الباحث القرآني
﴿هو الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ .
اسْتِئْنافٌ ثالِثٌ بِإخْبارٍ عَنْ شَأْنٍ مِن شُئُونِ اللَّهِ تَعالى، مُتَعَلِّقٌ بِالغَرَضِ المَسُوقِ لَهُ الكَلامُ: وهو تَحْقِيقُ إنْزالِهِ القُرْآنَ والكِتابَيْنِ مِن قَبْلِهِ، فَهَذا الِاسْتِئْنافُ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ﴾ [آل عمران: ٣] وتَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ ﴿مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ﴾ لِأنَّ الآياتِ نَزَلَتْ في مُجادَلَةِ وفْدِ نَجْرانَ، وصُدِّرَتْ بِإبْطالِ عَقِيدَتِهِمْ في إلَهِيَّةِ المَسِيحِ: بِالإشارَةِ إلى أوْصافِ الإلَهِ الحَقَّةِ. تَوَجَّهَ الكَلامُ هُنا إلى إزالَةِ شُبْهَتِهِمْ في شَأْنِ زَعْمِهِمُ اعْتِرافَ نُصُوصِ القُرْآنِ بِإلَهِيَّةِ المَسِيحِ؛ إذْ وُصِفَ فِيها بِأنَّهُ رُوحُ اللَّهِ؛ وأنَّهُ يُحْيِي المَوْتى وأنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ، وغَيْرُ ذَلِكَ فَنُودِيَ عَلَيْهِمْ بِأنَّ ما تَعَلَّقُوا بِهِ تَعَلُّقَ اشْتِباهٍ وسُوءِ تَأْوِيلٍ.
وفِي قَوْلِهِ ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ قَصْرُ صِفَةِ إنْزالِ القُرْآنِ عَلى اللَّهِ تَعالى: لِتَكُونَ الجُمْلَةُ مَعَ كَوْنِها تَأْكِيدًا وتَمْهِيدًا، إبْطالًا أيْضًا لِقَوْلِ المُشْرِكِينَ: ﴿إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣] وقَوْلِهِمْ ﴿أساطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهي تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥] . وكَقَوْلِهِ ﴿وما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ﴾ [الشعراء: ٢١٠] ﴿وما يَنْبَغِي لَهم وما يَسْتَطِيعُونَ﴾ [الشعراء: ٢١١] ﴿إنَّهم عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ [الشعراء: ٢١٢] وذَلِكَ أنَّهم قالُوا: هو قَوْلُ كاهِنٍ، وقَوْلُ شاعِرٍ، واعْتَقَدُوا أنَّ أقْوالَ الكُهّانِ وأقْوالَ الشُّعَراءِ مِن إمْلاءِ الأرْئِياءِ (جَمْعِ رَئِيٍّ) .
(p-١٥٤)ومِن بَدائِعِ البَلاغَةِ أنْ ذَكَرَ في القَصْرِ فِعْلَ ”أنْزَلَ“، الَّذِي هو مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعالى ولَوْ بِدُونِ صِيغَةِ القَصْرِ، إذِ الإنْزالُ يُرادِفُ الوَحْيَ ولا يَكُونُ إلّا مِنَ اللَّهِ، بِخِلافِ ما لَوْ قالَ: هو الَّذِي آتاكَ الكِتابَ.
وضَمِيرُ ”مِنهُ“ عائِدٌ إلى القُرْآنِ. و(مِنهُ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ و﴿آياتٌ مُحْكَماتٌ﴾ مُبْتَدَأٌ.
والإحْكامُ في الأصْلِ المَنعُ؛ قالَ جَرِيرٌ:
؎أبَنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهاءَكم إنِّي أخافُ عَلَيْكُمُ أنْ أغْضَبا
واسْتُعْمِلَ الإحْكامُ في الإتْقانِ والتَّوْثِيقِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ تَطَرُّقَ ما يُضادُّ المَقْصُودَ، ولِذا سُمِّيَتِ الحِكْمَةُ حِكْمَةً، وهو حَقِيقَةٌ أوْ مَجازٌ مَشْهُورٌ.
وأُطْلِقَ المُحْكَمُ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى واضِحِ الدَّلالَةِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ؛ لِأنَّ في وُضُوحِ الدَّلالَةِ مَنعًا لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمالاتِ المُوجِبَةِ لِلتَّرَدُّدِ في المُرادِ.
وأُطْلِقَ المُتَشابِهَ هُنا عَلى خَفاءِ الدَّلالَةِ عَلى المَعْنى، عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ؛ لِأنَّ تَطَرُّقَ الِاحْتِمالِ في مَعانِي الكَلامِ يُفْضِي إلى عَدَمِ تَعَيُّنِ أحَدِ الِاحْتِمالاتِ، وذَلِكَ مِثْلُ تَشابُهِ الذَّواتِ في عَدَمِ تَمْيِيزِ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ.
وقَوْلُهُ ﴿أُمُّ الكِتابِ﴾ أُمُّ الشَّيْءِ: أصْلُهُ وما يَنْضَمُّ إلَيْهِ كَثِيرُهُ وتَتَفَرَّعُ عَنْهُ فُرُوعُهُ، ومِنهُ سُمِّيَتْ خَرِيطَةُ الرَّأْسِ الجامِعَةُ لَهُ: أُمَّ الرَّأْسِ وهي الدِّماغُ، وسُمِّيَتِ الرّايَةُ الأُمَّ؛ لِأنَّ الجَيْشَ يَنْضَوِي إلَيْها، وسُمِّيَتِ المَدِينَةُ العَظِيمَةُ أُمَّ القُرى، وأصْلُ ذَلِكَ أنَّ الأُمَّ حَقِيقَةً في الوالِدَةِ، وهي أصْلٌ لِلْمَوْلُودِ وجامِعٌ لِلْأوْلادِ في الحَضانَةِ، فَبِاعْتِبارِ هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ، أُطْلِقَ اسْمُ الأُمِّ عَلى ما ذَكَرْنا، عَلى وجْهِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ. ثُمَّ شاعَ ذَلِكَ الإطْلاقُ حَتّى ساوى الحَقِيقَةَ، وتَقَدَّمَ ذَلِكَ في تَسْمِيَةِ الفاتِحَةِ أُمَّ القُرْآنِ.
و”الكِتابُ“: القُرْآنُ لا مَحالَةَ؛ لِأنَّهُ المُتَحَدَّثُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ فَلَيْسَ قَوْلُهُ ﴿أُمُّ الكِتابِ﴾ هُنا بِمِثْلِ قَوْلِهِ ﴿وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ﴾ [الرعد: ٣٩] .
وقَوْلُهُ ﴿وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ المُتَشابِهاتُ: المُتَماثِلاتُ، والتَّماثُلُ يَكُونُ في صِفاتٍ كَثِيرَةٍ فَيُبَيَّنُ بِما يَدُلُّ عَلى وجْهِ التَّماثُلِ، وقَدْ يُتْرَكُ بَيانُهُ إذا كانَ وجْهُ التَّماثُلِ ظاهِرًا، كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا﴾ [البقرة: ٧٠] ولَمْ يَذْكُرْ في هَذِهِ الآيَةِ جِهَةَ التَّشابُهِ.
(p-١٥٥)وقَدْ أشارَتِ الآيَةُ: إلى أنَّ آياتِ القُرْآنِ صِنْفانِ: مُحْكَماتٌ وأضْدادُها، الَّتِي سُمِّيَتْ مُتَشابِهاتٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ المُحْكَماتِ هي أُمُّ الكِتابِ، فَعَلِمْنا أنَّ المُتَشابِهاتِ هي أضْدادُ المُحْكَماتِ، ثُمَّ أعْقَبَ ذَلِكَ بُقُولِهِ ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ أيْ تَأْوِيلِهِ الَّذِي لا قِبَلَ لِأمْثالِهِمْ بِهِ، فَعَلِمْنا أنَّ المُتَشابِهاتِ هي الَّتِي لَمْ يَتَّضِحِ المَقْصُودُ مِن مَعانِيها، فَعَلِمْنا أنَّ صِفَةَ المُحْكَماتِ والمُتَشابِهاتِ راجِعَةٌ إلى ألْفاظِ الآياتِ.
ووَصَفَ المُحْكَماتِ بِأنَّها أُمُّ الكِتابِ فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأُمِّ الأصْلَ، أوِ المَرْجِعَ، وهُما مُتَقارِبانِ: أيْ هُنَّ أصْلُ القُرْآنِ أوْ مَرْجِعُهُ، ولَيْسَ يُناسِبُ هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ إلّا دَلالَةُ القُرْآنِ؛ إذِ القُرْآنُ أُنْزِلَ لِلْإرْشادِ والهُدى، فالمُحْكَماتُ هي أُصُولُ الِاعْتِقادِ والتَّشْرِيعِ، والآدابِ والمَواعِظِ، وكانَتْ أُصُولًا لِذَلِكَ بِاتِّضاحِ دَلالَتِها، بِحَيْثُ تَدُلُّ عَلى مَعانٍ لا تَحْتَمِلُ غَيْرَها أوْ تَحْتَمِلُهُ احْتِمالًا ضَعِيفًا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ، وذَلِكَ كَقَوْلِهِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣] ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] ﴿واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ [البقرة: ٢٠٥] ﴿وأمّا مَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ ونَهى النَّفْسَ عَنِ الهَوى﴾ [النازعات: ٤٠] ﴿فَإنَّ الجَنَّةَ هي المَأْوى﴾ [النازعات: ٤١] . وبِاتِّضاحِ مَعانِيها بِحَيْثُ تَتَناوَلُها أفْهامُ مُعْظَمِ المُخاطَبِينَ بِها وتَتَأهَّلُ لِفَهْمِها فَهي أصْلُ القُرْآنِ المَرْجُوعُ إلَيْهِ في حَمْلِ مَعانِي غَيْرِها عَلَيْها لِلْبَيانِ أوِ التَّفْرِيعِ.
والمُتَشابِهاتُ مُقابِلُ المُحْكَماتِ، فَهي الَّتِي دَلَّتْ عَلى مَعانٍ تَشابَهَتْ في أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنها هو المُرادَ. ومَعْنى تَشابُهِها: أنَّها تَشابَهَتْ في صِحَّةِ القَصْدِ إلَيْها، أيْ لَمْ يَكُنْ بَعْضُها أرْجَحَ مِن بَعْضٍ، أوْ يَكُونُ مَعْناها صادِقًا بِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ مُتَناقِضَةٍ أوْ غَيْرِ مُناسِبَةٍ لِأنْ تَكُونَ مُرادًا، فَلا يَتَبَيَّنُ الغَرَضُ مِنها، فَهَذا وجْهُ تَفْسِيرِ الآيَةِ فِيما أرى.
وقَدِ اخْتَلَفَ عُلَماءُ الإسْلامِ في تَعْيِينِ المَقْصُودِ مِنَ المُحْكَماتِ والمُتَشابِهاتِ عَلى أقْوالٍ: مَرْجِعُها إلى تَعْيِينِ مِقْدارِ الوُضُوحِ والخَفاءِ. فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ المُحْكَمَ ما لا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرائِعُ كَتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى، وتَحْرِيمِ الفَواحِشِ، وذَلِكَ ما تَضَمَّنَتْهُ الآياتُ الثَّلاثُ مِن أواخِرِ سُورَةِ الأنْعامِ ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١] والآياتُ مِن سُورَةِ الإسْراءِ ﴿وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣]، وأنَّ المُتَشابِهَ المُجْمَلاتُ الَّتِي لَمْ تُبَيَّنْ كَحُرُوفِ أوائِلِ السُّورِ.
(p-١٥٦)وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا: أنَّ المُحْكَمَ ما لَمْ يُنْسَخْ والمُتَشابِهَ المَنسُوخُ وهَذا بَعِيدٌ عَنْ أنْ يَكُونَ مُرادًا هُنا لِعَدَمِ مُناسَبَتِهِ لِلْوَصْفَيْنِ ولا لِبَقِيَّةِ الآيَةِ.
وعَنِ الأصَمِّ: المُحْكَمُ ما اتَّضَحَ دَلِيلُهُ، والمُتَشابِهُ ما يَحْتاجُ إلى التَّدَبُّرِ، وذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ [الزخرف: ١١] فَأوَّلُها مُحْكَمٌ وآخِرُها مُتَشابِهٌ.
ولِلْجُمْهُورِ مَذْهَبانِ: أوَّلُهُما أنَّ المُحْكَمَ ما اتَّضَحَتْ دَلالَتُهُ، والمُتَشابِهَ ما اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، ونُسِبَ هَذا القَوْلُ لِمالِكٍ، في رِوايَةِ أشْهَبَ، مِن جامِعِ العُتْبِيَّةِ، ونَسَبَهُ الخَفاجِيُّ إلى الحَنَفِيَّةِ وإلَيْهِ مالَ الشّاطِبِيُّ في المُوافَقاتِ.
وثانِيهِما أنَّ المُحْكَمَ الواضِحُ الدَّلالَةِ، والمُتَشابِهَ الخَفِيُّها، وإلَيْهِ مالَ الفَخْرُ: فالنَّصُّ والظّاهِرُ هُما المُحْكَمُ، لِاتِّضاحِ دَلالَتِهِما، وإنْ كانَ أحَدُهُما أيِ الظّاهِرُ يَتَطَرَّقُهُ احْتِمالٌ ضَعِيفٌ، والمُجْمَلُ والمُؤَوَّلُ هُما المُتَشابِهُ، لِاشْتِراكِهِما في خَفاءِ الدَّلالَةِ وإنْ كانَ أحَدُهُما - أيِ المُؤَوَّلُ - دالًّا عَلى مَعْنًى مَرْجُوحٍ، يُقابِلُهُ مَعْنًى راجِحٌ، والمُجْمَلُ دالًّا عَلى مَعْنًى مَرْجُوحٍ يُقابِلُهُ مَرْجُوحٌ آخَرُ، ونُسِبَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ إلى الشّافِعِيَّةِ.
قالَ الشّاطِبِيُّ: فالتَّشابُهُ: حَقِيقِيٌّ، وإضافِيٌّ، فالحَقِيقِيُّ: ما لا سَبِيلَ إلى فَهْمِ مَعْناهُ، وهو المُرادُ مِنَ الآيَةِ، والإضافِيُّ: ما اشْتَبَهُ مَعْناهُ، لِاحْتِياجِهِ إلى مُراعاةِ دَلِيلٍ آخَرَ. فَإذا تَقَصّى المُجْتَهِدُ أدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ وجَدَ فِيها ما يُبَيِّنُ مَعْناهُ، والتَّشابُهُ بِالمَعْنى الحَقِيقِيِّ قَلِيلٌ جِدًّا في الشَّرِيعَةِ وبِالمَعْنى الإضافِيِّ كَثِيرٌ.
وقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ مِنَ القُرْآنِ مُحْكَمًا ومُتَشابِهًا، ودَلَّتْ آياتٌ أُخَرُ عَلى أنَّ القُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ، قالَ تَعالى ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ﴾ [هود: ١] وقالَ ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ﴾ [يونس: ١] والمُرادُ أنَّهُ أُحْكِمَ وأُتْقِنَ في بَلاغَتِهِ، كَما دَلَّتْ آياتٌ عَلى أنَّ القُرْآنَ كُلَّهُ مُتَشابِهٌ، قالَ تَعالى ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا﴾ [الزمر: ٢٣] والمَعْنى أنَّهُ تَشابَهَ في الحُسْنِ والبَلاغَةِ والحَقِّيَّةِ، وهو مَعْنى ﴿ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] فَلا تَعارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الآياتِ: لِاخْتِلافِ المُرادِ بِالإحْكامِ والتَّشابُهِ في مَواضِعِها، بِحَسَبِ ما تَقْتَضِيهِ المَقاماتُ.
(p-١٥٧)وسَبَبُ وُقُوعِ المُتَشابِهاتِ في القُرْآنِ: هو كَوْنُهُ دَعْوَةً ومَوْعِظَةً وتَعْلِيمًا وتَشْرِيعًا باقِيًا، ومُعْجِزَةً، وخُوطِبَ بِهِ قَوْمٌ لَمْ يَسْبِقْ لَهم عَهْدٌ بِالتَّعْلِيمِ والتَّشْرِيعِ، فَجاءَ عَلى أُسْلُوبٍ مُناسِبٍ لِجَمْعِ هَذِهِ الأُمُورِ، بِحَسَبِ حالِ المُخاطَبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَعْتادُوا الأسالِيبَ التَّدْرِيسِيَّةَ، أوِ الأمالِيَ العِلْمِيَّةَ، وإنَّما كانَتْ هِجِّيراهُمُ الخَطابَةَ والمُقاوَلَةَ، فَأُسْلُوبُ المَواعِظِ والدَّعْوَةِ قَرِيبٌ مِن أُسْلُوبِ الخَطابَةِ، وهو لِذَلِكَ لا يَأْتِي عَلى أسالِيبِ الكُتُبِ المُؤَلَّفَةِ لِلْعِلْمِ، أوِ القَوانِينِ المَوْضُوعَةِ لِلتَّشْرِيعِ، فَأُودِعَتِ العُلُومُ المَقْصُودَةُ مِنهُ في تَضاعِيفِ المَوْعِظَةِ والدَّعْوَةِ، وكَذَلِكَ أُودِعَ فِيهِ التَّشْرِيعُ، فَلا تَجِدُ أحْكامَ نَوْعٍ مِنَ المُعامَلاتِ، كالبَيْعِ، مُتَّصِلًا بَعْضُها بِبَعْضٍ، بَلْ تَلْفِيهِ مُوَزَّعًا عَلى حَسَبِ ما اقْتَضَتْهُ مَقاماتُ المَوْعِظَةِ والدَّعْوَةِ، لِيَخِفَّ تَلَقِّيهِ عَلى السّامِعِينَ، ويَعْتادُوا عِلْمَ ما لَمْ يَأْلَفُوهُ في أُسْلُوبٍ قَدْ ألِفُوهُ فَكانَتْ مُتَفَرِّقَةً يُضَمُّ بَعْضُها إلى بَعْضٍ بِالتَّدَبُّرِ. ثُمَّ إنَّ إلْقاءَ تِلْكَ الأحْكامِ كانَ في زَمَنٍ طَوِيلٍ، يَزِيدُ عَلى عِشْرِينَ سَنَةً، أُلْقِيَ إلَيْهِمْ فِيها مِنَ الأحْكامِ بِمِقْدارِ ما دَعَتْ إلَيْهِ حاجَتُهم، وتَحَمَّلَتْهُ مَقْدِرَتُهم، عَلى أنَّ بَعْضَ تَشْرِيعِهِ أُصُولٌ لا تَتَغَيَّرُ، وبَعْضَهُ فُرُوعٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ أحْوالِهِمْ، فَلِذَلِكَ تَجِدُ بَعْضَها عامًّا، أوْ مُطْلَقًا، أوْ مُجْمَلًا، وبَعْضَها خاصًّا، أوْ مُقَيَّدًا، أوْ مُبَيِّنًا، فَإذا كانَ بَعْضُ المُجْتَهِدِينَ يَرى تَخْصِيصَ عُمُومِ بَعْضِ عُمُوماتِهِ بِخُصُوصِ بَعْضِ الخُصُوصِيّاتِ مَثَلًا، فَلَعَلَّ بَعْضًا مِنهم لا يَتَمَسَّكُ إلّا بِعُمُومِهِ حِينَئِذٍ، كالَّذِي يَرى الخاصَّ الوارِدَ بَعْدَ العامِّ ناسِخًا، فَيَحْتاجُ إلى تَعْيِينِ التّارِيخِ، ثُمَّ إنَّ العُلُومَ الَّتِي تَعَرَّضَ لَها القُرْآنُ هي مِنَ العُلُومِ العُلْيا: وهي عُلُومٌ فِيما بَعْدَ الطَّبِيعَةِ، وعُلُومُ مَراتِبِ النُّفُوسِ، وعُلُومُ النِّظامِ العُمْرانِيِّ، والحِكْمَةِ، وعُلُومُ الحُقُوقِ.
وفِي ضِيقِ اللُّغَةِ المَوْضُوعَةِ عَنِ الإيفاءِ بِغاياتِ المُراداتِ في هاتِهِ العُلُومِ، وقُصُورِ حالَةِ اسْتِعْدادِ أفْهامِ عُمُومِ المُخاطَبِينَ لَها، ما أوْجَبَ تَشابُهًا في مَدْلُولاتِ الآياتِ الدّالَّةِ عَلَيْها. وإعْجازُ القُرْآنِ: مِنهُ إعْجازٌ نَظْمِيٌّ ومِنهُ إعْجازٌ عِلْمِيٌّ، وهو فَنٌّ جَلِيلٌ مِنَ الإعْجازِ بَيَّنْتُهُ في المُقَدَّمَةِ العاشِرَةِ مِن مُقَدَّماتِ هَذا التَّفْسِيرِ. فَلَمّا تَعَرَّضَ القُرْآنُ إلى بَعْضِ دَلائِلِ الأكْوانِ وخَصائِصِها، فِيما تَعَرَّضَ إلَيْهِ، جاءَ بِهِ مَحْكِيًّا بِعِبارَةٍ تَصْلُحُ لِحِكايَةِ حالَتِهِ عَلى ما هو في نَفْسِ الأمْرِ، ورُبَّما كانَ إدْراكُ كُنْهِ حالَتِهِ في نَفْسِ الأمْرِ مَجْهُولًا لِأقْوامٍ، فَيَعُدُّونَ تِلْكَ الآيَ الدّالَّةَ عَلَيْهِ مِنَ المُتَشابِهِ فَإذا جاءَ مَن بَعْدَهم عَلِمُوا أنَّ ما عَدَّهُ الَّذِينَ قَبْلَهم مُتَشابِهًا ما هو إلّا مُحْكَمٌ.
(p-١٥٨)عَلى أنَّ مِن مَقاصِدِ القُرْآنِ أمْرَيْنِ آخَرَيْنِ: أحَدُهُما كَوْنُهُ شَرِيعَةً دائِمَةً، وذَلِكَ يَقْتَضِي فَتْحَ أبْوابِ عِباراتِهِ لِمُخْتَلِفِ اسْتِنْباطِ المُسْتَنْبِطِينَ، حَتّى تُؤْخَذَ مِنهُ أحْكامُ الأوَّلِينَ والآخَرِينَ، وثانِيهِما تَعْوِيدُ حَمَلَةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وعُلَماءِ هَذِهِ الأُمَّةِ، بِالتَّنْقِيبِ، والبَحْثِ، واسْتِخْراجِ المَقاصِدِ مِن عَوِيصاتِ الأدِلَّةِ، حَتّى تَكُونَ طَبَقاتُ عُلَماءِ الأُمَّةِ صالِحَةً - في كُلِّ زَمانٍ - لِفَهْمِ تَشْرِيعِ الشّارِعِ ومَقْصِدِهِ مِنَ التَّشْرِيعِ، فَيَكُونُوا قادِرِينَ عَلى اسْتِنْباطِ الأحْكامِ التَّشْرِيعِيَّةِ، ولَوْ صِيغَ لَهُمُ التَّشْرِيعُ في أُسْلُوبٍ سَهْلِ التَّناوُلِ لاعْتادُوا العُكُوفَ عَلى ما بَيْنَ أنْظارِهِمْ في المُطالَعَةِ الواحِدَةِ. مِن أجْلِ هَذا كانَتْ صَلُوحِيَّةُ عِباراتِهِ لِاخْتِلافِ مَنازِعِ المُجْتَهِدِينَ قائِمَةً مَقامَ تَلاحُقِ المُؤَلِّفِينَ في تَدْوِينِ كُتُبِ العُلُومِ، تَبَعًا لِاخْتِلافِ مَراتِبِ العُصُورِ.
فَإذا عَلِمْتَ هَذا عَلِمْتَ أصْلَ السَّبَبِ في وُجُودِ ما يُسَمّى بِالمُتَشابِهِ في القُرْآنِ. وبَقِيَ أنْ نَذْكُرَ لَكَ مَراتِبَ التَّشابُهِ وتَفاوُتَ أسْبابِها. وأنَّها فِيما انْتَهى إلَيْهِ اسْتِقْراؤُنا الآنَ عَشْرُ مَراتِبَ: أُولاها: مَعانٍ قُصِدَ إيداعُها في القُرْآنِ، وقُصِدَ إجْمالُها: إمّا لِعَدَمِ قابِلِيَّةِ البَشَرِ لِفَهْمِها، ولَوْ في الجُمْلَةِ، إنْ قُلْنا بِوُجُودِ المُجْمَلِ، الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، عَلى ما سَيَأْتِي، ونَحْنُ لا نَخْتارُهُ، وإمّا لِعَدَمِ قابِلِيَّتِهِمْ لِكُنْهِ فَهْمِها، فَأُلْقِيَتْ إلَيْهِمْ عَلى وجْهِ الجُمْلَةِ. أوْ لِعَدَمِ قابِلِيَّةِ بَعْضِهِمْ في عَصْرٍ أوْ جِهَةٍ، لِفَهْمِها بِالكُنْهِ. ومِن هَذا: أحْوالُ القِيامَةِ، وبَعْضُ شُئُونِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ كالإتْيانِ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ، والرُّؤْيَةِ، والكَلامِ، ونَحْوِ ذَلِكَ.
وثانِيَتُها: مَعانٍ قُصِدَ إشْعارُ المُسْلِمِينَ بِها، وتَعَيَّنَ إجْمالُها، مَعَ إمْكانِ حَمْلِها عَلى مَعانٍ مَعْلُومَةٍ، لَكِنْ بِتَأْوِيلاتٍ: كَحُرُوفِ أوائِلِ السُّوَرِ، ونَحْوِ ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ [البقرة: ٢٩] .
ثالِثَتُها: مَعانٍ عالِيَةٌ ضاقَتْ عَنْ إيفاءِ كُنْهِها اللُّغَةُ المَوْضُوعَةُ لِأقْصى ما هو مُتَعارَفُ أهْلِها، فَعُبِّرَ عَنْ تِلْكَ المَعانِي بِأقْصى ما يُقَرِّبُ مَعانِيَها إلى الأفْهامِ، وهَذا مِثْلُ أكْثَرِ صِفاتِ اللَّهِ نَحْوَ الرَّحِمَنِ، الرَّءُوفِ، المُتَكَبِّرِ، نُورِ السَّماواتِ والأرْضِ.
(p-١٥٩)رابِعَتُها: مَعانٍ قَصُرَتْ عَنْها الأفْهامُ في بَعْضِ أحْوالِ العُصُورِ، وأُودِعَتْ في القُرْآنِ لِيَكُونَ وُجُودُها مُعْجِزَةً قُرْآنِيَّةً عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ في عُصُورٍ قَدْ يَضْعُفُ فِيها إدْراكُ الإعْجازِ النَّظْمِيِّ، نَحْوَ قَوْلِهِ ﴿والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها﴾ [يس: ٣٨] ﴿وأرْسَلْنا الرِّياحَ لَواقِحَ﴾ [الحجر: ٢٢] ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلى النَّهارِ﴾ [الزمر: ٥] ﴿وتَرى الجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ﴾ [النمل: ٨٨] ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ [المؤمنون: ٢٠] ﴿زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ ولا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥] ﴿وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾ [هود: ٧] ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ﴾ [فصلت: ١١] وذِكْرُ سَدِّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ.
خامِسَتُها: مَجازاتٌ وكِناياتٌ مُسْتَعْمَلَةٌ في لُغَةِ العَرَبِ، إلّا أنَّ ظاهِرَها أوْهَمَ مَعانِيَ لا يَلِيقُ الحَمْلُ عَلَيْها في جانِبِ اللَّهِ تَعالى لِإشْعارِها بِصِفاتٍ تُخالِفُ كَمالَ الإلَهِيَّةِ، وتَوَقَّفَ فَرِيقٌ في مَحْمَلِها تَنْزِيهًا، نَحْوَ ﴿فَإنَّكَ بِأعْيُنِنا﴾ [الطور: ٤٨] ﴿والسَّماءَ بَنَيْناها بِأيْدٍ﴾ [الذاريات: ٤٧] ﴿ويَبْقى وجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٧] .
وسادِسَتُها: ألْفاظٌ مِن لُغاتِ العَرَبِ لَمْ تُعْرَفْ لَدى الَّذِينَ نَزَلَ القُرْآنُ بَيْنَهم: قُرَيْشٍ والأنْصارِ، مِثْلَ ﴿وفاكِهَةً وأبًّا﴾ [عبس: ٣١] ومِثْلَ ﴿أوْ يَأْخُذَهم عَلى تَخَوُّفٍ﴾ [النحل: ٤٧] ﴿إنَّ إبْراهِيمَ لَأوّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٤] ﴿ولا طَعامٌ إلّا مِن غِسْلِينٍ﴾ [الحاقة: ٣٦] .
سابِعَتُها: مُصْطَلَحاتٌ شَرْعِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ عِلْمٌ بِخُصُوصِها، فَما اشْتَهَرَ مِنها بَيْنَ المُسْلِمِينَ مَعْناهُ، صارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً: كالتَّيَمُّمِ، والزَّكاةِ، وما لَمْ يَشْتَهِرْ بَقِيَ فِيهِ إجْمالٌ: كالرِّبا قالَ عُمَرُ نَزَلَتْ آياتُ الرِّبا في آخِرِ ما أُنْزِلَ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يُبَيِّنْها وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
ثامِنَتُها: أسالِيبُ عَرَبِيَّةٌ خَفِيَتْ عَلى أقْوامٍ فَظَنُّوا الكَلامَ بِها مُتَشابِهًا، وهَذا مِثْلَ زِيادَةِ الكافِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] ومِثْلَ المُشاكَلَةِ في قَوْلِهِ ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ وهو خادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢] (p-١٦٠)فَيَعْلَمُ السّامِعُ أنَّ إسْنادَ ”خادِعُ“ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ إسْنادٌ بِمَعْنًى مَجازِيٍّ اقْتَضَتْهُ المُشاكَلَةُ.
وتاسِعَتُها: آياتٌ جاءَتْ عَلى عاداتِ العَرَبِ، فَفَهِمَها المُخاطَبُونَ، وجاءَ مَن بَعْدَهم فَلَمْ يَفْهَمُوها، فَظَنُّوها مِنَ المُتَشابِهِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿فَمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾ [البقرة: ١٥٨]، في المُوَطَّأِ قالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ (قُلْتُ لِعائِشَةَ - وكُنْتُ يَوْمَئِذٍ حَدَثًا لَمْ أتَفَقَّهْ - لا أرى بَأْسًا عَلى أحَدٍ ألّا يَطَّوَّفَ بِالصَّفا والمَرْوَةِ) فَقالَتْ لَهُ: (لَيْسَ كَما قُلْتَ إنَّما كانَ الأنْصارُ يُهِلُّونَ لِمَناةَ الطّاغِيَةِ) إلَخْ.
ومِنهُ ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكم فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] ﴿لَيْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمَنُوا﴾ [المائدة: ٩٣] الآيَةَ. فَإنَّ المُرادَ فِيما شَرِبُوا مِنَ الخَمْرِ قَبْلَ تَحْرِيمِها.
عاشِرَتُها: أفْهامٌ ضَعِيفَةٌ عَدَّتْ كَثِيرًا مِنَ المُتَشابِهِ وما هو مِنهُ، وذَلِكَ أفْهامُ الباطِنِيَّةِ، وأفْهامُ المُشَبِّهَةِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ﴾ [القلم: ٤٢] .
ولَيْسَ مِنَ المُتَشابِهِ ما صُرِّحَ فِيهِ بِأنّا لا نَصِلُ إلى عِلْمِهِ كَقَوْلِهِ ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥] ولا ما صُرِّحَ فِيهِ بِجَهْلِ وقْتِهِ كَقَوْلِهِ ﴿لا تَأْتِيكم إلّا بَغْتَةً﴾ [الأعراف: ١٨٧] .
ولَيْسَ مِنَ المُتَشابِهِ ما دَلَّ عَلى مَعْنًى يُعارِضُ الحَمْلَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ آخَرُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلى قاعِدَةِ الجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ المُتَعارِضَيْنِ، أوْ تَرْجِيحِ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى خِطابًا لِإبْلِيسَ: ﴿واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنهم بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء: ٦٤] الآيَةَ في سُورَةِ الإسْراءِ مَعَ ما في الآياتِ المُقْتَضِيَةِ ﴿فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكم ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ﴾ [الزمر: ٧] ﴿واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ [البقرة: ٢٠٥] .
وقَدْ عَلِمْتُمْ مِن هَذا أنَّ مِلاكَ التَّشابُهِ هو عَدَمُ التَّواطُؤِ بَيْنَ المَعانِي واللُّغَةِ: إمّا لِضِيقِها عَنِ المَعانِي، وإمّا لِضِيقِ الأفْهامِ عَنِ اسْتِعْمالِ اللُّغَةِ في المَعْنى، وإمّا لِتَناسِي بَعْضِ اللُّغَةِ، فَيَتَبَيَّنُ لَكَ أنَّ الإحْكامَ والتَّشابُهَ: صِفَتانِ لِلْألْفاظِ، بِاعْتِبارِ فَهْمِ المَعانِي.
وإنَّما أخْبَرَ عَنْ ضَمِيرِ آياتٍ مُحْكَماتٍ، وهو ضَمِيرُ جَمْعٍ، باسِمٍ مُفْرَدٍ لَيْسَ دالًّا عَلى أجْزاءٍ وهو ”أُمُّ“ لِأنَّ المُرادَ أنَّ صِنْفَ الآياتِ المُحْكَماتِ يَتَنَزَّلُ مِنَ الكِتابِ مَنزِلَةَ أُمِّهِ أيْ أصْلِهِ ومَرْجِعِهِ الَّذِي يُرْجَعُ إلَيْهِ في فَهْمِ الكِتابِ ومَقاصِدِهِ. والمَعْنى: هُنَّ (p-١٦١)كَأُمٍّ لِلْكِتابِ. ويُعْلَمُ مِنهُ أنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ المُحْكَماتِ أُمٌّ لِلْكِتابِ في ما تَتَضَمَّنُهُ مِنَ المَعْنى. وهَذا كَقَوْلِ النّابِغَةِ يَذْكُرُ بَنِي أسَدٍ:
؎فَهم دِرْعِي الَّتِي اسْتَلْأمْتُ فِيها
أيْ مَجْمُوعُهم كالدِّرْعِ لِي، ويُعْلَمُ مِنهُ أنَّ كُلَّ أحَدٍ مِن بَنِي أسَدٍ بِمَنزِلَةِ حَلْقَةٍ مِن حِلَقِ الدِّرْعِ. ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إمامًا﴾ [الفرقان: ٧٤] .
والكَلامُ عَلى أُخَرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] .
* * *
﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ .
تَفْصِيلٌ لِإجْمالٍ اقْتَضاهُ الكَلامُ السّابِقُ؛ لِأنَّهُ لَمّا قَسَّمَ الكِتابَ إلى مُحْكَمٍ ومُتَشابِهٍ، وكانَ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ بِاعْتِبارِ دَلالَةِ الألْفاظِ عَلى المَعانِي، تَشَوَّفَتِ النَّفْسُ إلى مَعْرِفَةِ تَلَقِّي النّاسِ لِلْمُتَشابِهِ. أمّا المُحْكَمُ فَتَلَقِّي النّاسِ لَهُ عَلى طَرِيقَةٍ واحِدَةٍ، فَلا حاجَةَ إلى تَفْصِيلٍ فِيهِ، واقْتَصَرَ في التَّفْصِيلِ عَلى ذِكْرِ قِسْمٍ مِن أقْسامِهِ: وهو حالُ ﴿الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ كَيْفَ تَلَقِّيهِمْ لِلْمُتَشابِهاتِ؛ لِأنَّ بَيانَ هَذا هو الأهَمُّ في الغَرَضِ المَسُوقِ لَهُ الكَلامُ، وهو كَشْفُ شُبْهَةِ الَّذِينَ غَرَّتْهُمُ المُتَشابِهاتُ ولَمْ يَهْتَدُوا إلى حَقِّ تَأْوِيلِها، ويُعْرَفُ حالُ قَسِيمِهِمْ وهُمُ الَّذِينَ لا زَيْغَ في قُلُوبِهِمْ بِطَرِيقِ المُقابَلَةِ. ثُمَّ سَيُصَرِّحُ بِإجْمالٍ حالَ المُهْتَدِينَ في تَلَقِّي مُتَشابِهاتِ القُرْآنِ.
والقُلُوبُ مَحالُّ الإدْراكِ، وهي العُقُولُ، وتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والزَّيْغُ: المَيْلُ والِانْحِرافُ عَنِ المَقْصُودِ: ﴿ما زاغَ البَصَرُ﴾ [النجم: ١٧] ويُقالُ: زاغَتِ الشَّمْسُ. فالزَّيْغُ أخَصُّ مِنَ المَيْلِ؛ لِأنَّهُ مَيْلٌ عَنِ الصَّوابِ والمَقْصُودِ.
والِاتِّباعُ هُنا مَجازٌ عَنِ المُلازَمَةِ والمُعاوَدَةِ، أيْ يَعْكُفُونَ عَلى الخَوْضِ في المُتَشابِهِ، يُحْصُونَهُ. شُبِّهَتْ تِلْكَ المُلازَمَةُ بِمُلازَمَةِ التّابِعِ مَتْبُوعَهُ.
(p-١٦٢)وقَدْ ذَكَرَ عِلَّةَ الِاتِّباعِ، وهو طَلَبُ الفِتْنَةِ، وطَلَبُ أنْ يُؤَوِّلُوهُ، ولَيْسَ طَلَبُ تَأْوِيلِهِ في ذاتِهِ بِمَذَمَّةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ كَما سَنُبَيِّنُهُ وإنَّما مَحَلُّ الذَّمِّ أنَّهم يَطْلُبُونَ تَأْوِيلًا لَيْسُوا أهْلًا لَهُ فَيُؤَوِّلُونَهُ بِما يُوافِقُ أهْواءَهم. وهَذا دَيْدَنُ المَلاحِدَةِ وأهْلِ الأهْواءِ: الَّذِينَ يَتَعَمَّدُونَ حَمْلَ النّاسِ عَلى مُتابَعَتِهِمْ تَكْثِيرًا لِسَوادِهِمْ.
ولَمّا وصَفَ أصْحابَ هَذا المَقْصِدِ بِالزَّيْغِ في قُلُوبِهِمْ، عَلِمْنا أنَّهُ ذَمَّهم بِذَلِكَ لِهَذا المَقْصِدِ، ولا شَكَّ أنَّ كُلَّ اشْتِغالٍ بِالمُتَشابِهِ إذا كانَ مُفْضِيًا إلى هَذا المَقْصِدِ يَنالُهُ شَيْءٌ مِن هَذا الذَّمِّ. فالَّذِينَ اتَّبَعُوا المُتَشابِهَ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ المُنافِقُونَ، والزَّنادِقَةُ، والمُشْرِكُونَ مِثالُ تَأْوِيلِ المُشْرِكِينَ: قِصَّةُ العاصِي بْنِ وائِلٍ - مِنَ المُشْرِكِينَ - إذْ جاءَهُ خَبّابُ بْنُ الأرَتِّ - مِنَ المُسْلِمِينَ - يَتَقاضاهُ أجْرًا، فَقالَ العاصِي - مُتَهَكِّمًا بِهِ - وإنِّي لَمَبْعُوثٌ بَعْدَ المَوْتِ - أيْ حَسَبَ اعْتِقادِكم - ؟ فَسَوْفَ أقْضِيكَ إذا رَجَعْتُ إلى مالٍ ووَلَدٍ فالعاصِي تَوَهَّمَ، أوْ أرادَ الإيهامَ، أنَّ البَعْثَ بَعْدَ المَوْتِ رُجُوعٌ إلى الدُّنْيا، أوْ أرادَ أنْ يُوهِمَ دَهْماءَ المُشْرِكِينَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أدْعى إلى تَكْذِيبِ الخَبَرِ بِالبَعْثِ، بِمُشاهَدَةِ عَدَمِ رُجُوعِ أحَدٍ مِنَ الأمْواتِ، ولِذَلِكَ كانُوا يَقُولُونَ: ﴿فَأْتُوا بِآبائِنا إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [الدخان: ٣٦] .
ومِثالُ تَأْوِيلِ الزَّنادِقَةِ: ما حَكاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ رازِمٍ الطّائِيُّ الكُوفِيُّ قالَ: كُنْتُ بِمَكَّةَ حِينَ كانَ الجَنّابِيُّ - زَعِيمُ القَرامِطَةِ - بِمَكَّةَ، وهم يَقْتُلُونَ الحُجّاجَ، ويَقُولُونَ: ألَيْسَ قالَ لَكم مُحَمَّدٌ المَكِّيُّ ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٧] فَأيُّ أمْنٍ هُنا ؟ قالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَذا خَرَجَ في صُورَةِ الخَبَرِ، والمُرادُ بِهِ الأمْرُ أيْ ومَن دَخَلَهُ فَأمِّنُوهُ، كَقَوْلِهِ ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٨] . والَّذِينَ شابَهُوهم في ذَلِكَ كُلُّ قَوْمٍ يَجْعَلُونَ البَحْثَ في المُتَشابِهِ دَيْدَنَهم، ويُفْضُونَ بِذَلِكَ إلى خِلافاتٍ وتَعَصُّباتٍ. وكُلُّ مَن يَتَأوَّلُ المُتَشابِهَ عَلى هَواهُ، بِغَيْرِ دَلِيلٍ عَلى تَأْوِيلِهِ مُسْتَنِدٌ إلى دَلِيلٍ أوِ اسْتِعْمالٍ عَرَبِيٍّ.
وقَدْ فُهِمَ أنَّ المُرادَ: التَّأْوِيلُ بِحَسَبِ الهَوى، أوِ التَّأْوِيلُ المُلْقِي في الفِتْنَةِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ﴾ الآيَةَ، كَما فُهِمَ مِن قَوْلِهِ: ”فَيَتَّبِعُونَ“ أنَّهم يَهْتَمُّونَ بِذَلِكَ، ويَسْتَهْتِرُونَ بِهِ، وهَذا مِلاكُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حالِ مَن يَتَّبِعُ المُتَشابِهَ لِلْإيقاعِ في الشَّكِّ والإلْحادِ، وبَيْنَ حالِ مَن يُفَسِّرُ المُتَشابِهَ ويُؤَوِّلُهُ (p-١٦٣)إذا دَعاهُ داعٍ إلى ذَلِكَ، وفي البُخارِيِّ - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - أنَّ رَجُلًا قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ إنِّي أجِدُ في القُرْآنِ أشْياءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ. قالَ: ما هو ؟ قالَ: ﴿فَلا أنْسابَ بَيْنَهم يَوْمَئِذٍ ولا يَتَساءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١] - وقالَ: - ﴿وأقْبَلَ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ﴾ [الصافات: ٢٧] - وقالَ: - ﴿ولا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢] - وقالَ: - ﴿قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] .
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ﴿فَلا أنْسابَ بَيْنَهُمْ﴾ [المؤمنون: ١٠١] في النَّفْخَةِ الأُولى ثُمَّ في النَّفْخَةِ الثّانِيَةِ ﴿وأقْبَلَ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ﴾ [الصافات: ٢٧] . فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] فَإنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأهْلِ الإخْلاصِ ذُنُوبَهم فَيَقُولُ المُشْرِكُونَ: تَعالَوْا نَقُلْ: ما كُنّا مُشْرِكِينَ، فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلى أفَواهِهِمْ فَتَنْطِقُ جَوارِحُهم بِأعْمالِهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، «عَنْ عائِشَةَ: قالَتْ: تَلا رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ الآيَةَ إلى قَوْلِهِ ﴿أُولُو الألْبابِ﴾ [البقرة: ٢٦٩] قالَتْ قالَ رَسُولُ اللَّهِ: فَإذا رَأيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمّاهُمُ اللَّهُ فاحْذَرُوهم» .
ويُقْصَدُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ﴾ التَّعْرِيضُ بِنَصارى نَجْرانَ إذْ ألْزَمُوا المُسْلِمِينَ بِأنَّ القُرْآنَ يَشْهَدُ لِكَوْنِ اللَّهِ ثالِثَ ثَلاثَةٍ بِما يَقَعُ في القُرْآنِ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ ومَعَهُ غَيْرُهُ مِن نَحْوِ خَلَقْنا وأمَرْنا وقَضَيْنا، وزَعَمُوا أنَّ ذَلِكَ الضَّمِيرَ لَهُ وعِيسى ومَرْيَمَ ولا شَكَّ أنَّ هَذا - إنْ صَحَّ عَنْهم - هو تَمْوِيهٌ؛ إذْ مِنَ المَعْرُوفِ أنَّ في ذَلِكَ الضَّمِيرِ طَرِيقَتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ إمّا إرادَةَ التَّشْرِيكِ أوْ إرادَةَ التَّعْظِيمِ. فَما أرادُوا مِنِ اسْتِدْلالِهِمْ هَذا إلّا التَّمْوِيهَ عَلى عامَّةِ النّاسِ.
* * *
﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا وما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ﴾ .
جُمْلَةُ حالٍ، أيْ وهم لا قِبَلَ لَهم بِتَأْوِيلِهِ؛ إذْ لَيْسَ تَأْوِيلُهُ لِأمْثالِهِمْ، كَما قِيلَ في المَثَلِ: (لَيْسَ بِعُشِّكِ فادْرَجِي) .
ومِن هُنا أمْسَكَ السَّلَفُ عَنْ تَأْوِيلِ المُتَشابِهاتِ، غَيْرِ الرّاجِعَةِ إلى التَّشْرِيعِ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أيُّ أرْضٍ تُقِلُّنِي وأيُّ سَماءٍ تُظِلُّنِي إنْ قُلْتُ في كِتابِ اللَّهِ (p-١٦٤)بِما لا أعْلَمُ وجاءَ في زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلٌ إلى المَدِينَةِ مِنَ البَصْرَةِ، يُقالُ لَهُ صَبِيغُ بْنُ شَرِيكٍ أوِ ابْنُ عَسَلٍ التَّمِيمِيُّ فَجَعَلَ يَسْألُ النّاسَ عَنْ مُتَشابِهِ القُرْآنِ، وعَنْ أشْياءَ. فَأحْضَرَهُ عُمَرُ، وضَرَبَهُ ضَرْبًا مُوجِعًا، وكَرَّرَ ذَلِكَ أيّامًا، فَقالَ: حَسْبُكَ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ فَقَدْ ذَهَبَ ما كُنْتُ أجِدُ في رَأْسِي، ثُمَّ أرْجَعَهُ إلى البَصْرَةِ وكَتَبَ إلى أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ أنْ يَمْنَعَ النّاسَ مِن مُخالَطَتِهِ. ومِنَ السَّلَفِ مَن تَأوَّلَ عِنْدَ عُرُوضِ الشُّبْهَةِ لِبَعْضِ النّاسِ، كَما فَعَلَ ابْنُ عَبّاسٍ فِيما ذَكَرْناهُ آنِفًا.
قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ - في (العَواصِمِ مِنَ القَواصِمِ) - مِنَ الكائِدِينَ لِلْإسْلامِ الباطِنِيَّةُ والظّاهِرِيَّةُ. قُلْتُ: أمّا الباطِنِيَّةُ فَقَدْ جَعَلُوا مُعْظَمَ القُرْآنِ مُتَشابِهًا، وتَأوَّلُوهُ بِحَسَبِ أهْوائِهِمْ، وأمّا الظّاهِرِيُّونَ فَقَدْ أكْثَرُوا في مُتَشابِهِهِ، واعْتَقَدُوا سَبَبَ التَّشابُهِ واقِعًا، فالأوَّلُونَ دَخَلُوا في قَوْلِهِ: ﴿وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾، والأخِيرُونَ خَرَجُوا مِن قَوْلِهِ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ أوْ ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ﴾ فَخالَفُوا الخَلَفَ والسَّلَفَ. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ - في العَواصِمِ -: وأصْلُ الظّاهِرِيِّينَ الخَوارِجُ الَّذِينَ قالُوا: لا حُكْمَ إلّا لِلَّهِ، يَعْنِي أنَّهم أخَذُوا بِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: إنِ الحُكْمُ إلّا لِلَّهِ، ولَمْ يَتَأوَّلُوهُ بِما هو المُرادُ مِنَ الحُكْمِ.
والمُرادُ بِالرّاسِخِينَ في العِلْمِ: الَّذِينَ تَمَكَّنُوا في عِلْمِ الكِتابِ، ومَعْرِفَةِ مَحامِلِهِ، وقامَ عِنْدَهم مِنَ الأدِلَّةِ ما أرْشَدَهم إلى مُرادِ اللَّهِ تَعالى، بِحَيْثُ لا تَرُوجُ عَلَيْهِمُ الشُّبَهُ. والرُّسُوخُ في كَلامِ العَرَبِ: الثَّباتُ والتَّمَكُّنُ في المَكانِ، يُقالُ: رَسَخَتِ القَدَمُ تَرْسَخُ رُسُوخًا إذا ثَبَتَتْ عِنْدَ المَشْيِ ولَمْ تَتَزَلْزَلْ، واسْتُعِيرَ الرُّسُوخُ لِكَمالِ العَقْلِ والعِلْمِ بِحَيْثُ لا تُضَلِّلُهُ الشُّبَهُ، ولا تَتَطَرَّقُهُ الأخْطاءُ غالِبًا، وشاعَتْ هَذِهِ الِاسْتِعارَةُ حَتّى صارَتْ كالحَقِيقَةِ. فالرّاسِخُونَ في العِلْمِ: الثّابِتُونَ فِيهِ العارِفُونَ بِدَقائِقِهِ، فَهم يُحْسِنُونَ مَواقِعَ التَّأْوِيلِ ويَعْلَمُونَهُ.
ولِذا فَقَوْلُهُ والرّاسِخُونَ مَعْطُوفٌ عَلى اسْمِ الجَلالَةِ، وفي هَذا العَطْفِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ: كَقَوْلِهِ ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ﴾ [آل عمران: ١٨] وإلى هَذا التَّفْسِيرِ مالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمانَ، والقاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، والشّافِعِيَّةُ، وابْنُ فَوْرَكٍ، والشَّيْخُ أحْمَدُ القُرْطُبِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، وعَلى هَذا فَلَيْسَ في القُرْآنِ آيَةٌ اسْتَأْثَرَ (p-١٦٥)اللَّهُ بِعِلْمِها، ويُؤَيِّدُ هَذا أنَّ اللَّهَ أثْبَتَ لِلرّاسِخِينَ في العِلْمِ فَضِيلَةً، ووَصَفَهم بِالرُّسُوخِ، فَآذَنَ بِأنَّ لَهم مَزِيَّةً في فَهْمِ المُتَشابِهِ؛ لِأنَّ المُحْكَمَ يَسْتَوِي في عِلْمِهِ جَمِيعُ مَن يَفْهَمُ الكَلامَ، فَفي أيِّ شَيْءٍ رُسُوخُهم ؟ وحَكى إمامُ الحَرَمَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ قالَ في هاتِهِ الآيَةِ أنا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ.
وقِيلَ: الوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ إلّا اللَّهُ، وإنَّ جُمْلَةَ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ مُسْتَأْنَفَةٌ، وهَذا مَرْوِيٌّ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وهو قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وعائِشَةَ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وأُبَيٍّ، ورَواهُ أشْهَبُ عَنْ مالِكٍ في جامِعِ العُتْبِيَّةِ، وقالَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، والكِسائِيُّ، والأخْفَشُ والفَرّاءُ، والحَنَفِيَّةُ، وإلَيْهِ مالَ فَخْرُ الدِّينِ.
ويُؤَيِّدُ الأوَّلَ وصْفُهم بِالرُّسُوخِ في العِلْمِ؛ فَإنَّهُ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلى أنَّ الحُكْمَ الَّذِي أُثْبِتَ لِهَذا الفَرِيقِ، هو حُكْمٌ مِن مَعْنى العِلْمِ والفَهْمِ في المُعْضِلاتِ، وهو تَأْوِيلُ المُتَشابِهِ، عَلى أنَّ أصْلَ العَطْفِ هو عَطْفُ المُفْرَداتِ دُونَ عَطْفِ الجُمَلِ، فَيَكُونُ الرّاسِخُونَ مَعْطُوفًا عَلى اسْمِ الجَلالَةِ فَيَدْخُلُونَ في أنَّهم يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ. ولَوْ كانَ الرّاسِخُونَ مُبْتَدَأً وجُمْلَةُ ﴿يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ﴾ خَبَرًا، لَكانَ حاصِلُ هَذا الخَبَرِ مِمّا يَسْتَوِي فِيهِ سائِرُ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ لا زَيْغَ في قُلُوبِهِمْ، فَلا يَكُونُ لِتَخْصِيصِ الرّاسِخِينَ فائِدَةٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ تَسْمِيَتُهم راسِخِينَ تَقْتَضِي أنَّهم يَعْلَمُونَ أكْثَرَ مِنَ المُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي في عِلْمِهِ الجَمِيعُ وما الرُّسُوخُ إلّا المَعْرِفَةُ بِتَصارِيفِ الكَلامِ بِقَرِيحَةٍ مُعَدَّةٍ، وما ذَكَرْناهُ وذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لا يَعْدُو أنْ يَكُونَ تَرْجِيحًا لِأحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، ولَيْسَ إبْطالًا لِمُقابِلِهِ إذْ قَدْ يُوصَفُ بِالرُّسُوخِ مَن يُفَرِّقُ بَيْنَ ما يَسْتَقِيمُ تَأْوِيلُهُ، وما لا مَطْمَعَ في تَأْوِيلِهِ.
وفِي قَوْلِهِ: ﴿وما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ﴾ إشْعارٌ بِأنَّ الرّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ المُتَشابِهِ.
واحْتَجَّ أصْحابُ الرَّأْيِ الثّانِي، وهو رَأْيُ الوَقْفِ عَلى اسْمِ الجَلالَةِ: بِأنَّ الظّاهِرَ أنْ يَكُونَ جُمْلَةُ والرّاسِخُونَ مُسْتَأْنَفَةً لِتَكُونَ مُعادِلًا لِجُمْلَةِ ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾، والتَّقْدِيرُ: وأمّا الرّاسِخُونَ في العِلْمِ. وأجابَ التَّفْتازانِيُّ بِأنَّ المُعادِلَ لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ مَذْكُورًا، بَلْ قَدْ يُحْذَفُ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ. واحْتَجُّوا أيْضًا بِقَوْلِهِ تَعالى (p-١٦٦)﴿يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ قالَ الفَخْرُ: لَوْ كانُوا عالِمِينَ بِتَأْوِيلِهِ لَمْ يَكُنْ لِهَذا الكَلامِ فائِدَةٌ؛ إذِ الإيمانُ بِما ظَهَرَ مَعْناهُ أمْرٌ غَيْرُ غَرِيبٍ. وسَنُجِيبُ عَنْ هَذا عِنْدَ الكَلامِ عَلى هَذِهِ الجُمْلَةِ، وذَكَرَ الفَخْرُ حُجَجًا غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ.
ولا يَخْفى أنَّ أهْلَ القَوْلِ الأوَّلِ لا يُثْبِتُونَ مُتَشابِهًا غَيْرَ ما خَفِيَ المُرادُ مِنهُ، وأنَّ خَفاءَ المُرادِ مُتَفاوِتٌ، وأنَّ أهْلَ القَوْلِ الثّانِي يُثْبِتُونَ مُتَشابِهًا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وهو أيْضًا مُتَفاوِتٌ؛ لِأنَّ مِنهُ ما يَقْبَلُ تَأْوِيلاتٍ قَرِيبَةً، وهو مِمّا يَنْبَغِي ألّا يُعَدَّ مِنَ المُتَشابِهِ في اصْطِلاحِهِمْ، لَكِنَّ صَنِيعَهم في الإمْساكِ عَنْ تَأْوِيلِ آياتٍ كَثِيرَةٍ سَهْلٍ تَأْوِيلُها مِثْلَ ﴿فَإنَّكَ بِأعْيُنِنا﴾ [الطور: ٤٨] دَلَّ عَلى أنَّهم يَسُدُّونَ بابَ التَّأْوِيلِ في المُتَشابِهِ، قالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطِيَّةَ إنَّ تَأْوِيلَ ما يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ - عَلى الِاسْتِيفاءِ - إلّا اللَّهُ تَعالى، فَمَن قالَ مِنَ العُلَماءِ الحُذّاقِ بِأنَّ الرّاسِخِينَ لا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ المُتَشابِهِ، فَإنَّما أرادَ هَذا النَّوْعَ، وخافُوا أنْ يَظُنَّ أحَدٌ أنَّ اللَّهَ وصَفَ الرّاسِخِينَ بِعِلْمِ التَّأْوِيلِ عَلى الكَمالِ.
وعَلى الِاخْتِلافِ في مَحْمَلِ العَطْفِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ انْبَنى اخْتِلافٌ بَيْنَ عُلَماءِ الأُمَّةِ في تَأْوِيلِ ما كانَ مُتَشابِهًا مِن آياتِ القُرْآنِ، ومِن صِحاحِ الأخْبارِ، عَنِ النَّبِيءِ، ﷺ .
فَكانَ رَأْيُ فَرِيقٍ مِنهُمُ الإيمانَ بِها، عَلى إبْهامِها وإجْمالِها، وتَفْوِيضَ العِلْمِ بِكُنْهِ المُرادِ مِنها إلى اللَّهِ تَعالى، وهَذِهِ طَرِيقَةُ سَلَفِ عُلَمائِنا، قَبْلَ ظُهُورِ شُكُوكِ المُلْحِدِينَ أوِ المُتَعَلِّمِينَ، وذَلِكَ في عَصْرِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ وبَعْضِ عَصْرِ تابِعِيهِمْ، ويُعَبَّرُ عَنْها بِطَرِيقَةِ السَّلَفِ، ويَقُولُونَ: طَرِيقَةُ السَّلَفِ أسْلَمُ، أيْ أشَدُّ سَلامَةً لَهم مِن أنْ يَتَأوَّلُوا تَأْوِيلاتٍ لا يُدْرى مَدى ما تُفْضِي إلَيْهِ مِن أُمُورٍ لا تَلِيقُ بِجَلالِ اللَّهِ تَعالى ولا تَتَّسِقُ مَعَ ما شَرَعَهُ لِلنّاسِ مِنَ الشَّرائِعِ، مَعَ ما رَأوْا مِنِ اقْتِناعِ أهْلِ عَصْرِهِمْ بِطَرِيقَتِهِمْ، وانْصِرافِهِمْ عَنِ التَّعَمُّقِ في طَلَبِ التَّأْوِيلِ.
وكانَ رَأْيُ جُمْهُورِ مَن جاءَ بَعْدَ عَصْرِ السَّلَفِ تَأْوِيلَها بِمَعانٍ مِن طَرائِقِ اسْتِعْمالِ الكَلامِ العَرَبِيِّ البَلِيغِ مِن مَجازٍ، واسْتِعارَةٍ، وتَمْثِيلٍ، مَعَ وُجُودِ الدّاعِي إلى التَّأْوِيلِ، وهو تَعَطُّشُ العُلَماءِ الَّذِينَ اعْتادُوا التَّفَكُّرَ والنَّظَرَ وفَهْمَ الجَمْعِ بَيْنَ أدِلَّةِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، ويُعَبَّرُ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِطَرِيقَةِ الخَلَفِ، ويَقُولُونَ: طَرِيقَةُ الخَلَفِ أعْلَمُ، أيْ أنْسَبُ بِقَواعِدِ (p-١٦٧)العِلْمِ وأقْوى في تَحْصِيلِ العِلْمِ لِجِدالِ المُلْحِدِينَ، والمَقْنَعِ لِمَن يَتَطَلَّبُونَ الحَقائِقَ مِنَ المُتَعَلِّمِينَ، وقَدْ يَصِفُونَها بِأنَّها أحْكَمُ أيْ أشَدُّ إحْكامًا؛ لِأنَّها تُقْنِعُ أصْحابَ الأغْراضِ كُلَّهم. وقَدْ وقَعَ هَذانِ الوَصْفانِ في كَلامِ المُفَسِّرِينَ وعُلَماءِ الأُصُولِ، ولَمْ أقِفْ عَلى تَعْيِينِ أوَّلِ مَن صَدَرَ عَنْهُ، وقَدْ تَعَرَّضَ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - في العَقِيدَةِ الحَمَوِيَّةِ - إلى رَدِّ هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ ولَمْ يَنْسُبْهُما إلى قائِلٍ. والمَوْصُوفُ بِأسْلَمَ وبِأعْلَمَ الطَّرِيقَةُ لا أهْلُها؛ فَإنَّ أهْلَ الطَّرِيقَتَيْنِ مِن أئِمَّةِ العِلْمِ، ومِمَّنْ سَلِمُوا في دِينِهِمْ مِنَ الفِتَنِ.
ولَيْسَ في وصْفِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِأنَّها أعْلَمُ أوْ أحْكَمُ، غَضاضَةٌ مِنَ الطَّرِيقَةِ الأُولى؛ لِأنَّ العُصُورَ الَّذِينَ دَرَجُوا عَلى الطَّرِيقَةِ الأُولى فِيهِمْ مَن لا تَخْفى عَلَيْهِمْ مَحامِلُها بِسَبَبِ ذَوْقِهِمُ العَرَبِيِّ، وهَدْيِهِمُ النَّبَوِيِّ، وفِيهِمْ مَن لا يُعِيرُ البَحْثَ عَنْها جانِبًا مِن هِمَّتِهِ، مِثْلَ سائِرِ العامَّةِ. فَلا جَرَمَ كانَ طَيُّ البَحْثِ عَنْ تَفْصِيلِها أسْلَمَ لِلْعُمُومِ، وكانَ تَفْصِيلُها بَعْدَ ذَلِكَ أعْلَمَ لِمَن جاءَ بَعْدَهم، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُؤَوِّلُوها بِهِ لَأوْسَعُوا لِلْمُتَطَلِّعِينَ إلى بَيانِها مَجالًا لِلشَّكِّ أوِ الإلْحادِ أوْ ضِيقِ الصَّدْرِ في الِاعْتِقادِ.
واعْلَمْ أنَّ التَّأْوِيلَ مِنهُ ما هو واضِحٌ بَيِّنٌ، فَصَرْفُ اللَّفْظِ المُتَشابِهِ عَنْ ظاهِرِهِ إلى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ يُعادِلُ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلى أحَدِ مَعْنَيَيْهِ المَشْهُورَيْنِ لِأجْلِ كَثْرَةِ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ في المَعْنى غَيْرِ الظّاهِرِ مِنهُ. فَهَذا القِسْمُ مِنَ التَّأْوِيلِ حَقِيقٌ بِألّا يُسَمّى تَأْوِيلًا، ولَيْسَ أحَدُ مَحْمَلَيْهِ بِأقْوى مِنَ الآخَرِ إلّا أنَّ أحَدَهُما أسْبَقُ في الوَضْعِ مِنَ الآخَرِ، والمَحْمَلانِ مُتَساوِيانِ في الِاسْتِعْمالِ ولَيْسَ سَبْقُ إطْلاقِ اللَّفْظِ عَلى أحَدِ المَعْنَيَيْنِ بِمُقْتَضٍ تَرْجِيحَ ذَلِكَ المَعْنى، فَكَمْ مِن إطْلاقٍ مَجازِيٍّ لِلَفْظٍ هو أسْبَقُ إلى الأفْهامِ مِن إطْلاقِهِ الحَقِيقِيِّ. ولَيْسَ قَوْلُهم في عِلْمِ الأُصُولِ بِأنَّ الحَقِيقَةَ أرْجَحُ مِنَ المَجازِ بِمَقْبُولٍ عَلى عُمُومِهِ.
وتَسْمِيَةُ هَذا النَّوْعِ بِالمُتَشابِهِ لَيْسَتْ مُرادَةً في الآيَةِ. وعَدُّهُ مِنَ المُتَشابِهِ جُمُودٌ.
ومِنَ التَّأْوِيلِ ما ظاهِرُ مَعْنى اللَّفْظِ فِيهِ أشْهَرُ مِن مَعْنى تَأْوِيلِهِ ولَكِنَّ القَرائِنَ أوِ الأدِلَّةَ أوْجَبَتْ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ ظاهِرِ مَعْناهُ. فَهَذا حَقِيقٌ بِأنْ يُعَدَّ مِنَ المُتَشابِهِ.
ثُمَّ إنَّ تَأْوِيلَ اللَّفْظِ في مِثْلِهِ قَدْ يَتَيَسَّرُ بِمَعْنًى مُسْتَقِيمٍ يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ أنَّهُ المُرادُ إذا جَرى حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى ما هو مِن مُسْتَعْمَلاتِهِ في الكَلامِ البَلِيغِ مِثْلَ الأيْدِي والأعْيُنِ في (p-١٦٨)قَوْلِهِ: ﴿بَنَيْناها بِأيْدٍ﴾ [الذاريات: ٤٧] وقَوْلِهِ: ﴿فَإنَّكَ بِأعْيُنِنا﴾ [الطور: ٤٨] فَمَن أخَذُوا مِن مِثْلِهِ أنَّ لِلَّهِ أعْيُنًا لا يُعْرَفُ كُنْهُها، أوْ لَهُ يَدًا لَيْسَتْ كَأيْدِينا، فَقَدْ زادُوا في قُوَّةِ الِاشْتِباهِ.
ومِنهُ ما يُعْتَبَرُ تَأْوِيلُهُ احْتِمالًا وتَجْوِيزًا بِأنْ يَكُونَ الصَّرْفُ عَنِ الظّاهِرِ مُتَعَيِّنًا. وأمّا حَمْلُهُ عَلى ما أوَّلُوهُ بِهِ فَعَلى وجْهِ الِاحْتِمالِ والمِثالِ، وهَذا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] وقَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] فَمِثْلُ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِوُجُوبِ تَأْوِيلِهِ ولا يَدَّعِي أحَدٌ أنَّ ما أوَّلَهُ بِهِ هو المُرادُ مِنهُ ولَكِنَّهُ وجْهٌ تابِعٌ لِإمْكانِ التَّأْوِيلِ، وهَذا النَّوْعُ أشَدُّ مَواقِعِ التَّشابُهِ والتَّأْوِيلِ.
وقَدِ اسْتَبانَ لَكَ مِن هَذِهِ التَّأْوِيلاتِ: أنَّ نَظْمَ الآيَةِ جاءَ عَلى أبْلَغِ ما يُعَبَّرُ بِهِ في مَقامٍ يَسَعُ طائِفَتَيْنِ مِن عُلَماءِ الإسْلامِ في مُخْتَلِفِ العُصُورِ.
وقَوْلُهُ: ﴿يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ﴾ حالٌ مِنَ الرّاسِخُونَ أيْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ في هَذِهِ الحالَةِ والمَعْنى عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ القَوْلِ الكِنايَةَ عَنِ الِاعْتِقادِ؛ لِأنَّ شَأْنَ المُعْتَقِدِ أنْ يَقُولَ مُعْتَقَدَهُ، أيْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ ولا يَهْجِسُ في نُفُوسِهِمْ شَكٌّ مِن جِهَةِ وُقُوعِ المُتَشابِهِ حَتّى يَقُولُوا: لِماذا لَمْ يَجِئِ الكَلامُ كُلُّهُ واضِحًا، ويَتَطَرَّقُهم مِن ذَلِكَ إلى الرِّيبَةِ في كَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: ﴿كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ . ويُحْتَمَلُ أنَّ المُرادَ: يَقُولُونَ لِغَيْرِهِمْ، أيْ مَن لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الرُّسُوخِ مِن عامَّةِ المُسْلِمِينَ، الَّذِينَ لا قِبَلَ لَهم بِإدْراكِ تَأْوِيلِهِ، لِيُعَلِّمُوهُمُ الوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِ الإيمانِ، وعَدَمَ التَّطَلُّعِ إلى ما لَيْسَ بِالإمْكانِ، وهَذا يَقْرُبُ مِمّا قالَهُ أهْلُ الأُصُولِ: إنَّ المُجْتَهِدَ لا يَلْزَمُهُ بَيانُ مُدْرَكِهِ لِلْعامِّيِّ، إذا سَألَهُ عَنْ مَأْخَذِ الحُكْمِ، إذا كانَ المُدْرَكُ خَفِيًّا. وبِهَذا يَحْصُلُ الجَوابُ عَنِ احْتِجاجِ الفَخْرِ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ لِتَرْجِيحِ الوَقْفِ عَلى اسْمِ الجَلالَةِ.
وعَلى قَوْلِ المُتَقَدِّمِينَ يَكُونُ قَوْلُهُ: ”يَقُولُونَ“ خَبَرًا، ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿آمَنّا بِهِ﴾ آمَنّا بِكَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وإنْ لَمْ نَفْهَمْ مَعْناهُ.
وقَوْلُهُ: ﴿كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ أيْ كُلٌّ مِنَ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ. وهو عَلى الوَجْهَيْنِ بَيانٌ لِمَعْنى قَوْلِهِمْ: ﴿آمَنّا بِهِ﴾ فَلِذَلِكَ قُطِعَتِ الجُمْلَةُ. أيْ كُلٌّ مِنَ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ، مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ.
(p-١٦٩)وزِيدَتْ كَلِمَةُ ”عِنْدَ“ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ ”مِن“ هُنا لِلِابْتِداءِ الحَقِيقِيِّ دُونَ المَجازِيِّ، أيْ هو مُنَزَّلٌ مِن وحْيِ اللَّهِ تَعالى وكَلامِهِ، ولَيْسَ كَقَوْلِهِ: ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ [النساء: ٧٩] .
وجُمْلَةُ ﴿وما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ﴾ تَذْيِيلٌ، لَيْسَ مِن كَلامِ الرّاسِخِينَ، مَسُوقٌ مَساقَ الثَّناءِ عَلَيْهِمْ في اهْتِدائِهِمْ إلى صَحِيحِ الفَهْمِ.
والألْبابُ: العُقُولُ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّقُونِ يا أُولِي الألْبابِ﴾ [البقرة: ١٩٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
{"ayah":"هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتࣱ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغࣱ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلࣱّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق