الباحث القرآني
﴿قالَ إنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِيَ أوَلَمْ يَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ قَدْ أهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَن هو أشَدُّ مِنهُ قُوَّةً وأكْثَرُ جَمْعًا ولا يُسْألُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ﴾
جَوابٌ عَنْ مَوْعِظَةِ واعِظِيهِ مِن قَوْمِهِ. وقَدْ جاءَ عَلى أُسْلُوبِ حِكايَةِ المُحاوَراتِ فَلَمْ يُعْطَفْ، وهو جَوابٌ مُتَصَلِّفٌ حاوَلَ بِهِ إفْحامَهم وأنْ يَقْطَعُوا مَوْعِظَتَهم؛ لِأنَّها أمَرَّتْ بَطَرَهُ وازْدِهاءَهُ.
و”إنَّما“ هَذِهِ هي أداةُ الحَصْرِ المُرَكَّبَةُ مِن ”إنَّ“ و”ما“ الكافَّةِ مُصَيَّرَتَيْنِ كَلِمَةً واحِدَةً، وهي الَّتِي حَقُّها أنْ تُكْتَبَ مَوْصُولَةَ النُّونِ بِمِيمِ ”ما“، والمَعْنى: ما أُوتِيتُ هَذا المالَ إلّا عَلى عِلْمٍ عَلِمْتُهُ.
وضَمِيرُ ”أُوتِيتُهُ“ عائِدٌ إلى ”ما“ المَوْصُولَةِ في قَوْلِهِمْ: ﴿وابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدّارَ الآخِرَةَ﴾ [القصص: ٧٧] . وبُنِيَ الفِعْلُ لِلنّائِبِ؛ لِلْعِلْمِ بِالفاعِلِ مِن كَلامِ واعِظِيهِ.
(p-١٨١)و﴿عَلى عِلْمٍ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ.
وعَلى لِلِاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ بِمَعْنى التَّمَكُّنِ والتَّحَقُّقِ، أيْ ما أُوتِيتُ المالَ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ في حالٍ مِنَ الأحْوالِ إلّا في حالِ تَمَكُّنِي مِن عِلْمٍ راسِخٍ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ العِلْمِ عِلْمَ أحْكامِ إنْتاجِ المالِ مِنَ التَّوْراةِ، أيْ أنا أعْلَمُ مِنكم بِما تَعِظُونَنِي بِهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهم لَهُ: ﴿لا تَفْرَحْ﴾ [القصص: ٧٦]، ﴿وابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدّارَ الآخِرَةَ﴾ [القصص: ٧٧]، ﴿وأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ ولا تَبْغِ الفَسادَ في الأرْضِ﴾ [القصص: ٧٧] . وقَدْ كانَ قارُونُ مَشْهُورًا بِالعِلْمِ بِالتَّوْراةِ، ولَكِنَّهُ أضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ، فَأرادَ بِهَذا الجَوابِ قَطْعَ مَوْعِظَتَهم نَظِيرَ جَوابِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ العاصِ المُلَقَّبِ بِالأشْدَقِ لِأبِي شُرَيْحٍ الكَعْبِيِّ حِينَ قَدِمَ إلى المَدِينَةِ أمِيرًا مِن قِبَلِ يَزِيدَ بْنِ مُعاوِيَةَ سَنَةَ سِتِّينَ، فَجَعَلَ يُجَهِّزُ الجُيُوشَ ويَبْعَثُ البُعُوثَ إلى مَكَّةَ لِقِتالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الَّذِي خَرَجَ عَلى يَزِيدَ، فَقالَ أبُو شُرَيْحٍ لَهُ: ائْذَنْ لِي أيُّها الأمِيرُ أُحَدِّثُكَ قَوْلًا قامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الغَدَ مِن يَوْمِ الفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنايَ ووَعاهُ قَلْبِي، وأبْصَرَتْهُ عَيْنايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قالَ: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَها اللَّهُ ولَمْ يُحَرِّمْها النّاسُ، فَلا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ أنْ يَسْفِكَ بِها دَمًا ولا يَعْضِدَ شَجَرَةً، فَإنْ أحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتالِ رَسُولِ اللَّهِ فَقُولُوا: إنَّ اللَّهَ أذِنَ لِرَسُولِهِ ولَمْ يَأْذَنْ لَكم، وإنَّما أذِنَ لِي ساعَةً مِن نَهارٍ، وقَدْ عادَتْ حُرْمَتُها اليَوْمَ كَحُرْمَتِها بِالأمْسِ، ولْيُبَلِّغِ الشّاهِدُ الغائِبَ»، فَقالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ: أنا أعْلَمُ بِذَلِكَ مِنكَ يا أبا شُرَيْحٍ، إنَّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عاصِيًا ولا فارًّا بِدَمٍ ولا فارًّا بِخَرِبَةٍ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالعِلْمِ عِلْمَ اكْتِسابِ المالِ مِنَ التِّجارَةِ ونَحْوِها، فَأرادَ بِجَوابِهِ إنْكارَ قَوْلِهِمْ: آتاكَ اللَّهُ، صَلَفًا مِنهُ وطُغْيانًا.
وقَوْلُهُ: عِنْدِي صِفَةٌ لِـ عِلْمٍ تَأْكِيدًا لِتَمَكُّنِهِ مِنَ العِلْمِ وشُهْرَتِهِ بِهِ، هَذا هو الوَجْهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ مِنَ الآيَةِ، وهو الَّذِي يَسْتَقِيمُ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى عَقِبَهُ: ﴿أوَلَمْ يَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ قَدْ أهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ﴾ الآيَةَ، كَما سَتَعْرِفُهُ. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ وُجُوهًا تُسْفِرُ عَنْ أشْكالٍ أُخْرى مِن تَرْكِيبِ نَظْمِ الآيَةِ في مَحْمِلِ مَعْنى ”عَلى“، ومَحْمِلِ المُرادِ مِنَ ”العِلْمِ“، ومَحْمِلِ ”عِنْدِي“، فَلا نُطِيلُ بِذِكْرِها، فَهي مِنكَ عَلى طَرَفِ الثُّمامِ.
وقَوْلُهُ: ﴿أوَلَمْ يَعْلَمْ﴾ الآيَةَ، إقْبالٌ عَلى خِطابِ المُسْلِمِينَ.
(p-١٨٢)والهَمْزَةُ في ﴿أوَلَمْ يَعْلَمْ﴾ لِلِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ التَّعْجِيبِيِّ، تَعْجِيبًا مِن عَدَمِ جَرْيِهِ عَلى مُوجِبِ عِلْمِهِ بِأنَّ اللَّهَ أهْلَكَ أُمَمًا عَلى بَطَرِهِمُ النِّعْمَةَ وإعْجابِهِمْ لِقُوَّتِهِمْ، ونِسْيانِهِ حَتّى صارَ كَأنَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ، تَعْجِيبًا مِن فَواتِ مُراعاةِ ذَلِكَ مِنهُ مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ بِغَيْرِهِ مِن بابِ ”حَفِظْتَ شَيْئًا وغابَتْ عَنْكَ أشْياءُ“ .
وعُطِفَ هَذا الِاسْتِفْهامُ عَلى جُمْلَةِ ﴿قالَ إنَّما أُوتِيتُهُ﴾ . وهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أجْزاءِ القِصَّةِ.
والقُوَّةُ: ما بِهِ يُسْتَعانُ عَلى الأعْمالِ الصَّعْبَةِ تَشْبِيهًا لَها بِقُوَّةِ الجِسْمِ الَّتِي تُخَوِّلُ صاحِبَها حَمْلَ الأثْقالِ ونَحْوِها، قالَ تَعالى: ﴿وأعِدُّوا لَهم ما اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠] .
والجَمْعُ: الجَماعَةُ مِنَ النّاسِ. قِيلَ: كانَ أشْياعُ قارُونَ مِائَتَيْنِ وخَمْسِينَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، رُؤَساءَ جَماعاتٍ.
وجُمْلَةُ ﴿ولا يُسْألُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ﴾ تَذْيِيلٌ لِلْكَلامِ، فَهو اسْتِئْنافٌ ولَيْسَ عَطْفًا عَلى أنَّ اللَّهَ قَدْ أهْلَكَ مَن قَبْلَهُ. والسُّؤالُ المَنفِيُّ السُّؤالُ في الدُّنْيا ولَيْسَ سُؤالَ الآخِرَةِ. والمَعْنى يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ السُّؤالُ كِنايَةً عَنْ عَدَمِ الحاجَةِ إلى السُّؤالِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ؛ فَهو كِنايَةٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى بِذُنُوبِهِمْ، وهو كِنايَةٌ عَنْ عِقابِهِمْ عَلى إجْرامِهِمْ، فَهي كِنايَةٌ بِوَسائِطَ. والكَلامُ تَهْدِيدٌ لِلْمُجْرِمِينَ لِيَكُونُوا بِالحَذَرِ مِن أنْ يُؤْخَذُوا بَغْتَةً، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ السُّؤالُ بِمَعْناهُ الحَقِيقِيِّ، أيْ لا يُسْألُ المُجْرِمُ عَنْ جُرْمِهِ قَبْلَ عِقابِهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ لِلنّاسِ عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ بِحَدَّيِ الخَيْرِ والشَّرِّ وأمْهَلَ المُجْرِمَ، فَإذا أخَذَهُ أخَذَهُ بَغْتَةً، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى إذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أخَذْناهم بَغْتَةً فَإذا هم مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤] وقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «إنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الظّالِمَ حَتّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» .
{"ayah":"قَالَ إِنَّمَاۤ أُوتِیتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِیۤۚ أَوَلَمۡ یَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةࣰ وَأَكۡثَرُ جَمۡعࣰاۚ وَلَا یُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق