الباحث القرآني

﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ وهْوَ قائِمٌ يُصَلِّي في المِحْرابِ أنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وسَيِّدًا وحَصُورًا ونَبِيئا مِنَ الصّالِحِينَ﴾ ﴿قالَ رَبِّ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وامْرَأتِي عاقِرٌ قالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾ ﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِيَ آيَةً قالَ آيَتُكَ ألّا تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلّا رَمْزًا واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وسَبِّحْ بِالعَشِيِّ والإبْكارِ﴾ . الفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ﴾ لِلتَّعْقِيبِ أيِ اسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ لِلْوَقْتِ. (p-٢٣٩)وقَوْلُهُ: ﴿وهُوَ قائِمٌ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ والمَقْصُودُ مِن ذِكْرِها بَيانُ سُرْعَةِ إجابَتِهِ؛ لِأنَّ دُعاءَهُ كانَ في صَلاتِهِ. ومُقْتَضى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُنالِكَ﴾ [آل عمران: ٣٨] والتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَنادَتْهُ﴾ أنَّ المِحْرابَ مِحْرابُ مَرْيَمَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿فَنادَتْهُ﴾ بِتاءِ تَأْنِيثٍ لِكَوْنِ المَلائِكَةِ جَمْعًا، وإسْنادُ الفِعْلِ لِلْجَمْعِ يَجُوزُ فِيهِ التَّأْنِيثُ عَلى تَأْوِيلِهِ بِالجَماعَةِ أيْ نادَتْهُ جَماعَةٌ مِنَ المَلائِكَةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الَّذِي ناداهُ مَلَكًا واحِدًا وهو جِبْرِيلُ وقَدْ ثَبَتَ التَّصْرِيحُ بِهَذا في إنْجِيلِ لُوقا، فَيَكُونَ إسْنادُ النِّداءِ إلى المَلائِكَةِ مِن قَبِيلِ إسْنادِ فِعْلِ الواحِدِ إلى قَبِيلَتِهِ كَقَوْلِهِمْ: قَتَلَتْ بَكْرٌ كُلَيْبًا. وقَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ: فَناداهُ المَلائِكَةُ عَلى اعْتِبارِ المُنادِي واحِدًا مِنَ المَلائِكَةِ وهو جِبْرِيلُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: أنَّ اللَّهَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ ”أنَّ“ عَلى أنَّهُ في مَحَلِّ جَرٍّ بِباءٍ مَحْذُوفَةٍ أيْ نادَتْهُ المَلائِكَةُ بِأنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ: إنَّ - بِكَسْرِ الهَمْزَةِ - عَلى الحِكايَةِ. وعَلى كِلْتا القِراءَتَيْنِ فَتَأْكِيدُ الكَلامِ بِـ ”إنَّ“ المَفْتُوحَةِ الهَمْزَةِ والمَكْسُورَتِها لِتَحْقِيقِ الخَبَرِ؛ لِأنَّهُ لِغَرابَتِهِ يُنَزِّلُ المُخْبَرَ بِهِ مَنزِلَةَ المُتَرَدِّدِ الطّالِبِ. ومَعْنى يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى يُبَشِّرُكَ بِمَوْلُودٍ يُسَمّى يَحْيى، فَعُلِمَ أنَّ يَحْيى اسْمٌ لا فِعْلٌ بِقَرِينَةِ دُخُولِ الباءِ عَلَيْهِ، وذُكِرَ في سُورَةِ مَرْيَمَ ﴿إنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى﴾ [مريم: ٧] . ويَحْيى مُعَرَّبُ يُوحَنّا بِالعِبْرانِيَّةِ، فَهو عَجَمِيٌّ لا مَحالَةَ، نَطَقَ بِهِ العَرَبُ عَلى زِنَةِ المُضارِعِ مَن حَيِيَ، وهو غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعُجْمَةِ أوْ لِوَزْنِ الفِعْلِ. وقُتِلَ يَحْيى في كُهُولَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِأمْرِ هِيرُودُسَ قَبْلَ رَفْعِ المَسِيحِ بِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ. وقَدْ ضُمَّتْ إلى بِشارَتِهِ بِالِابْنِ بِشارَةٌ بِطِيبِهِ كَما رَجا زَكَرِيّاءُ، فَقِيلَ لَهُ: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾، فَمُصَدِّقًا حالٌ مِن يَحْيى أيْ كامِلَ التَّوْفِيقِ لا يَتَرَدَّدُ في كَلِمَةٍ تَأْتِي مِن عِنْدِ اللَّهِ. وقَدْ أُجْمِلَ هَذا الخَبَرُ لِزَكَرِيّاءَ لِيَعْلَمَ أنَّ حادِثًا عَظِيمًا سَيَقَعُ يَكُونُ ابْنُهُ فِيهِ مُصَدِّقًا بِرَسُولٍ يَجِيءُ وهو عِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ. (p-٢٤٠)ووُصِفَ عِيسى كَلِمَةً مِنَ اللَّهِ، لِأنَّهُ خُلِقَ بِمُجَرَّدِ أمْرِ التَّكْوِينِ الإلَهِيِّ المُعَبَّرِ عَنْهُ بِكَلِمَةِ ”كُنْ“ أيْ كانَ تَكْوِينُهُ غَيْرَ مُعْتادٍ، وسَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٥] . والكَلِمَةُ عَلى هَذا إشارَةٌ إلى مَجِيءِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ. ولا شَكَّ أنَّ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ، ومَعْرِفَةَ كَوْنِهِ صادِقًا بِدُونِ تَرَدُّدٍ - هُدًى عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِدَلالَتِهِ عَلى صِدْقِ التَّأمُّلِ السَّرِيعِ لِمَعْرِفَةِ الحَقِّ، وقَدْ فازَ بِهَذا الوَصْفِ يَحْيى في الأوَّلِينَ، وخَدِيجَةُ وأبُو بَكْرٍ في الآخِرِينَ، قالَ تَعالى: والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ، وقِيلَ: الكَلِمَةُ هُنا التَّوْراةُ، وأُطْلِقَ عَلَيْها الكَلِمَةُ لِأنَّ الكَلِمَةَ تُطْلَقُ عَلى الكَلامِ، وأنَّ الكَلِمَةَ هي التَّوْراةُ. والسَّيِّدُ فَيْعِلٌ مِن سادَ يَسُودُ: إذا فاقَ قَوْمَهُ في مَحامِدِ الخِصالِ حَتّى قَدَّمُوهُ عَلى أنْفُسِهِمْ، واعْتَرَفُوا لَهُ بِالفَضْلِ. فالسُّؤْدُدُ عِنْدَ العَرَبِ في الجاهِلِيَّةِ يَعْتَمِدُ كِفايَةَ مُهِمّاتِ القَبِيلَةِ والبَذْلَ لَها وإتْعابَ النَّفْسِ لِراحَةِ النّاسِ، قالَ الهُذَلِيُّ: ؎وإنَّ سِيادَةَ الأقْوامِ فَـاعْـلَـمْ لَها صُعَداءُ مَطْلَبُها طَـوِيلُ ؎أتَرْجُو أنْ تَسُودَ ولَنْ تُعَنَّـى ∗∗∗ وكَيْفَ يَسُودُ ذُو الدَّعَةِ البَخِيلُ وكانَ السُّؤْدُدُ عِنْدَهم يَعْتَمِدُ خِلالًا مَرْجِعُها إلى إرْضاءِ النّاس عَلى أشْرَفِ الوُجُوهِ، ومِلاكُهُ بَذْلُ النَّدى، وكَفُّ الأذى، واحْتِمالُ العَظائِمِ، وأصْلُهُ الرَّأْيُ، وفَصاحَةُ اللِّسانِ. والسَّيِّدُ في اصْطِلاحِ الشَّرْعِ مَن يَقُومُ بِإصْلاحِ حالِ النّاسِ في دُنْياهم وأُخْراهم مَعًا، وفي الحَدِيثِ: «أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ» وفِيهِ: «إنَّ ابْنِي هَذا سَيِّدٌ» يَعْنِي الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَقَدْ كانَ الحَسَنُ جامِعًا خِصالَ السُّؤْدُدِ الشَّرْعِيِّ، وحَسْبُكَ مِن ذَلِكَ أنَّهُ تَنازَلَ عَنْ حَقِّ الخِلافَةِ لِجَمْعِ كَلِمَةِ الأُمَّةِ، ولِإصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ، وفي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: ما رَأيْتُ أحَدًا أسْوَدَ مِن مُعاوِيَةَ بْنِ أبِي سُفْيانَ - فَقِيلَ لَهُ: وأبُو بَكْرٍ وعُمَرُ - قالَ: هُما خَيْرٌ مِن مُعاوِيَةَ ومُعاوِيَةُ أسْوَدُ مِنهُما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أشارَ إلى أنَّ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ كانا مِنَ الِاسْتِصْلاحِ وإقامَةِ الحُقُوقِ بِمَنزِلَةٍ هُما فِيها خَيْرٌ مِن مُعاوِيَةَ، ولَكِنْ مَعَ تَتَبُّعِ الجادَّةِ، وقِلَّةِ المُبالاةِ بِرِضا النّاسِ يَنْخَرِمُ فِيهِ كَثِيرٌ مِن خِصالِ السُّؤْدُدِ (p-٢٤١)ومُعاوِيَةُ قَدْ بَرَّزَ في خِصالِ السُّؤْدُدِ الَّتِي هي الِاعْتِمالُ في إرْضاءِ النّاسِ عَلى أشْرَفِ الوُجُوهِ ولَمْ يُواقِعْ مَحْذُورًا. ووَصَفَ اللَّهُ يَحْيى بِالسَّيِّدِ لِتَحْصِيلِهِ الرِّئاسَةَ الدِّينِيَّةَ فِيهِ مِن صِباهُ، فَنَشَأ مُحْتَرَمًا مِن جَمِيعِ قَوْمِهِ، قالَ تَعالى: ﴿وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيًّا وحَنانًا مِن لَدُنّا وزَكاةً﴾ [مريم: ١٢]، وقَدْ قِيلَ السَّيِّدُ هُنا الحَلِيمُ التَّقِيُّ مَعًا. قالَهُ قَتادَةُ، والضَّحّاكُ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ. وقِيلَ الحَلِيمُ فَقَطْ. قالَ ابْنُ جُبَيْرٍ. وقِيلَ: السَّيِّدُ هُنا الشَّرِيفُ. قالَهُ جابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وقِيلَ السَّيِّدُ هُنا العالِمُ: قالَهُ ابْنُ المُسَيَّبِ، وقَتادَةُ أيْضًا. وعَطْفُ سَيِّدًا عَلى مُصَدِّقًا، وعَطْفُ حَصُورًا وما بَعْدَهُ عَلَيْهِ - يُؤْذِنُ بِأنَّ المُرادَ بِهِ غَيْرُ العَلِيمِ، ولا التَّقِّيِّ، وغَيْرُ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ. والحَصُورُ فَعُولٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ مِثْلَ رَسُولٍ. أيْ حَصُورٌ عَنْ قُرْبانِ النِّساءِ. وذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَةِ في أثْناءِ صِفاتِ المَدْحِ إمّا أنْ يَكُونَ مَدْحًا لَهُ، لِما تَسْتَلْزِمُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنَ البُعْدِ عَنِ الشَّهَواتِ المُحَرَّمَةِ، بِأصْلِ الخِلْقَةِ، ولَعَلَّ ذَلِكَ لِمُراعاةِ بَراءَتِهِ مِمّا يُلْصِقُهُ أهْلُ البُهْتانِ بِبَعْضِ أهْلِ الزُّهْدِ مِنَ التُّهَمِ، وقَدْ كانَ اليَهُودُ في عَصْرِهِ في أشَدِّ البُهْتانِ والِاخْتِلاقِ، وإمّا ألّا يَكُونَ المَقْصُودُ بِذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ مَدْحًا لَهُ لِأنَّ مَن هو أفْضَلُ مِن يَحْيى مِنَ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ كانُوا مُسْتَكْمِلِينَ المَقْدِرَةَ عَلى قُرْبانِ النِّساءِ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ ذِكْرُ هَذِهِ الصِّفَةِ لِيَحْيى إعْلامًا لِزَكَرِيّاءَ بِأنَّ اللَّهَ وهَبَهُ ولَدًا إجابَةً لِدَعْوَتِهِ، إذْ قالَ: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ولِيًّا يَرِثُنِي﴾ [مريم: ٥] وأنَّهُ قَدْ أتَمَّ مُرادَهُ تَعالى مِنِ انْقِطاعِ عَقِبِ زَكَرِيّاءَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَها، وذَلِكَ إظْهارٌ لِكَرامَةِ زَكَرِيّاءَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. ووُسِّطَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ بَيْنَ صِفاتِ الكَمالِ تَأْنِيسًا لِزَكَرِيّاءَ وتَخْفِيفًا مِن وحْشَتِهِ لِانْقِطاعِ نَسْلِهِ بَعْدَ يَحْيى. وقَوْلُهُ: ﴿أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ﴾: اسْتِفْهامٌ مُرادٌ مِنهُ التَّعَجُّبُ، قُصِدَ مِنهُ تَعَرُّفُ إمْكانِ الوَلَدِ، لِأنَّهُ لَمّا سَألَ الوَلَدَ فَقَدْ تَهَيَّأ لِحُصُولِ ذَلِكَ فَلا يَكُونُ قَوْلُهُ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ إلّا (p-٢٤٢)تَطَلُّبًا لِمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ عَلى وجْهٍ يُحَقِّقُ لَهُ البِشارَةَ، ولَيْسَ مِنَ الشَّكِّ في صِدْقِ الوَعْدِ، وهو كَقَوْلِ إبْراهِيمَ ﴿لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، فَأُجِيبَ بِأنَّ المُمْكِناتِ داخِلَةٌ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وإنْ عَزَّ وُقُوعُها في العادَةِ. وأنّى فِيهِ بِمَعْنى كَيْفَ، أوْ بِمَعْنى المَكانِ، لِتَعَذُّرِ عَمَلِ المَكانَيْنِ اللَّذَيْنِ هُما سَبَبُ التَّناسُبِ وهُما الكِبَرُ والعُقْرَةُ. وهَذا التَّعَجُّبُ يَسْتَلْزِمُ الشُّكْرَ عَلى هَذِهِ المِنَّةِ فَهو كِنايَةٌ عَنِ الشُّكْرِ. وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأنْ يَكُونَ الوَلَدُ مِن زَوْجِهِ العاقِرِ دُونَ أنْ يُؤْمَرَ بِتَزَوُّجِ امْرَأةٍ أُخْرى وهَذِهِ كَرامَةٌ لِامْرَأةِ زَكَرِيّاءَ. وقَوْلُهُ: ﴿وقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ﴾ جاءَ عَلى طَرِيقِ القَلْبِ، وأصْلُهُ وقَدْ بَلَغْتُ الكِبَرَ، وفائِدَتُهُ إظْهارُ تَمَكُّنِ الكِبَرِ مِنهُ كَأنَّهُ يَتَطَلَّبُهُ حَتّى بَلَغَهُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ المَوْتُ﴾ [النساء: ٧٨] . والعاقِرُ المَرْأةُ الَّتِي لا تَلِدُ عَقَرَتْ رَحِمَها أيْ قَطَعَتْهُ. ولِأنَّهُ وصْفٌ خاصٌّ بِالأُنْثى لَمْ يُؤَنَّثْ كَقَوْلِهِمْ حائِضٌ ونافِسٌ ومُرْضِعٌ، ولَكِنَّهُ يُؤَنَّثُ في غَيْرِ صِيغَةِ الفاعِلِ فَمِنهُ قَوْلُهم عَقْرى دُعاءً عَلى المَرْأةِ، وفي الحَدِيثِ عَقْرى حَلْقى وكَذَلِكَ نُفَساءُ. وقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾ أيْ كَهَذا الفِعْلِ العَجِيبِ وهو تَقْدِيرُ الحَمْلِ مِن شَيْخٍ هَرِمٍ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ولَدٌ وامْرَأةٌ عاقِرٌ كَذَلِكَ، ولَعَلَّ هَذا التَّكْوِينَ حَصَلَ بِكَوْنِ زَكَرِيّاءَ كانَ قَبْلَ هِرَمِهِ ذا قُوَّةٍ زائِدَةٍ لا تَسْتَقِرُّ بِسَبَبِها النُّطْفَةُ في الرَّحِمِ فَلَمّا هَرِمَ اعْتَدَلَتْ تِلْكَ القُوَّةُ فَصارَتْ كالمُتَعارَفِ، أوْ كانَ ذَلِكَ مِن أحْوالٍ في رَحِمِ امْرَأتِهِ ولِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ هَذا التَّكْوِينِ بِجُمْلَةِ ﴿يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾ أيْ هو تَكْوِينُ قَدَّرَهُ اللَّهُ وأوْجَدَ أسْبابَهُ ومِن أجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هُنا يَخْلُقُ ما يَشاءُ كَما قالَهُ في جانِبِ تَكْوِينِ عِيسى. وقَوْلُهُ: ﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِيَ آيَةً﴾ أرادَ آيَةً عَلى وقْتِ حُصُولِ ما بُشِّرَ بِهِ، وهَلْ هو قَرِيبٌ أوْ بَعِيدٌ، فالآيَةُ هي العَلامَةُ الدّالَّةُ عَلى ابْتِداءِ حَمْلِ زَوْجِهِ. وعَنِ السُّدِّيِّ والرَّبِيعِ: آيَةُ تَحَقُّقِ كَوْنِ الخِطابِ الوارِدِ عَلَيْهِ وارِدًا مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى، وهو ما في إنْجِيلِ لُوقا. وعِنْدِي في هَذا نَظَرٌ، لِأنَّ الأنْبِياءَ لا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الخِطابُ الوارِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ ويَعْلَمُونَهُ بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ. (p-٢٤٣)وقَوْلُهُ ﴿آيَتُكَ ألّا تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلّا رَمْزًا﴾ جَعَلَ اللَّهُ حُبْسَةَ لِسانِهِ عَنِ الكَلامِ آيَةً عَلى الوَقْتِ الَّذِي تَحْمِلُ فِيهِ زَوْجَتُهُ، لِأنَّ اللَّهَ صَرَفَ ما لَهُ مِنَ القُوَّةِ في أعْصابِ الكَلامِ المُتَّصِلَةِ بِالدِّماغِ إلى أعْصابِ التَّناسُلِ بِحِكْمَةٍ عَجِيبَةٍ يَقْرُبُ مِنها ما يُذْكَرُ مِن سُقُوطِ بَعْضِ الإحْساسِ لِمَن يَأْكُلُ البَلاذِرَ لِقُوَّةِ الفِكْرِ. أوْ أمَرَهُ بِالِامْتِناعِ مِنَ الكَلامِ مَعَ النّاسِ إعانَةً عَلى انْصِرافِ القُوَّةِ مِنَ المَنطِقِ إلى التَّناسُلِ، أيْ مَتى تَمَّتْ ثَلاثَةُ الأيّامِ كانَ ذَلِكَ أمارَةَ ابْتِداءِ الحَمْلِ. قالَ الرَّبِيعُ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهُ عُقُوبَةً لِتَرَدُّدِهِ في صِحَّةِ ما أخْبَرَهُ بِهِ المَلَكُ، وبِذَلِكَ صَرَّحَ في إنْجِيلِ لُوقا، فَيَكُونُ الجَوابُ عَلى هَذا الوَجْهِ مِن قَبِيلِ أُسْلُوبِ الحَكِيمِ لِأنَّهُ سَألَ آيَةً فَأُعْطِيَ غَيْرَها. وقَوْلُهُ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وسَبِّحْ بِالعَشِيِّ والإبْكارِ﴾ أمْرٌ بِالشُّكْرِ، والذِّكْرُ المُرادُ بِهِ: الذِّكْرُ بِالقَلْبِ والصَّلاةِ إنْ كانَ قَدْ سُلِبَ قُوَّةَ النُّطْقِ، أوِ الذِّكْرُ اللِّسانِيُّ إنْ كانَ قَدْ نُهِيَ عَنْها فَقَطْ. والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ إلّا رَمْزًا اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب