الباحث القرآني
(p-١٧٤)﴿إنَّ قارُونَ كانَ مِن قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ﴾
كانَ مِن صُنُوفِ أذى أيِمَّةِ الكُفْرِ النَّبِيءَ ﷺ والمُسْلِمِينَ، ومِن دَواعِيَ تَصَلُّبِهِمْ في إعْراضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ - اعْتِزازُهم بِأمْوالِهِمْ؛ وقالُوا: ”لَوْلا أُنْزِلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ“، أيْ عَلى رَجُلٍ مِن أهْلِ الثَّرْوَةِ، فَهي عِنْدَهم سَبَبُ العَظَمَةِ ونَبْزِهِمُ المُسْلِمِينَ بِأنَّهم ضُعَفاءُ القَوْمِ، وقَدْ تَكَرَّرَ في القُرْآنِ تَوْبِيخُهم عَلى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: ﴿وقالُوا نَحْنُ أكْثَرُ أمْوالًا وأوْلادًا﴾ [سبإ: ٣٥] وقَوْلِهِ: ﴿وذَرْنِي والمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ﴾ [المزمل: ١١] الآيَةَ. رَوى الواحِدِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وغَيْرِهِ بِأسانِيدَ: «أنَّ المَلَأ مِن قُرَيْشٍ وسادَتِهِمْ؛ مِنهم عَتَبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، والمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، والحارِثُ بْنُ نَوْفَلٍ قالُوا: أيُرِيدُ مُحَمَّدٌ أنْ نَكُونَ تَبَعًا لِهَؤُلاءِ - يَعْنُونَ خَبّابًا، وبِلالًا، وعَمّارًا، وصُهَيْبًا، لَوْ طَرَدَ مُحَمَّدٌ عَنْهُ مَوالِيَنا وعَبِيدَنا كانَ أعْظَمَ لَهُ في صُدُورِنا، وأطْمَعَ لَهُ عِنْدَنا، وأرْجى لِاتِّباعِنا إيّاهُ وتَصْدِيقِنا لَهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ [الأنعام: ٥٢] إلى قَوْلِهِ: بِالشّاكِرِينَ» . وكانَ فِيما تَقَدَّمَ مِنَ الآياتِ قَرِيبًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِن شَيْءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا وزِينَتُها﴾ [القصص: ٦٠] إلى قَوْلِهِ: ﴿مِنَ المُحْضَرِينَ﴾ [القصص: ٦١] كَما تَقَدَّمَ.
وقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ الأمْثالَ لِلْمُشْرِكِينَ في جَمِيعِ أحْوالِهِمْ بِأمْثالِ نُظَرائِهِمْ مِنَ الأُمَمِ السّالِفَةِ، فَضَرَبَ في هَذِهِ السُّورَةِ لِحالِ تَعاظُمِهِمْ بِأمْوالِهِمْ مَثَلًا بِحالِ قارُونَ مَعَ مُوسى، وإنَّ مَثَلَ قارُونَ صالِحٌ لِأنْ يَكُونُ مَثَلًا لِأبِي لَهَبٍ ولِأبِي سُفْيانَ بْنِ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ - قَبْلَ إسْلامِهِ - في قَرابَتِهِما مِنَ النَّبِيءِ ﷺ وأذاهُما إيّاهُ، ولِلْعاصِي بْنِ وائِلٍ السَّهْمِيِّ في أذاهُ لِخَبّابِ بْنِ الأرَتِّ وغَيْرِهِ، ولِلْوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ مِنَ التَّعاظُمِ بِمالِهِ وذَوِيِهِ، قالَ تَعالى: ﴿ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا وجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا﴾ [المدثر: ١١] فَإنَّ المُرادَ بِهِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ.
فَقَوْلُهُ: إنَّ قارُونَ كانَ مِن قَوْمِ مُوسى اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ لِذِكْرِ قِصَّةٍ ضُرِبَتْ مَثَلًا لِحالِ بَعْضِ كُفّارِ مَكَّةَ وهم سادَتُهم مِثْلُ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ وأبِي جَهْلِ بْنِ هِشامٍ، ولَها مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِجُمْلَةِ ﴿وما أُوتِيتُمْ مِن شَيْءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا وزِينَتُها﴾ [القصص: ٦٠] إلى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ هو يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ﴾ [القصص: ٦١] .
(p-١٧٥)ولِهَذِهِ القِصَّةِ اتِّصالٌ بِانْتِهاءِ قِصَّةِ جُنْدِ فِرْعَوْنَ المُنْتَهِيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إذْ نادَيْنا﴾ [القصص: ٤٦] الآيَةَ.
و”قارُونُ“ اسْمٌ مُعَرَبٌ، أصْلُهُ في العِبْرانِيَّةِ ”قُورَحُ“ بِضَمِّ القافِ مُشْبَعَةً وفَتْحِ الرّاءِ، وقَعَ في تَعْرِيبِهِ تَغْيِيرُ بَعْضِ حُرُوفِهِ لِلتَّخْفِيفِ، وأُجْرِيَ وزْنُهُ عَلى مُتَعارَفِ الأوْزانِ العَرَبِيَّةِ مِثْلَ طالُوتَ وجالُوتَ، فَلَيْسَتْ حُرُوفُهُ حُرُوفُ اشْتِقاقٍ مِن مادَّةِ ”قَرَنَ“ .
و”قُورَحُ“ هَذا ابْنُ عَمِّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ”دِنْيا“، فَهو قُورَحُ بْنُ يَصْهارَ بْنِ قَهاتِ بْنِ لاوِي بْنِ يَعْقُوبَ. ومُوسى هو ابْنُ عِمْرَمَ - المُسَمّى عِمْرانَ في العَرَبِيَّةِ - ابْنِ قاهِتَ، فَيَكُونُ يَصاهَرُ أخا عِمْرَمَ. ووَرَدَ في الإصْحاحِ السّادِسَ عَشَرَ مِن سِفْرِ العَدَدِ أنَّ قُورَحَ هَذا تَألَّبَ مَعَ بَعْضِ زُعَماءِ بَنِي إسْرائِيلَ مِائَتَيْنِ وخَمْسِينَ رَجُلًا مِنهم عَلى مُوسى وهارُونَ عَلَيْهِما السَّلامُ حِينَ جَعَلَ اللَّهُ الكِهانَةَ في بَنِي هارُونَ مِن سِبْطِ ”لاوِي“، فَحَسَدَهم ”قُورَحُ“ إذْ كانَ ابْنَ عَمِّهِمْ، وقالَ لِمُوسى وهارُونَ: ما بالُكُما تَرْتَفِعانِ عَلى جَماعَةِ الرَّبِّ، إنَّ الجَماعَةَ مُقَدَّسَةٌ والرَّبَّ مَعَها، فَغَضِبَ اللَّهُ عَلى قُورَحَ وأتْباعِهِ وخَسَفَ بِهِمُ الأرْضَ، وذَهَبَتْ أمْوالُ ”قُورَحَ“ كُلُّها، وكانَ ذَلِكَ حِينَ كانَ بَنُو إسْرائِيلَ عَلى أبْوابِ ”أرِيحا“ قَبْلَ فَتْحِها. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أنَّ فِرْعَوْنَ كانَ جَعْلَ ”قُورَحَ“ رَئِيسًا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ في مِصْرَ وأنَّهُ جَمَعَ ثَرْوَةً عَظِيمَةً.
وما حَكاهُ القُرْآنُ يُبَيِّنُ سَبَبَ نُشُوءِ الحَسَدِ في نَفْسِهِ لِمُوسى؛ لِأنَّ مُوسى لَمّا جاءَ بِالرِّسالَةِ وخَرَجَ بِبَنِي إسْرائِيلَ زالَ تَأمُّرُ ”قارُونَ“ عَلى قَوْمِهِ، فَحَقَدَ عَلى مُوسى. وقَدْ أكْثَرَ القُصّاصُ مِن وصْفِ بَذْخَةِ قارُونَ وعَظْمَتِهِ ما لَيْسَ في القُرْآنِ، وما لَهم بِهِ مِن بُرْهانٍ، وتَلَقَّفَهُ المُفَسِّرُونَ حاشا ابْنَ عَطِيَّةَ.
وافْتِتاحُ الجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِإفادَةِ تَأْكِيدِ خَبَرِ ”إنَّ“ وما عُطِفَ عَلَيْهِ وتَعَلَّقَ بِهِ مِمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ القِصَّةُ وهو سُوءُ عاقِبَةِ الَّذِينَ تَغُرُّهم أمْوالُهم وتَزْدَهِيهِمْ فَلا يَكْتَرِثُونَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، ويَسْتَخِفُّونَ بِالدِّينِ، ويَكْفُرُونَ بِشَرائِعِ اللَّهِ - لِظُهُورِ أنَّ الإخْبارَ عَنْ قارُونَ بِأنَّهُ مِن قَوْمِ مُوسى لَيْسَ مِن شَأْنِهِ أنْ يَتَرَدَّدَ فِيهِ السّامِعُ حَتّى يُؤَكَّدَ لَهُ، فَمَصَبُّ التَّأْكِيدِ هو ما بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ﴾ إلى آخِرِ القِصَّةِ المُنْتَهِيَةِ بِالخَسْفِ.
(p-١٧٦)ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ”إنَّ“ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ، ومَناطِ الِاهْتِمامِ هو مَجْمُوعُ ما تَضَمَّنَتْهُ القِصَّةُ مِنَ العِبَرِ الَّتِي مِنها أنَّهُ مِن قَوْمِ مُوسى، فَصارَ عَدُوًّا لَهُ ولِأتْباعِهِ، فَأمْرُهُ أغْرَبُ مِن أمَرِ فِرْعَوْنَ
وعَدَلَ عَنْ أنْ يُقالَ: كانَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، لِما في إضافَةِ قَوْمٍ إلى مُوسى مِنَ الإيماءِ إلى أنَ لِقارُونَ اتِّصالًا خاصًّا بِمُوسى فَهو اتِّصالُ القَرابَةِ.
وجُمْلَةُ ﴿فَبَغى عَلَيْهِمْ﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿إنَّ قارُونَ كانَ مِن قَوْمِ مُوسى﴾ وجُمْلَةِ ﴿وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ﴾، والفاءُ فِيها لِلتَّرْتِيبِ والتَّعْقِيبِ، أيْ لَمْ يَلْبَثْ أنْ بَطِرَ النِّعْمَةَ، واجْتَرَأ عَلى ذَوِي قَرابَتِهِ، لِلتَّعْجِيبِ مِن بَغْيِ أحَدٍ عَلى قَوْمِهِ كَما قالَ طَرَفَةُ:
؎وظُلْمُ ذَوِي القُرْبى أشُدُّ مَضَـاضَةً عَلى المَرْءِ مِن وقَعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
والبَغْيُ: الِاعْتِداءُ، والِاعْتِداءُ عَلى الأُمَّةِ الِاسْتِخْفافُ بِحُقُوقِها، وأوَّلُ ذَلِكَ خَرْقُ شَرِيعَتِها. وفي الإخْبارِ عَنْهُ بِأنَّهُ مِن قَوْمِ مُوسى تَمْهِيدٌ لِلْكِنايَةِ بِهَذا الخَبَرِ عَنْ إرادَةِ التَّنْظِيرِ بِما عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن بَغْيِ بَعْضِ قَرابَتِهِ مِنَ المُشْرِكِينَ عَلَيْهِ.
وفِي قَوْلِهِ: ﴿إنَّ قارُونَ كانَ مِن قَوْمِ مُوسى﴾ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ وهو ما يُسَمّى النَّثْرُ المُتَّزِنُ، أيِ النَّثْرُ الَّذِي يَجِيءُ بِمِيزانِ بَعْضِ بُحُورِ الشِّعْرِ، فَإنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ جاءَتْ عَلى مِيزانِ مِصْراعٍ مِن بَحْرِ الخَفِيفِ، ووَجْهُ وُقُوعِ ذَلِكَ في القُرْآنِ أنَّ الحالَ البَلاغِيَّ يَقْتَضِي التَّعْبِيرَ بِألْفاظٍ وتَرْكِيبٍ يَكُونُ مَجْمُوعُهُ في مِيزانِ مِصْراعٍ مِن أحَدِ بُحُورِ الشِّعْرِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ﴾ صِلَةُ ”ما“ المَوْصُولَةِ عِنْدَ نُحاةِ البَصْرَةِ الَّذِينَ لا يَمْنَعُونَ أنْ تَقَعَ ”إنَّ“ في افْتِتاحِ صِلَةِ المَوْصُولِ. ومَنَعَ الكُوفِيُّونَ مِن ذَلِكَ، واعْتُذِرَ عَنْهم بِأنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ في كَلامِ العَرَبِ؛ ولِذَلِكَ تَأوَّلُوا ”ما“ هُنا بِأنَّها نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وأنَّ الجُمْلَةَ بَعْدَها في مَحَلِّ الصِّفَةِ.
والمَفاتِحُ: جَمْعُ مِفْتَحٌ - بِكَسْرِ المِيمِ وفَتْحِ المُثَنّاةِ الفَوْقِيَّةِ - وهو آلَةُ الفَتْحِ، ويُسَمّى المِفْتاحُ أيْضًا، وجَمْعُهُ مَفاتِيحُ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ﴾ [الأنعام: ٥٩] في سُورَةِ الأنْعامِ.
(p-١٧٧)والكُنُوزُ: جَمْعُ كَنْزٍ وهو مُخْتَزَنُ المالِ مِن صُنْدُوقٍ أوْ خِزانَةٍ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ﴾ [هود: ١٢] في سُورَةِ ”هُودٍ“، وأنَّهُ كانَ يُقَدَّرُ بِمِقْدارٍ مِنَ المالِ مِثْلَ ما يَقُولُونَ: بَدْرَةُ مالٍ، وأنَّهُ كانَ يُجْعَلُ لِذَلِكَ المِقْدارِ خِزانَةٌ أوْ صُنْدُوقٌ يَسَعُهُ، ولِكُلِّ صُنْدُوقٍ أوْ خِزانَةٍ مِفْتاحُهُ. وعَنْ أبِي رَزِينٍ لَقِيطِ بْنِ عامِرٍ العُقَيْلِيِّ أحَدِ الصَّحابَةِ، أنَّهُ قالَ: ”يَكْفِي الكُوفَةَ مِفْتاحٌ“ أيْ مِفْتاحٌ واحِدٌ، أيْ كَنْزٌ واحِدٌ مِنَ المالِ لَهُ مِفْتاحٌ، فَتَكُونُ كَثْرَةُ المَفاتِيحِ كِنايَةً عَنْ كَثْرَةِ الخَزائِنِ، وتِلْكَ كِنايَةٌ عَنْ وفْرَةِ المالِ، فَهو كِنايَةٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ مِثْلَ:
؎جَبانُ الكَلْبِ مَهْزُولُ الفَصِيلِ
وتَنُوءُ: تَثْقُلُ. ويَظْهَرُ أنَّ الباءَ في قَوْلِهِ بِالعُصْبَةِ باءُ المُلابَسَةِ، أنْ تَثْقُلَ مَعَ العُصْبَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَها، فَهي لِشِدَّةِ ثِقَلِها تَثْقُلُ مَعَ أنَّ حَمَلَتَها عُصْبَةٌ أُولُو قُوَّةٍ، ولَيْسَتْ هَذِهِ الباءُ باءُ السَّبَبِيَّةِ كالَّتِي في قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ:
؎وأرْدَفَ أعْجازًا وناءَ بِكَلْكَلِ
ولا كَمِثالِ صاحِبِ ”الكَشّافِ“: ناءَ بِهِ الحِمْلُ، إذا أثْقَلَهُ الحِمْلُ حَتّى أمالَهُ.
وأما قَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ بِأنَّ تَرْكِيبَ الآيَةِ فِيهِ قَلْبٌ، فَلا يَقْبَلُهُ مَن كانَ لَهُ قَلْبٌ.
والعُصْبَةُ: الجَماعَةُ، وتَقَدَّمَ في سُورَةِ يُوسُفَ. وأقْرَبُ الأقْوالِ في مِقْدارِها قَوْلُ مُجاهِدٍ أنَّهُ مِن عَشْرَةٍ إلى خَمْسَةَ عَشَرَ. وكانَ اكْتَسَبَ الأمْوالَ في مِصْرَ وخَرَجَ بِها.
* * *
﴿إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ﴾ ﴿وابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدّارَ الآخِرَةَ﴾ [القصص: ٧٧]
إذْ ظَرْفٌ مَنصُوبٌ بِفِعْلِ ”بَغى عَلَيْهِمْ“، والمَقْصُودُ مِن هَذا الظَّرْفِ القِصَّةُ، ولَيْسَ القَصْدُ بِهِ تَوْقِيتَ البَغْيِ؛ ولِذَلِكَ قَدَّرَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ مُتَعَلِّقًا بِـ ”اذْكُرْ“ مَحْذُوفًا وهو المَعْنِيُّ في نَظائِرِهِ مِنَ القَصَصِ.
والمُرادُ بِالقَوْمِ بَعْضُهم، إمّا جَماعَةٌ مِنهم وهم أهْلُ المَوْعِظَةِ، وإمّا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ القَوْمِ؛ لِأنَّ أقْوالَهُ قُدْوَةٌ لِلْقَوْمِ، فَكَأنَّهم قالُوا قَوْلَهُ.
(p-١٧٨)والفَرَحُ يُطْلَقُ عَلى السُّرُورِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وفَرِحُوا بِها﴾ [يونس: ٢٢] في يُونُسَ، ويُطْلَقُ عَلى البَطَرِ والِازْدِهاءِ، وهو الفَرَحُ المُفْرِطُ المَذْمُومُ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وفَرِحُوا بِالحَياةِ الدُّنْيا﴾ [الرعد: ٢٦] في سُورَةِ الرَّعْدِ، وهو التَّمَحُّضُ لِلْفَرَحِ. والفَرَحُ المَنهِيُّ عَنْهُ هو المُفْرِطُ مِنهُ، أيِ الَّذِي تَمْحَضَّ لِلتَّعَلُّقِ بِمَتاعِ ولَذّاتِ النَّفْسِ بِهِ؛ لِأنَّ الِانْكِبابَ عَلى ذَلِكَ يُمِيتُ مِنَ النَّفْسِ الِاهْتِمامَ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ والمُنافَسَةِ لِاكْتِسابِها، فَيَنْحَدِرُ بِهِ التَّوَغُّلُ في الإقْبالِ عَلى اللَّذّاتِ إلى حَضِيضِ الإعْراضِ عَنِ الكَمالِ النَّفْسانِيِّ والِاهْتِمامِ بِالآدابِ الدِّينِيَّةِ، فَحُذِفَ المُتَعَلِّقُ بِالفِعْلِ لِدَلالَةِ المَقامِ عَلى أنَّ المَعْنى لا تَفْرَحْ بِلَذّاتِ الدُّنْيا مُعْرِضًا عَنِ الدِّينِ والعَمَلِ لِلْآخِرَةِ، كَما أفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ: وابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدّارَ الآخِرَةَ. وأحْسَبُ أنَّ الفَرَحَ إذا لَمْ يَعْلَقْ بِهِ شَيْءٌ دَلَّ عَلى أنَّهُ صارَ سَجِيَّةَ المَوْصُوفِ، فَصارَ مُرادًا بِهِ العُجْبُ والبَطَرُ. وقَدْ أُشِيرَ إلى بَيانِ المَقْصُودِ تَعْضِيدًا لِدَلالَةِ المَقامِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ﴾، أيِ المُفْرِطِينَ في الفَرَحِ، فَإنَّ صِيغَةَ ”فَعِلٍ“ صِيغَةُ مُبالَغَةٍ مَعَ الإشارَةِ إلى تَعْلِيلِ النَّهْيِ، فالجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِلَّتِي قَبْلَها، والمُبالَغَةُ في الفَرَحِ تَقْتَضِي شِدَّةَ الإقْبالِ عَلى ما يُفْرَحُ بِهِ، وهي تَسْتَلْزِمُ الإعْراضَ عَنْ غَيْرِهِ، فَصارَ النَّهْيُ عَنْ شِدَّةِ الفَرَحِ رَمْزًا إلى الإعْراضِ عَنِ الجِدِّ والواجِبِ في ذَلِكَ.
وابْتِغاءُ الدّارِ الآخِرَةِ: طَلَبُها، أيْ طَلَبُ نَعِيمِها وثَوابِها، وعَلِقَ بِفِعْلِ الِابْتِغاءِ قَوْلُهُ: ”فِيما آتاكَ اللَّهُ“ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ، أيِ اطْلُبْ بِمُعْظَمِهِ وأكْثَرِهِ. والظَّرْفِيَّةُ مَجازِيَّةٌ لِلدَّلالَةِ عَلى تَغَلْغُلِ ابْتِغاءِ الدّارِ الآخِرَةِ في ما آتاهُ اللَّهُ، وما آتاهُ هو كُنُوزُ المالِ، فالظَّرْفِيَّةُ هُنا كالَّتِي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وارْزُقُوهم فِيها واكْسُوهُمْ﴾ [النساء: ٥] أيْ مِنها ومُعْظَمِها، وقَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الفَقْعَسِيِّ:
؎نُحابِي بِها أكْفاءَنا ونُهِينُهَـا ونَشْرَبُ في أثْمانِها ونُقامِرُ
أيِ اطْلُبْ بِكُنُوزِكَ أسْبابَ حُصُولِ الثَّوابِ بِالإنْفاقِ مِنها في سَبِيلِ اللَّهِ وما أوْجَبَهُ ورَغَّبَ فِيهِ مِنَ القُرْبانِ ووُجُوهِ البِرِّ.
{"ayah":"۞ إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَیۡهِمۡۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَاۤ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوۤأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُو۟لِی ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَرِحِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق