الباحث القرآني
(p-٩٥)﴿وجاءَ رَجُلٌ مِن أقْصى المَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إنَّ المَلَأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخْرُجْ إنِّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ﴾ ﴿فَخَرَجَ مِنها خائِفًا يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾
ظاهِرُ النَّظْمِ أنَّ الرَّجُلَ جاءَ عَلى حِينِ مُحاوَرَةِ القِبْطِيِّ مَعَ مُوسى، فَلِذَلِكَ انْطَوى أمْرُ مُحاوَرَتِهِما إذْ حَدَثَ في خِلالِهِ ما هو أهَمُّ مِنهُ وأجْدى في القِصَّةِ.
والظّاهِرُ أنَّ أقْصى المَدِينَةِ هو ناحِيَةُ قُصُورِ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ، فَإنَّ عادَةَ المُلُوكِ السُّكْنى في أطْرافِ المُدُنِ تَوَقِّيًا مِنَ الثَّوْراتِ والغاراتِ؛ لِتَكُونَ مَساكِنُهم أسْعَدَ بِخُرُوجِهِمْ عِنْدَ الخَوْفِ. وقَدْ قِيلَ: الأطْرافُ مَنازِلُ الأشْرافِ. وأمّا قَوْلُ أبِي تَمّامٍ:
؎كانَتْ هي الوَسَطَ المَحْمِيَّ فاتَّصَلَتْ بِها الحَوادِثُ حَتّى أصْبَحَتْ طَرَفا
فَذَلِكَ مَعْنًى آخَرُ راجِعٌ إلى انْتِقاصِ العُمْرانِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ﴾ [الأحزاب: ١٣] .
وبِهَذا يَظْهَرُ وجْهُ ذِكْرِ المَكانِ الَّذِي جاءَ مِنهُ الرَّجُلُ، وأنَّ الرَّجُلَ كانَ يَعْرِفُ مُوسى.
والمَلَأُ: الجَماعَةُ أُولُو الشَّأْنِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ”قالَ المَلَأُ مِن قَوْمِهِ“ أيْ نُوحٍ في الأعْرافِ، وأرادَ بِهِمْ أهْلَ دَوْلَةِ فِرْعَوْنَ: فالمَعْنى: أنَّ أُولِي الأمْرِ يَأْتَمِرُونَ بِكَ، أيْ يَتَشاوَرُونَ في قَتْلِكَ. وهَذا يَقْتَضِي أنَّ القَضِيَّةَ رُفِعَتْ إلى فِرْعَوْنَ وفي سِفْرِ الخُرُوجِ في الإصْحاحِ الثّانِي: (فَسَمِعَ فِرْعَوْنُ هَذا الأمْرَ فَطَلَبَ أنْ يُقْتَلَ مُوسى) . ولَمّا عَلِمَ هَذا الرَّجُلُ بِذَلِكَ أسْرَعَ بِالخَبَرِ لِمُوسى؛ لِأنَّهُ كانَ مُعْجَبًا بِمُوسى واسْتِقامَتِهِ. وقَدْ قِيلَ كانَ هَذا الرَّجُلُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ. وقِيلَ: كانَ مِنَ القِبْطِ ولَكِنَّهُ كانَ مُؤْمِنًا يَكْتُمُ إيمانَهُ، لَعَلَّ اللَّهَ ألْهَمَهُ مَعْرِفَةَ فَسادِ الشِّرْكِ بِسَلامَةِ فِطْرَتِهِ وهَيَّأهُ لِإنْقاذِ مُوسى مِن يَدِ فِرْعَوْنَ.
والسَّعْيُ: السَّيْرُ السَّرِيعُ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿فَإذا هي حَيَّةٌ تَسْعى﴾ [طه: ٢٠] في سُورَةِ طه. وتَقَدَّمَ بَيانُ حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ في قَوْلِهِ ﴿ومَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها﴾ [الإسراء: ١٩] في سُورَةِ الإسْراءِ. وجُمْلَةُ ”يَسْعى“ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ”رَجُلٌ“ (p-٩٦)المَوْصُوفِ بِأنَّهُ مِن أقْصى المَدِينَةِ. و”﴿يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾“ يَتَشاوَرُونَ. وضُمِّنَ مَعْنى (يَهُمُّونَ) فَعُدِّيَ بِالباءِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: يَأْتَمِرُونَ ويَهُمُّونَ بِقَتْلِكَ.
وأصْلُ الِائْتِمارِ: قَبُولُ أمْرِ الآمِرِ فَهو مُطاوِعٌ أمْرَهُ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:
؎ويَعْدُو عَلى المَرْءِ ما يَأْتَمِرْ
أيْ يَضُرُّهُ ما يُطِيعُ فِيهِ أمْرَ نَفْسِهِ. ثُمَّ شاعَ إطْلاقُ الِائْتِمارِ عَلى التَّشاوُرِ؛ لِأنَّ المُتَشاوِرِينَ يَأْخُذُ بَعْضُهم أمْرَ بَعْضٍ فَيَأْتَمِرُ بِهِ الجَمِيعُ، قالَ تَعالى ﴿وأْتَمِرُوا بَيْنَكم بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٦] .
وجُمْلَةُ ”قالَ يا مُوسى“ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ”جاءَ رَجُلٌ“؛ لِأنَّ مَجِيئَهُ يَشْتَمِلُ عَلى قَوْلِهِ ذَلِكَ. ومُتَعَلِّقُ الخُرُوجِ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ المَقامِ، أيْ فاخْرُجْ مِنَ المَدِينَةِ. وجُمْلَةُ ﴿إنِّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ﴾ تَعْلِيلٌ لِأمْرِهِ بِالخُرُوجِ. واللّامُ في قَوْلِهِ ﴿لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ﴾ صِلَةٌ؛ لِأنَّ أكْثَرَ ما يُسْتَعْمَلُ فِعْلُ النُّصْحِ مُعَدًّى بِاللّامِ. يُقالُ: نَصَحْتُ لَكَ قالَ تَعالى ﴿إذا نَصَحُوا لِلَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [التوبة: ٩١] في سُورَةِ التَّوْبَةِ، ووَهَمًا قالُوا: نَصَحْتُكَ. وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ لِلرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ.
والتَّرَقُّبُ: حَقِيقَتُهُ الِانْتِظارُ، وهو مُشْتَقٌّ مِن رَقَبَ إذا نَظَرَ أحْوالَ شَيْءٍ. ومِنهُ سُمِّيَ المَكانُ المُرْتَفِعُ: مَرْقَبَةً ومُرْتَقَبًا، وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِلْحَذَرِ.
وجُمْلَةُ ”﴿قالَ رَبِّ نَجَنِّي﴾“ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ ”يَتَرَقَّبُ“؛ لِأنَّ تَرَقُّبَهُ يَشْتَمِلُ عَلى الدُّعاءِ إلى اللَّهِ بِأنْ يُنَجِّيَهُ.
والقَوْمُ الظّالِمُونَ هم قَوْمُ فِرْعَوْنَ. ووَصَفَهم بِالظُّلْمِ؛ لِأنَّهم مُشْرِكُونَ ولِأنَّهم رامُوا قَتْلَهُ قِصاصًا عَنْ قَتْلٍ خَطَأٍ، وذَلِكَ ظُلْمٌ؛ لِأنَّ الخَطَأ في القَتْلِ لا يَقْتَضِي الجَزاءَ بِالقَتْلِ في نَظَرِ العَقْلِ والشَّرْعِ.
ومَحَلُّ العِبْرَةِ مِن قِصَّةِ مُوسى مَعَ القِبْطِيِّ وخُرُوجِهِ مِنَ المَدِينَةِ مِن قَوْلِهِ ”ولَمّا بَلَغَ أشُدَّهُ“ إلى هُنا هو أنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ، وأنَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالاتِهِ، وأنَّهُ إذا تَعَلَّقَتْ إرادَتُهُ بِشَيْءٍ هَيَّأ لَهُ أسْبابَهُ بِقُدْرَتِهِ فَأبْرَزَهُ عَلى أتْقَنِ (p-٩٧)تَدْبِيرٍ، وأنَّ النّاظِرَ البَصِيرَ في آثارِ ذَلِكَ التَّدْبِيرِ يَقْتَبِسُ مِنها دَلالَةً عَلى صِدْقِ الرَّسُولِ في دَعْوَتِهِ كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكم عُمُرًا مِن قَبْلِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ١٦] . وإنَّ أوْضَحَ تِلْكَ المَظاهِرِ اسْتِقامَةُ السِّيرَةِ ومَحَبَّةُ الحَقِّ، وأنَّ دَلِيلَ عِنايَةِ اللَّهِ بِمَنِ اصْطَفاهُ لِذَلِكَ هو نَصْرُهُ عَلى أعْدائِهِ ونَجاتُهُ مِمّا لَهُ مَنِ المَكائِدِ. وفي ذَلِكَ كُلِّهِ مَثَلٌ لِلْمُشْرِكِينَ لَوْ نَظَرُوا في حالِ مُحَمَّدٍ ﷺ في ذاتِهِ وفي حالِهِمْ مَعَهُ. ثُمَّ إنَّ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ المَلَأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ الآيَةَ إيماءً إلى أنَّ رَسُولَهُ ﷺ سَيَخْرُجُ مِن مَكَّةَ وأنَّ اللَّهَ مُنْجِيهِ مِن ظالِمِيهِ.
{"ayahs_start":20,"ayahs":["وَجَاۤءَ رَجُلࣱ مِّنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِینَةِ یَسۡعَىٰ قَالَ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّ ٱلۡمَلَأَ یَأۡتَمِرُونَ بِكَ لِیَقۡتُلُوكَ فَٱخۡرُجۡ إِنِّی لَكَ مِنَ ٱلنَّـٰصِحِینَ","فَخَرَجَ مِنۡهَا خَاۤىِٕفࣰا یَتَرَقَّبُۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِی مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ"],"ayah":"فَخَرَجَ مِنۡهَا خَاۤىِٕفࣰا یَتَرَقَّبُۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِی مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق