الباحث القرآني

﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ في السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ويَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِن خِلالِهِ فَإذا أصابَ بِهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ إذا هم يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ﴿وإنْ كانُوا مِن قَبْلِ أنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ جاءَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ عَلى أُسْلُوبِ أمْثالِها كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [الروم: ١١] وجاءَتِ المُناسَبَةُ هُنا لِذِكْرِ الِاسْتِدْلالِ بِإرْسالِ الرِّياحِ في قَوْلِهِ ﴿ومِن آياتِهِ أنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ﴾ [الروم: ٤٦] اسْتِدْلالًا عَلى التَّفَرُّدِ بِالتَّصَرُّفِ وتَصْوِيرِ الصُّنْعِ الحَكِيمِ الدّالِّ عَلى سَعَةِ العِلْمِ، ثُمَّ أعْقَبَ بِالِاسْتِدْلالِ بِإرْسالِ الرِّياحِ تَوَسُّلًا إلى ذِكْرِ إحْياءِ الأرْضِ بَعْدَ مَوْتِها المُسْتَدَلِّ بِهِ عَلى البَعْثِ، فَقَدْ أفادَتْ صِيغَةُ الحَصْرِ بِقَوْلِهِ ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ﴾ أنَّهُ المُتَصَرِّفُ في هَذا الشَّأْنِ العَجِيبِ دُونَ غَيْرِهِ، وكَفى بِهَذا إبْطالًا لِإلَهِيَّةِ الأصْنامِ، لِأنَّها لا تَسْتَطِيعُ مِثْلَ هَذا الصُّنْعِ الَّذِي هو أقْرَبُ التَّصَرُّفاتِ في شُئُونِ نَفْعِ البَشَرِ. والتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ المُضارِعِ في: يُرْسِلُ، وتُثِيرُ، ويَبْسُطُهُ، ويَجْعَلُهُ (p-١٢١)لِاسْتِحْضارِ الصُّوَرِ العَجِيبَةِ في تِلْكَ التَّصَرُّفاتِ حَتّى كَأنَّ السّامِعَ يُشاهِدُ تَكْوِينَها مَعَ الدَّلالَةِ عَلى تَجَدُّدِ ذَلِكَ. وجُمِعَ ”الرِّياحَ“ لِما شاعَ في اسْتِعْمالِهِمْ مِن إطْلاقِها (بِصِيغَةِ الجَمْعِ) عَلى رِيحِ البِشارَةِ بِالمَطَرِ لِأنَّ الرِّياحَ الَّتِي تُثِيرُ السَّحابَ هي الرِّياحُ المُخْتَلِفَةُ جِهاتُ هُبُوبِها بَيْنَ: جَنُوبٍ وشَمالٍ وصَبًا ودَبُورٍ، بِخِلافِ اسْمِ الرِّيحِ المُفْرَدَةِ فَإنَّهُ غَلَبَ في الِاسْتِعْمالِ إطْلاقُهُ عَلى رِيحِ القُوَّةِ والشِّدَّةِ لِأنَّها تَتَّصِلُ وارِدَةً مِن صَوْبٍ واحِدٍ فَلا تَزالُ تَشْتَدُّ. ورُوِيَ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ كانَ إذا هَبَّتِ الرِّيحُ قالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْها رِياحًا لا رِيحًا» . وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وتَصْرِيفِ الرِّياحِ﴾ [البقرة: ١٦٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ. والإثارَةُ: تَحْرِيكُ القارِّ تَحْرِيكًا يَضْطَرِبُ بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ. وإثارَةُ السَّحابِ إنْشاؤُهُ بِما تُحْدِثُهُ الرِّياحُ في الأجْواءِ مِن رُطُوبَةٍ تَحْصُلُ مِن تَفاعُلِ الحَرارَةِ والبُرُودَةِ. والبَسْطُ: النَّشْرُ. والسَّماءُ: الجَوُّ الأعْلى وهو جَوُّ الأسْحِبَةِ. و(كَيْفَ) هُنا مُجَرَّدَةٌ عَنْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ، ومَوْقِعُها المَفْعُولِيَّةُ المُطْلَقَةُ مِن يَبْسُطُهُ لِأنَّها نائِبَةٌ عَنِ المَصْدَرِ، أيْ يَبْسُطُهُ بَسْطًا كَيْفِيَّتُهُ يَشاؤُها اللَّهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ﴾ [آل عمران: ٦] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وتَقَدَّمَ أنَّ مَن زَعَمَ أنَّها شَرْطٌ لَمْ يُصادِفِ الصَّوابَ. و”كِسَفا“ بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ جَمْعُ كِسْفٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، ويُقالُ: كِسْفَةٌ بَهاءِ تَأْنِيثِ وهو القِطْعَةُ. وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا﴾ [الإسراء: ٩٢] في سُورَةِ الإسْراءِ. وتَقَدَّمَ الكِسَفُ في قَوْلِهِ ﴿فَأسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفًا مِنَ السَّماءِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ [الشعراء: ١٨٧] في سُورَةِ الشُّعَراءِ. والمَعْنى: لِأنَّهُ يَبْسُطُ السَّحابَ في السَّماءِ تارَةً، أيْ يَجْعَلُهُ مُمْتَدًّا عامًّا في جَوِّ السَّماءِ وهو المُدَجَّنُ الَّذِي يُظْلِمُ بِهِ الجَوُّ ويُقالُ المُغْلَقُ، ويَجْعَلُهُ كِسَفا (أيْ تارَةً أُخْرى) كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ المُقابَلَةُ، أيْ يَجْعَلُهُ غَماماتٍ لِأنَّ حالَةَ جَعْلِهِ كِسَفًا غَيْرُ حالَةِ بَسْطِهِ في (p-١٢٢)السَّماءِ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ الجَمْعُ بَيْنَهُما في الذِّكْرِ مُرادًا مِنهُ اخْتِلافُ أحْوالِ السَّحابِ. والمَقْصُودُ مِن هَذا: أنَّ اخْتِلافَ الحالِ آيَةٌ عَلى سَعَةِ القُدْرَةِ. والخِطابُ في ﴿فَتَرى الوَدْقَ﴾ خِطابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وهو كُلُّ مَن يَتَأتّى مِنهُ سَماعُ هَذا وتَتَأتّى مِنهُ رُؤْيَةُ الوَدْقِ. والوَدْقُ: المَطَرُ. وضَمِيرُ ”خِلالِهِ“ لِلسَّحابِ بِحالَتَيْهِ المَذْكُورَتَيْنِ وهُما حالَةُ بَسْطِهِ في السَّماءِ وحالَةُ جَعْلِهِ كِسَفًا فَإنَّ المَطَرَ يَنْزِلُ مِن خِلالِ السَّحابِ المُغْلَقِ والغَماماتِ. والخِلالُ: جَمْعُ خَلَلٍ بِفَتْحَتَيْنِ وهو الفُرْجَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. وتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ في سُورَةِ النُّورِ. وذِكْرُ اخْتِلافِ أحْوالِ العِبادِ في وقْتِ نُزُولِ المَطَرِ وفي وقْتِ انْحِباسِهِ بَيْنَ اسْتِبْشارٍ وإبْلاسٍ إدْماجٌ لِلتَّذْكِيرِ بِرَحْمَةِ اللَّهِ إيّاهم ولِلِاعْتِبارِ بِاخْتِلافِ تَأثُّراتِ نُفُوسِهِمْ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، وفي ذَلِكَ إيماءٌ إلى عَظِيمِ تَصَرُّفِ اللَّهِ في خِلْقَةِ الإنْسانِ إذْ جَعَلَهُ قابِلًا لِاخْتِلافِ الِانْفِعالِ مَعَ اتِّحادِ العَقْلِ والقَلْبِ كَما جَعَلَ السَّحابَ مُخْتَلِفَ الِانْفِعالِ مِن بَسْطٍ وتَقْطُعٍ مَعَ اتِّحادِ الفِعْلِ وهو خُرُوجُ الوَدْقِ مِن خِلالِهِ. و(إنَّ) في قَوْلِهِ (وإنْ كانُوا) مُخَفِّفَةٌ مُهْمَلَةٌ عَنِ العَمَلِ، واللّامُ في قَوْلِهِ لِمُبْلِسِينَ اللّامُ الفارِقَةُ بَيْنَ إنِ المُخَفَّفَةِ وإنِ الشَّرْطِيَّةِ. والإبْلاسُ: يَأْسٌ مَعَ انْكِسارٍ. وقَوْلُهُ (مِن قَبْلِهِ) تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ ﴿مِن قَبْلِ أنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ لِتَوْكِيدِ مَعْنى قَبْلِيَّةِ نُزُولِ المَطَرِ وتَقْرِيرِهِ في نُفُوسِ السّامِعِينَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أفادَ التَّأْكِيدُ الإعْلامَ بِسُرْعَةِ تَقَلُّبِ قُلُوبِ البَشَرِ مِنَ الإبْلاسِ إلى الِاسْتِبْشارِ اهــ. يَعْنِي أنَّ إعادَةَ قَوْلِهِ (مِن قَبْلِهِ) زِيادَةُ تَنْبِيهٍ عَلى الحالَةِ الَّتِي كانَتْ مِن قَبْلِ نُزُولِ المَطَرِ. وقالَ في الكَشّافِ فِيهِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ عَهْدَهم بِالمَطَرِ قَدْ تَطاوَلَ فاسْتَحْكَمَ إبْلاسَهم فَكانَ الِاسْتِبْشارُ عَلى قَدْرِ اغْتِمامِهِمْ اهــ. (p-١٢٣)يَعْنِي أنَّ فائِدَةَ إعادَةِ (مِن قَبْلِهِ) أنَّ مُدَّةَ ما قَبْلَ نُزُولِ المَطَرِ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ فَأُشِيرَ إلى قُوَّتِها بِالتَّوْكِيدِ. وضَمِيرُ (قَبْلِهِ) عائِدٌ إلى المَصْدَرِ المَأْخُوذِ مِن (أنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) أيْ تَنْزِيلِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب