(p-٢٩٠)﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أوِ القَتْلِ وإذًا لا تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلًا﴾
جَوابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ ﴿إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ﴾ [الأحزاب: ١٣] ولِذَلِكَ فُصِلَتْ لِأنَّها جَرَتْ عَلى أُسْلُوبِ التَّقاوُلِ والتَّجاوُبِ، وما بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ مِن قَوْلِهِ ﴿ولَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأحزاب: ١٤] إلى قَوْلِهِ مَسْئُولًا اعْتِراضٌ كَما تَقَدَّمَ. وهَذا يُرَجِّحُ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ لَمْ يَأْذَنْ لَهم بِالرُّجُوعِ إلى المَدِينَةِ وأنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِما أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَقُولَهُ لَهم، أيْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم ما أرَدْتُمْ إلّا الفِرارَ جُبْنًا والفِرارُ لا يَدْفَعُ عَنْكُمُ المَوْتَ أوِ القَتْلَ، فَمَعْنى نَفْيِ نَفْعِهِ: نَفْيُ ما يُقْصَدُ مِنهُ لِأنَّ نَفْعَ الشَّيْءِ هو أنْ يَحْصُلَ مِنهُ ما يُقْصَدُ لَهُ. فَقَوْلُهُ مِنَ المَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِـ الفِرارُ وفَرَرْتُمْ ولَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِـ يَنْفَعُكم لِأنَّ مُتَعَلِّقَ يَنْفَعُكم غَيْرُ مَذْكُورٍ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّياقِ، فالفائِدَةُ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ المُتَعَلِّقِ، أيْ لَنْ يَنْفَعَكم بِالنَّجاةِ.
ومَعْنى نَفْيِ نَفْعِ الفِرارِ وإنْ كانَ فِيهِ تَعاطِي سَبَبِ النَّجاةِ، هَذا السَّبَبُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ لِوُجُوبِ الثَّباتِ في وجْهِ العَدُوِّ مَعَ النَّبِيءِ ﷺ فَيَتَمَحَّضُ في هَذا الفِرارِ مُراعاةُ جانِبِ الحَقِيقَةِ وهو ما قُدِّرَ لِلْإنْسانِ مِنَ اللَّهِ إذْ لا مُعارِضَ لَهُ، فَلَوْ كانَ الفِرارُ مَأْذُونًا فِيهِ لِجازَ مُراعاةُ ما فِيهِ مِن أسْبابِ النَّجاةِ؛ فَقَدْ كانَ المُسْلِمُونَ مَأْمُورِينَ بِثَباتِ الواحِدِ لِلْعَشَرَةِ مِنَ العَدُوِّ فَكانَ حِينَئِذٍ الفِرارُ مِن وجْهِ عَشَرَةِ أضْعافِ المُسْلِمِينَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ وأُذِنَ فِيما زادَ عَلى ذَلِكَ، ولَمّا نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِأنْ يَثْبُتَ المُسْلِمُونَ لِضِعْفِ عَدَدِهِمْ مِنَ العَدُوِّ فالفِرارُ فِيما زادَ عَلى ذَلِكَ مَأْذُونٌ فِيهِ، وكَذَلِكَ إذْ كانَ المُسْلِمُونَ زَحْفًا فَإنَّ الفِرارَ حَرامٌ ساعَتَئِذٍ.
وأحْسَبُ أنَّ الأمْرَ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ كانَ قَبْلَ النَّسَخِ فَلِذَلِكَ وبَّخَ اللَّهُ الَّذِينَ أضْمَرُوا الفِرارَ فَإنَّ عَدَدَ جَيْشِ الأحْزابِ يَوْمَئِذٍ كانَ بِمِقْدارِ أرْبَعَةِ أمْثالِ جَيْشِ المُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنِ المُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ زَحْفًا فَإنَّ الحالَةَ حالَةُ حِصارٍ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى أيْضًا: أنَّكم إنْ فَرَرْتُمْ فَنَجَوْتُمْ مِنَ القَتْلِ لا يَنْفَعُكُمُ الفِرارُ مِنَ المَوْتِ بِالأجَلِ وعَسى أنْ تَكُونَ آجالُكم قَرِيبَةً.
(p-٢٩١)والمَوْتُ أُرِيدَ بِهِ: المَوْتُ الزُّؤامُ وهو المَوْتُ حَتْفَ أنْفِهِ لِأنَّهُ قُوبِلَ بِالقَتْلِ. والمَعْنى: أنَّ الفِرارَ لا يَدْفَعُ المَوْتَ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ يَقَعُ بِالفارِّ في الوَقْتِ الَّذِي عَلِمَ أنَّ الفارَّ يَمُوتُ فِيهِ ويُقْتَلُ فَإذا خُيِّلَ إلى الفارِّ أنَّ الفِرارَ قَدْ دَفَعَ عَنْهُ خَطَرًا فَإنَّما ذَلِكَ في الأحْوالِ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ أنَّها لا يُصِيبُ الفارَّ فِيها أذًى ولا بُدَّ لَهُ مِن مَوْتٍ حَتْفَ أنْفِهِ أوْ قَتْلٍ في الإبّانِ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ يَمُوتُ فِيهِ أوْ يُقْتَلُ.
ولِهَذا عَقَّبَ بِجُمْلَةِ ﴿وإذًا لا تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلًا﴾ جَوابًا عَنْ كَلامٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ المَذْكُورُ، أيْ إنْ خُيِّلَ إلَيْكم أنَّ الفِرارَ نَفَعَ الَّذِي فَرَّ في وقْتٍ ما فَما هو إلّا نَفْعٌ زَهِيدٌ لِأنَّهُ تَأْخِيرٌ في أجَلِ الحَياةِ وهو مَتاعٌ قَلِيلٌ، أيْ إعْطاءُ الحَياةِ مُدَّةً مُنْتَهِيَةً، فَإنَّ (إذَنْ) قَدْ تَكُونُ جَوابًا لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ المَذْكُورُ، كَقَوْلِ العَنْبَرِيِّ:
؎لَوْ كُنْتَ مِن مَأْزِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إبِلِي بَنُو اللَّقِيطَةِ مِن ذُهْلِ بْنِ شَيْبانَ
؎إذَنْ لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ ∗∗∗ عِنْدَ الحَفِيظَةِ إنْ ذُو لَوْثَةٍ لانا
فَإنَّ قَوْلَهُ: (إذَنْ) لَقامَ بِنَصْرِي، جَوابٌ وجَزاءٌ عَنْ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ: لَمْ تَسْتَبِحْ إبِلِي. والتَّقْدِيرُ: فَإنِ اسْتَباحُوا إبِلِي إذَنْ لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ، وهو الَّذِي أشْعَرَ كَلامُ المَرْزُوقِيِّ بِاخْتِيارِهِ خِلافًا لِما في مُغْنِي اللَّبِيبِ.
والأكْثَرُ أنَّ (إذَنْ) إنْ وقَعَتْ بَعْدَ الواوِ والفاءِ العاطِفَتَيْنِ أنْ لا يُنْصَبَ المُضارِعُ بَعْدَها، ووَرَدَ نَصْبُهُ نادِرًا.
والمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ تَخْلِيقُ المُسْلِمِينَ بِخُلُقِ اسْتِضْعافِ الحَياةِ الدُّنْيا وصَرْفُ هِمَمِهِمْ إلى السَّعْيِ نَحْوَ الكَمالِ الَّذِي بِهِ السَّعادَةُ الأبَدِيَّةُ سَيْرًا وراءَ تَعالِيمِ الدِّينِ الَّتِي تَقُودُ النُّفُوسَ إلى أوْجِ المَلَكِيَّةِ.
{"ayah":"قُل لَّن یَنفَعَكُمُ ٱلۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ ٱلۡمَوۡتِ أَوِ ٱلۡقَتۡلِ وَإِذࣰا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا"}