُحْصِنَكم مِن بَأْسِكُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٠] في سُورَةِ الأنْبِياءِ. وإتْيانُ الحَرْبِ مُرادٌ بِهِ إتْيانُ أهْلِ الحَرْبِ أوْ مَوْضِعِها. والمُرادُ: البَأْسُ مَعَ المُسْلِمِينَ، أيْ مَكْرًا بِالمُسْلِمِينَ لا جُبْنًا.
و﴿أشِحَّةً﴾ [الأحزاب: ١٩] جَمْعُ شَحِيحٍ بِوَزْنِ أفْعِلَةٍ عَلى غَيْرِ قِياسٍ وهو فَصِيحٌ وقِياسُهُ أشِحّاءُ. وضَمِيرُ الخِطابِ في قَوْلِهِ عَلَيْكم لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولِلْمُسْلِمِينَ، وهو انْتِقالٌ مِنَ القَوْلِ الَّذِي أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِأنْ يَقُولَهُ لَهم إلى كَشْفِ أحْوالِهِمْ لِلرَّسُولِ والمُسْلِمِينَ بِمُناسَبَةِ الِانْتِقالِ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ في قَوْلِهِ ﴿ولا يَأْتُونَ البَأْسَ﴾ . وتَقَدَّمَ الشُّحُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: ١٢٨] في سُورَةِ النِّساءِ.
(p-٢٩٦)و﴿أشِحَّةً﴾ [الأحزاب: ١٩] حالٌ مِن ضَمِيرِ يَأْتُونَ. والشُّحُّ: البُخْلُ بِما في الوُسْعِ مِمّا يَنْفَعُ الغَيْرَ. وأصْلُهُ: عَدَمُ بَذْلِ المالِ، ويُسْتَعْمَلُ مَجازًا في مَنعِ المَقْدُورِ مِنَ النَّصْرِ أوِ الإعانَةِ، وهو يَتَعَدّى إلى الشَّيْءِ المَبْخُولِ بِهِ بِالباءِ وبِـ عَلى قالَ تَعالى: ﴿أشِحَّةً عَلى الخَيْرِ﴾ [الأحزاب: ١٩] ويَتَعَدّى إلى الشَّخْصِ المَمْنُوعِ بِـ عَلى أيْضًا لِما في الشُّحِّ مِن مَعْنى الِاعْتِداءِ فَتَعْدِيَتُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ [الأحزاب: ١٩] مِنَ التَّعْدِيَةِ إلى المَمْنُوعِ.
والمَعْنى: يَمْنَعُونَكم ما في وُسْعِهِمْ مِنَ المالِ أوِ المَعُونَةِ، أيْ إذا حَضَرُوا البَأْسَ مَنَعُوا فائِدَتَهم عَنِ المُسْلِمِينَ ما اسْتَطاعُوا ومِن ذَلِكَ شُحُّهم بِأنْفُسِهِمْ وكُلِّ ما يُشَحُّ بِهِ.
ويَجُوزُ جَعْلُ عَلى هُنا مُتَعَدِّيَةً إلى المُضْنُونِ بِهِ، أيْ كَما في البَيْتِ الَّذِي أنْشَدَهُ الجاحِظُ:
؎لَقَدْ كُنْتَ في قَوْمٍ عَلَيْكَ أشِحَّةً ∗∗∗ بِنَفْسِكَ إلّا أنَّ ما طاحَ طائِحُ
وجَعَلَ المَعْنى: أشِحَّةً في الظّاهِرِ، أيْ يُظْهِرُونَ أنَّهم يَخافُونَ عَلَيْكُمُ الهَلاكَ فَيَصُدُّونَكم عَنِ القِتالِ ويُحَسِّنُونَ إلَيْكُمُ الرُّجُوعَ عَنِ القِتالِ، وهَذا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ في الكَشّافِ.
وفُرِّعَ عَلى وصْفِهِمْ بِالشُّحِّ عَلى المُسْلِمِينَ قَوْلُهُ ﴿فَإذا جاءَ الخَوْفُ﴾ [الأحزاب: ١٩] إلى آخِرِهِ.
والمَجِيءُ: مَجازٌ مَشْهُورٌ مِن حُدُوثِ الشَّيْءِ وحُصُولِهِ. كَما قالَ تَعالى: ﴿فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ﴾ [الإسراء: ٧] .
والخَوْفُ: تَوَقُّعُ القِتالِ بَيْنَ الجَيْشَيْنِ، ومِنهُ سُمِّيَتْ صَلاةُ الخَوْفِ.
والمَقْصُودُ: وصْفُهم بِالجُبْنِ، أيْ إذا رَأوْا جُيُوشَ العَدُوِّ مُقْبِلَةً رَأيْتَهم يَنْظُرُونَ إلَيْكَ. والظّاهِرُ أنَّ الآيَةَ تُشِيرُ إلى ما حَصَلَ في بَعْضِ أيّامِ الأحْزابِ مِنَ القِتالِ بَيْنَ الفُرْسانِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ اقْتَحَمُوا الخَنْدَقَ مِن أضْيَقِ جِهاتِهِ وبَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ ومَن مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ كَما تَقَدَّمَ.
والخِطابُ في (رَأيْتُمْ) لِلنَّبِيءِ ﷺ وهو يَقْتَضِي أنَّ هَذا حِكايَةُ حالَةٍ وقَعَتْ لا فَرْضُ وُقُوعِها ولِهَذا أُتِيَ بِفِعْلِ رَأيْتُهم ولَمْ يَقُل: فَإذا جاءَ الخَوْفُ يَنْظُرُونَ (p-٢٩٧)إلَيْكَ. ونَظَرُهم إلَيْهِ نَظَرَ المُتَفَرِّسِ فَيَماذا يَصْنَعُ ولِسانُ حالِهِمْ يَقُولُ: ألَسْنا قَدْ قُلْنا لَكم إنَّكم لا قِبَلَ لَكم بِقِتالِ الأحْزابِ فارْجِعُوا، وهم يَرَوْنَهُ أنَّهم كانُوا عَلى حَقٍّ حِينَ يُحَذِّرُونَهُ قِتالَ الأحْزابِ، ولِذَلِكَ خَصَّ نَظَرَهم بِأنَّهُ لِلنَّبِيءِ ﷺ ولَمْ يَقُلْ: يَنْظُرُونَ إلَيْكم.
وجِيءَ بِصِيغَةِ المُضارِعِ لِيَدُلَّ عَلى تَكَرُّرِ هَذا النَّظَرِ وتَجَدُّدِهِ.
وجُمْلَةُ ﴿تَدُورُ أعْيُنُهُمْ﴾ [الأحزاب: ١٩] حالٌ مِن ضَمِيرِ يَنْظَرُونَ لِتَصْوِيرِ هَيْئَةِ نَظَرِهِمْ نَظَرَ الخائِفِ المَذْعُورِ الَّذِي يُحْدِقُ بِعَيْنَيْهِ إلى جِهاتٍ يَحْذَرُ أنْ تَأْتِيَهُ المَصائِبُ مِن إحْداها.
والدَّوْرُ والدَّوْرانُ: حَرَكَةُ جِسْمٍ رَحَوِيَّةٌ (أيْ كَحَرَكَةِ الرَّحى) مُنْتَقِلٌ مِن مَوْضِعٍ إلى مَوْضِعٍ فَيَنْتَهِي إلى حَيْثُ ابْتَدَأ. وأحْسَبُ أنَّ هَذا الفِعْلَ وما تَصَّرَفَ مِنهُ مُشْتَقّاتٌ مِنِ اسْمِ الدّارِ، وهي المَكانُ المَحْدُودُ المُحِيطُ بِسُكّانِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ حَوْلَهم. ومِنهُ سُمِّيَتِ الدّارَةُ لِكُلِّ أرْضٍ تُحِيطُ بِها جِبالٌ. وقالُوا: دارَتِ الرَّحى حَوْلَ قُطْبِها. وسَمَّوُا الصَّنَمَ: دُوارًا بِضَمِّ الدّالِ وفَتْحِها لِأنَّهُ يَدُورُ بِهِ زائِرُوهُ كالطَّوافِ. وسُمِّيَتِ الكَعْبَةُ دُوارًا أيْضًا، وسَمَّوْا ما يُحِيطُ بِالقَمَرِ دارَةً. وسُمِّيَتْ مُصِيبَةُ الحَرْبِ دائِرَةً لِأنَّهم تَخَيَّلُوها مُحِيطَةً بِالَّذِي نَزَلَتْ بِهِ لا يَجِدُ مِنها مَفَرًّا، قالَ عَنْتَرَةُ:
؎ولَقَدْ خَشِيتُ بِأنْ أمُوتَ ولَمْ تَدُرْ ∗∗∗ في الحَرْبِ دائِرَةٌ عَلى ابْنَيْ ضَمْضَمِ
فَمَعْنى ﴿تَدُورُ أعْيُنُهُمْ﴾ [الأحزاب: ١٩] أنَّها تَضْطَرِبُ في أجْفانِها كَحَرَكَةِ الجِسْمِ الدّائِرَةِ مِن سُرْعَةٍ تَنْقُلُها مُحَمْلِقَةٍ إلى الجِهاتِ المُحِيطَةِ.
وشَبَّهَ نَظَرَهَمْ بِنَظَرِ الَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ بِسَبَبِ النَّزْعِ عِنْدَ المَوْتِ فَإنَّ عَيْنَيْهِ تَضْطَرِبانِ.
وذَهابُ الخَوْفِ مَجازٌ مَشْهُورٌ في الِانْقِضاءِ، أيْ زَوالِ أسْبابِهِ بِأنْ يُتْرَكَ القِتالُ أوْ يَتَبَيَّنَ أنْ لا يَقَعَ قِتالٌ. وذَلِكَ عِنْدَ انْصِرافِ الأحْزابِ عَنْ مُحاصَرَةِ المَدِينَةِ كَما سَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿يَحْسَبُونَ الأحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا﴾ [الأحزاب: ٢٠] .
(p-٢٩٨)والسَّلْقُ: قُوَّةُ الصَّوْتِ والصِّياحِ. والمَعْنى: رَفَعُوا أصْواتَهم بِالمَلامَةِ عَلى التَّعَرُّضِ لِخَطَرِ العَدُوِّ الشَّدِيدِ وعَدَمِ الِانْصِياعِ إلى إشارَتِهِمْ عَلى المُسْلِمِينَ بِمُسالَمَةِ المُشْرِكِينَ، وفُسِّرَ السَّلْقُ بِأذى اللِّسانِ. قِيلَ: سَألَ نافِعُ بْنُ الأزْرَقِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبّاسٍ عَنْ ﴿سَلَقُوكُمْ﴾ [الأحزاب: ١٩] فَقالَ: الطَّعْنُ بِاللِّسانِ. فَقالَ نافِعٌ: هَلْ تَعْرِفُ العَرَبُ ذَلِكَ ؟ فَقالَ: نَعَمْ أما سَمِعْتَ قَوْلَ الأعْشى:
؎فِيهِمِ الخِصْبُ والسَّماحَةُ والنَّجْ ∗∗∗ دَةُ فِيهِمْ والخاطِبُ المِسْلاقُ
وحِدادٌ: جَمْعُ حَدِيدٍ، وحَدِيدٌ: كُلُّ شَيْءٍ نافِذٌ فِعْلُ أمْثالِهِ قالَ تَعالى: ﴿فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: ٢٢] .
وانْتَصَبَ ﴿أشِحَّةً عَلى الخَيْرِ﴾ [الأحزاب: ١٩] عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ الرَّفْعِ في ﴿سَلَقُوكُمْ﴾ [الأحزاب: ١٩]، أيْ خاصَمُوكم ولامُوكم وهم في حالِ كَوْنِهِمْ أشِحَّةً عَلى ما فِيهِ الخَيْرُ لِلْمُسْلِمِينَ، أيْ أنَّ خِصامَهم إيّاهم لَيْسَ كَما يَبْدُو خَوْفًا عَلى المُسْلِمِينَ واسْتِبْقاءً عَلَيْهِمْ ولَكِنَّهُ عَنْ بُغْضٍ وحِقْدٍ؛ فَإنَّ بَعْضَ اللَّوْمِ والخِصامِ يَكُونُ الدّافِعُ إلَيْهِ حُبُّ المَلُومِ وإبْداءُ النَّصِيحَةِ لَهُ، وأقْوالُ الحُكَماءِ والشُّعَراءِ في هَذا المَعْنى كَثِيرَةٌ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخَيْرُ هُنا هو المالُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [البقرة: ١٨٠] وقَوْلِهِ ﴿وإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: ٨]، أيْ هم في حالَةِ السِّلْمِ يُسْرِعُونَ إلى مَلامِكم ولا يُواسُونَكم بِأمْوالِهِمْ لِلتَّجْهِيزِ لِلْعَدُوِّ إنْ عادَ إلَيْكم. ودَخَلَتْ عَلى هُنا عَلى المَبْخُولِ بِهِ.
{"ayah":"۞ قَدۡ یَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلۡمُعَوِّقِینَ مِنكُمۡ وَٱلۡقَاۤىِٕلِینَ لِإِخۡوَ ٰنِهِمۡ هَلُمَّ إِلَیۡنَاۖ وَلَا یَأۡتُونَ ٱلۡبَأۡسَ إِلَّا قَلِیلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق