الباحث القرآني
﴿ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾
انْتِقالٌ إلى التَّنْوِيهِ بِالفُتُونِ لِأجْلِ الإيمانِ بِاللَّهِ بِأنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ في سالِفِ أهْلِ الإيمانِ، وتَأْكِيدُ الجُمْلَةِ بِلامِ القَسَمِ وحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ المُؤْمِنِينَ حِينَ اسْتَعْظَمُوا ما نالَهم (p-٢٠٤)مِنَ الفِتْنَةِ مِنَ المُشْرِكِينَ واسْتَبْطَئُوا النَّصْرَ عَلى الظّالِمِينَ، وذُهُولِهِمْ عَنْ سُنَّةِ الكَوْنِ في تِلْكَ الحالَةِ - مَنزِلَةَ مَن يُنْكِرُ أنَّ مَن يُخالِفُ الدَّهْماءَ في ضَلالِهِمْ ويَتَجافى عَنْ أخْلاقِهِمْ ورَذالَتِهِمْ لا بُدَّ أنْ تَلْحَقَهُ مِنهم فِتْنَةٌ.
ولَمّا كانَ هَذا السَّنَنُ مِن آثارِ ما طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ عُقُولَ غالِبِ البَشَرِ وتَفْكِيرَهم غَيْرَ المَعْصُومِ بِالدَّلائِلِ وكانَ حاصِلًا في الأُمَمِ السّالِفَةِ كُلِّها - أسْنَدَ فُتُونَ تِلْكَ الأُمَمِ إلى اللَّهِ تَعالى إسْنادًا مَجازِيًّا؛ لِأنَّهُ خالِقُ أسْبابِهِ كَما خَلَقَ أسْبابَ العِصْمَةِ مِنهُ لِمَن كانَ أهْلًا لِلْعِصْمَةِ مِن مِثْلِهِ، وفي هَذا الإسْنادِ إيماءٌ إلى أنَّ الَّذِي خَلَقَ أسْبابَ تِلْكَ الفِتَنِ قَرِيبِها وبَعِيدِها قادِرٌ عَلى صَرْفِها بِأسْبابٍ تُضادُّها. وإلى هَذا يُشِيرُ دُعاءُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ المَحْكِيُّ في سُورَةِ يُونُسَ ﴿وقالَ مُوسى رَبَّنا إنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلَأهُ زِينَةً وأمْوالًا في الحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنا اطْمِسْ عَلى أمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ﴾ [يونس: ٨٨] فَسَألَ اللَّهَ أنْ يَخْلُقَ ضِدَّ الأسْبابِ الَّتِي غَرَّتْ فِرْعَوْنَ ومَلَأهُ وغَشِيَتْ عَلى قَلْبِهِ بِالضَّلالِ.
والمَقْصُودُ التَّذْكِيرُ بِما لَحِقَ صالِحِي الأُمَمِ السّالِفَةِ مِنَ الأذى والِاضْطِهادِ كَما لَقِيَ صالِحُو النَّصارى مِن مُشْرِكِي الرُّومانِ في عُصُورِ المَسِيحِيَّةِ الأُولى، وقَدْ قَصَّ القُرْآنُ بَعْضَ ذَلِكَ في ”سُورَةِ البُرُوجِ“ .
وحُكْمُها سارٍ في حالِ كُلِّ مَن يَتَمَسَّكُ بِالحَقِّ بَيْنَ قَوْمٍ يَسْتَخِفُّونَ بِهِ مِنَ المُسْلِمِينَ؛ لِأنَّ نُكْرانَ الحَقِّ أنْواعٌ كَثِيرَةٌ.
والواوُ الدّاخِلَةُ عَلى جُمْلَةِ ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ عاطِفَةً عَلى جُمْلَةِ أحَسِبَ النّاسُ، ويَجُوزُ كَوْنُها عاطِفَةً عَلى جُمْلَةِ وهم لا يُفْتَنُونَ فَتَكُونُ بِمَعْنى الحالِ، أيْ والحالُ قَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، وعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ فالجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ ما قَبْلَها وما تَفَرَّعَ عَنْهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾، فَلَكَ أنْ تُسَمِّيَ تِلْكَ الواوَ اعْتِراضِيَّةً. وإسْنادُ فِعْلِ فَتَنّا إلى اللَّهِ تَعالى لِقَصْدِ تَشْرِيفِ هَذِهِ الفُتُونِ بِأنَّهُ جَرى عَلى سُنَّةِ اللَّهِ في الأُمَمِ. فالفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ تَفْرِيعٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وهم لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ٢]، أيْ يُفْتَنُونَ فَيَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا مِنهم والكاذِبِينَ. والمُفَرَّعُ هو عِلْمُ اللَّهِ الحاصِلُ في (p-٢٠٥)المُسْتَقْبَلِ كَما يَقْتَضِيهِ تَوْكِيدُ فِعْلِ العِلْمِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الَّتِي لا يُؤَكَّدُ بِها المُضارِعُ إلّا مُسْتَقْبَلًا. وهو تَعَلُّقٌ بِالمَعْلُومِ، شَبِيهٌ بِالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ لِصِفَتَيِ الإرادَةِ والقُدْرَةِ وإنْ لَمْ يُسَمُّوهُ بِهَذا الِاسْمِ.
والمُرادُ بِالصِّدْقِ هُنا ثَباتُ الشَّيْءِ ورُسُوخُهُ، وبِالكَذِبِ ارْتِفاعُهُ وتَزَلْزُلُهُ؛ وذَلِكَ أنَّ المُؤْمِنِينَ حِينَ قالُوا آمَنّا لَمْ يَكُنْ مِنهم مَن هو كاذِبٌ في إخْبارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِأنَّهُ اعْتَقَدَ عَقِيدَةَ الإيمانِ واتَّبَعَ رَسُولَهُ، فَإذا لَحِقَهُمُ الفُتُونُ مِن أجْلِ دُخُولِهِمْ في دِينِ الإسْلامِ فَمَن لَمْ يَعْبَأْ بِذَلِكَ ولَمْ يَتْرُكِ اتِّباعَ الرَّسُولِ فَقَدْ تَبَيَّنَ رُسُوخُ إيمانِهِ ورِباطَةُ عَزْمِهِ، فَكانَ إيمانُهُ حَقًّا وصِدْقًا، ومَن تَرَكَ الإيمانَ خَوْفَ الفِتْنَةِ فَقَدِ اسْتَبانَ مِن حالِهِ عَدَمُ رُسُوخِ إيمانِهِ وتَزَلْزُلُهُ، وهَذا كَقَوْلِ النّابِغَةِ:
؎أُولَئِكَ قَوْمٌ بَأْسُهم غَيْرُ كاذِبٍ
وقَوْلِ الأعْشى في ضِدِّهِ يَصِفُ راحِلَتَهُ:
؎جُمالِيَّةٍ تَغْتَلِي بِالـرِّدا ∗∗∗ فِ إذا كَذَّبَ الآثِماتُ الهَجِيرا
وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنَّ لَهم قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [يونس: ٢] في أوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ.
ولَمّا كانَ عِلْمُ اللَّهِ بِمَن يَكُونُ إيمانُهُ صادِقًا عِنْدَ الفُتُونِ ومَن يَكُونُ إيمانُهُ كاذِبًا بِهَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ مُتَقَرِّرًا في الأزَلِ مِن قَبْلِ أنْ يَحْصُلَ الفُتُونُ والصِّدْقُ والكَذِبُ - تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ فِعْلِ فَلَيَعْلَمَنَّ بِمَعْنى: فَلَيَعْلَمَنَّ بِكَذِبِ إيمانِهِمْ بِهَذا المَعْنى، فَهو مِن تَعَلُّقِ العِلْمِ بِحُصُولِ أمْرٍ كانَ في عِلْمِ اللَّهِ أنَّهُ سَيَكُونُ، وهو شَبِيهٌ بِتَعَلُّقِ الإرادَةِ المُعَبَّرِ عَنْهُ بِالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ، ولا مانِعَ مِن إثْباتِ تَعَلُّقَيْنِ لِعِلْمِ اللَّهِ تَعالى: أحَدُهُما قَدِيمٌ، والآخَرُ تَنْجِيزِيٌّ حادِثٌ. ولا يُفْضِي ذَلِكَ إلى اتِّصافِ اللَّهِ تَعالى بِوَصْفٍ حادِثٍ؛ لِأنَّ تَعَلُّقَ الصِّفَةِ تَحَقُّقُ مُقْتَضاها في الخارِجِ لا في ذاتِ مَوْصُوفِها، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ [البقرة: ١٤٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلِهِ: ﴿ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكم شُهَداءَ﴾ [آل عمران: ١٤٠] في آلِ عِمْرانَ.
ولَكَ أنْ تَجْعَلَ العِلْمَ هُنا مُكَنًّى بِهِ عَنْ وعْدِ الصّادِقِينَ ووَعِيدِ الكاذِبِينَ؛ لِأنَّ العِلْمَ سَبَبٌ لِلْجَزاءِ بِما يَقْتَضِيهِ، فَكانَتِ الكِنايَةُ مَقْصُودَةً وهو المَعْنى الأهَمُّ.
(p-٢٠٦)وقَدْ عَدَلَ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ﴾ عَنْ طَرِيقِ التَّكَلُّمِ إلى طَرِيقِ الغَيْبَةِ بِإظْهارِ اسْمِ الجَلالَةِ عَلى أُسْلُوبِ الِالتِفاتِ لِما في هَذا الإظْهارِ مِنَ الجَلالَةِ لِيُعْلَمَ أنَّ الجَزاءَ عَلى ذَلِكَ جَزاءُ مالِكِ المُلْكِ.
وتَعْرِيفُ المُتَّصِفِينَ بِصِدْقِ الإيمانِ بِالمَوْصُولِ والصِّلَةِ الماضَوِيَّةِ لِإفادَةِ أنَّهُمُ اشْتَهَرُوا بِحِدْثانِ صِدْقِ الإيمانِ وأنَّ صِدْقَهم مُحَقَّقٌ.
وأمّا تَعْرِيفُ المُتَّصِفِينَ بِالكَذِبِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيفِ بِاللّامِ وبِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ فَلِإفادَةِ أنَّهم عُهِدُوا بِهَذا الوَصْفِ وتَمَيَّزُوا بِهِ مَعَ ما في ذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ والرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ.
رَوى الطَّبَرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الم ﴿أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا﴾ [العنكبوت: ٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ في عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ إذْ كانَ يُعَذَّبُ في اللَّهِ، وأمْثالِهِ عَيّاشِ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ، والوَلِيدِ بْنِ الوَلِيدِ، وسَلَمَةَ بْنِ هِشامٍ مِمَّنْ كانُوا يُعَذَّبُونَ بِمَكَّةَ، وكانَ النَّبِيءُ ﷺ يَدْعُو لَهُمُ اللَّهَ بِالنَّجاةِ لَهم ولِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ.
{"ayah":"وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَیَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَـٰذِبِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق