الباحث القرآني
﴿خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وألْقى في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكم وبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ ﴿هَذا خَلْقُ اللَّهِ فَأرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾
اسْتِئْنافٌ لِلِاسْتِدْلالِ عَلى الَّذِينَ دَأْبُهُمُ الإعْراضُ عَنْ آياتِ اللَّهِ بِأنَّ اللَّهَ هو خالِقُ المَخْلُوقاتِ فَلا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أنْ تُثْبَتَ لَهُ الإلَهِيَّةُ فَكانَ ادِّعاءُ الإلَهِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ (p-١٤٦)هُوَ العِلَّةُ لِلْإعْراضِ عَنْ آياتِ الكِتابِ الحَكِيمِ فَهم لَمّا أثْبَتُوا الإلَهِيَّةَ لِما لا يَخْلُقُ شَيْئًا كانُوا كَمَن يَزْعُمُ أنَّ الأصْنامَ مُماثِلَةٌ لِلَّهِ تَعالى في أوْصافِهِ فَلِذَلِكَ يَقْتَضِي انْتِفاءُ وصْفِ الحِكْمَةِ عَنْهُ كَما هو مُنْتَفٍ عَنْها. ولِذا فَإنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الآياتِ مُوقِعُ دَلِيلِ الدَّلِيلِ، وهو المَقامُ المُعَبَّرُ عَنْهُ في عِلْمِ الِاسْتِدْلالِ بِالتَّدْقِيقِ، وهو ذِكْرُ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ ودَلِيلِ دَلِيلِهِ، فالخِطابُ في قَوْلِهِ (تَرَوْنَها) و(بِكم) لِلْمُشْرِكِينَ، وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الرَّعْدِ قَوْلُهُ ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها﴾ [الرعد: ٢] وتَقَدَّمَ في أوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ قَوْلُهُ ﴿وألْقى في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ والمَعْنى خَوَفَ أنْ تَمِيدَ بِكم أوْ لِئَلّا تُمِيدَكم كَما بَيَّنَ هُنالِكَ.
وتَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ قَوْلُهُ ﴿وبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ وتَصْرِيفِ الرِّياحِ﴾ [البقرة: ١٦٤] .
وقَوْلُهُ ﴿أنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ هو نَظِيرُ قَوْلِهِ في سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿وما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِن ماءٍ﴾ [البقرة: ١٦٤] وقَوْلِهِ في سُورَةِ الرَّعْدِ ﴿أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أوْدِيَةٌ﴾ [الرعد: ١٧] .
والِالتِفاتُ مِنَ الغَيْبَةِ إلى التَّكَلُّمِ في قَوْلِهِ (وأنْزَلْنا) لِلِاهْتِمامِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي هي أكْثَرُ دَوَرانًا عِنْدَ النّاسِ.
وضَمِيرُ فِيها عائِدٌ إلى الأرْضِ.
والزَّوْجُ: الصِّنْفُ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَأخْرَجْنا بِهِ أزْواجًا مِن نَباتٍ شَتّى﴾ [طه: ٥٣] في طه وقَوْلِهِ ﴿وأنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥] في سُورَةِ الحَجِّ.
والكَرِيمُ: النَّفِيسُ في نَوْعِهِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٢٩] في سُورَةِ النَّمْلِ.
وقَدْ أُدْمِجَ في أثْناءِ دَلائِلِ صِفَةِ الحِكْمَةِ الِامْتِنانُ بِما في ذَلِكَ مِن مَنافِعٍ لِلْخَلْقِ بِقَوْلِهِ ﴿أنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ و﴿وبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ﴾ فَإنَّ مِنَ الدَّوابِّ المَبْثُوثَةِ ما يَنْتَفِعُ بِهِ النّاسُ مَن أكْلِ لُحُومِ أوانِسِها ووُحُوشِها والِانْتِفاعِ بِألْبانِها وأصْوافِها وجُلُودِها وقُرُونِها وأسْنانِها والحَمْلِ عَلَيْها والتَّجَمُّلِ بِها في مُرابِطِها وغُدُوِّها ورَواحِها، ثُمَّ مِن نِعْمَةِ مَنافِعِ النَّباتِ مِنَ الحَبِّ والثَّمَرِ والكَلَأِ والكَمْأةِ. وإذْ كانَتِ البِحارُ مِن جُمْلَةِ الأرْضِ فَقَدْ شَمِلَ الِانْتِفاعُ بِدَوابَّ البَحْرِ فاللَّهُ كَما أبْدَعَ الصُّنْعَ أسْبَغَ النِّعْمَةَ فَأرانا آثارَ الحِكْمَةِ والرَّحْمَةِ.
(p-١٤٧)وجُمْلَةُ ﴿هَذا خَلْقُ اللَّهِ﴾ إلى آخِرِها نَتِيجَةُ الِاسْتِدْلالِ بِخَلْقِ السَّماءِ والأرْضِ والجِبالِ والدَّوابِّ وإنْزالِ المَطَرِ. واسْمُ الإشارَةِ إلى ما تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ ﴿خَلَقَ السَّماواتِ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ . والإتْيانُ بِهِ مُفْرَدًا بِتَأْوِيلِ المَذْكُورِ.
والِانْتِقالُ مِنَ التَّكَلُّمِ إلى الغَيْبَةِ في قَوْلِهِ ﴿خَلْقُ اللَّهِ﴾ التِفاتًا لِزِيادَةِ التَّصْرِيحِ بِأنَّ الخِطابَ وارِدٌ مِن جانِبِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿هَذا خَلْقُ اللَّهِ﴾، وكَذَلِكَ يَكُونُ الِانْتِقالُ مِنَ التَّكَلُّمِ إلى الغَيْبَةِ في قَوْلِهِ ﴿ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ التِفاتًا لِمُراعاةِ العَوْدِ إلى الغَيْبَةِ في قَوْلِهِ ﴿خَلْقُ اللَّهِ﴾ .
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مِن قَوْلِهِ (فَأرُونِي) عَلَمِيَّةً، أيْ فَأنْبِئُونِي، والفِعْلُ مُعَلَّقًا عَنِ العَمَلِ بِالِاسْتِفْهامِ بِـ ماذا.
فَيَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ فَأرُونِي تَهَكُّمًا لِأنَّهم لا يُمْكِنُ لَهم أنْ يُكافِحُوا اللَّهَ زِيادَةً عَلى كَوْنِ الأمْرِ مُسْتَعْمَلًا في التَّعْجِيزِ، لَكِنَّ التَّهَكُّمَ أسْبَقُ لِلْقَطْعِ بِأنَّهم لا يَتَمَكَّنُونَ مِن مُكافَحَةِ اللَّهِ قَبْلَ أنْ يُقْطَعُوا بِعَجْزِهِمْ عَنْ تَعْيِينِ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ مِن دُونِ اللَّهِ قَطْعًا نَظَرِيًّا.
وصَوْغُ أمْرِ التَّعْجِيزِ مِن مادَّةِ الرُّؤْيَةِ البَصَرِيَّةِ أشَدُّ في التَّعْجِيزِ لِاقْتِضائِها الِاقْتِناعَ مِنهم بِأنْ يُحْضِرُوا شَيْئًا يَدَّعُونَ أنَّ آلِهَتَهم خَلَقَتْهُ. وهَذا كَقَوْلِ حُطائِطِ بْنِ يَعْفُرَ النَّهْشَلِيِّ وقِيلِ حاتِمٍ الطّائِيِّ:
؎أرِينِي جَوادًا ماتَ هَزْلًا لَعَلَّنِي أرى ما تُزَيِّنُ أوْ بَخِيلًا مُخَلَّدًا
أيْ أحْضِرْنِي جَوادًا ماتَ مِنَ الهُزالِ وأرِينِيهِ لَعَلِّي أرى مِثْلَ ما رَأيْتِيهِ.
والعَرَبُ يَقْصِدُونَ في مِثْلِ هَذا الغَرَضِ الرُّؤْيَةَ البَصَرِيَّةَ، ولِذَلِكَ يَكْثُرُ أنْ يَقُولَ: ما رَأتْ عَيْنِي، وانْظُرْ هَلْ تَرى. وقالَ امْرِؤُ القَيْسِ:
؎فَلِلَّهِ عَيْنا مَن رَأى مِن تَـفَـرُّقٍ ∗∗∗ أشَتَّ وأنْأى مِن فِراقِ المُحَصَّبِ
وإجْراءُ اسْمِ مَوْصُولِ العُقَلاءِ عَلى الأصْنامِ مُجازاةٌ لِلْمُشْرِكِينَ إذْ يَعُدُّنَهم عُقَلاءَ.
(p-١٤٨)و”مِن دُونِهِ“ صِلَةُ المَوْصُولِ، و”دُونَ“ كِنايَةٌ عَنِ الغَيْرِ، و”مِن“ جارَّةٌ لِاسْمِ المَكانِ عَلى وجْهِ الزِّيادَةِ لِتَأْكِيدِ الِاتِّصالِ بِالظَّرْفِ.
و(بَلْ) لِلْإضْرابِ الِانْتِقالِيِّ مِن غَرَضِ المُجادَلَةِ إلى غَرَضِ تَسْجِيلِ ضَلالِهِمْ، أيْ في اعْتِقادِهِمْ إلَهِيَّةِ الأصْنامِ، كَما يُقالُ في المُناظَرَةِ: دَعْ عَنْكَ هَذا وانْتَقَلَ إلى كَذا.
والظّالِمُونَ: المُشْرِكُونَ. والضَّلالُ المُبِينُ: الكُفْرُ الفَظِيعُ، لِأنَّهم أعْرَضُوا عَنْ دَعْوَةِ الإسْلامِ لِلْحَقِّ، وذَلِكَ ضَلالٌ، وأشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ في الإلَهِيَّةِ، فَذَلِكَ كُفْرٌ فَظِيعٌ.
وجِيءَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِإفادَةِ اكْتِنافِ الضَّلالِ بِهِمْ في سائِرِ أحْوالِهِمْ، أيْ شِدَّةِ مُلابَسَتِهِ إيّاهم.
{"ayahs_start":10,"ayahs":["خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ وَأَلۡقَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰسِیَ أَن تَمِیدَ بِكُمۡ وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةࣲۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجࣲ كَرِیمٍ","هَـٰذَا خَلۡقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِی مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِینَ مِن دُونِهِۦۚ بَلِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ"],"ayah":"خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ وَأَلۡقَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰسِیَ أَن تَمِیدَ بِكُمۡ وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةࣲۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجࣲ كَرِیمٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق