الباحث القرآني
(p-٨٥)﴿فَرَدَدْناهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ولا تَحْزَنَ ولِتَعْلَمَ أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾
تَقَدَّمَ نَظِيرُ قَوْلِهِ ﴿فَرَدَدْناهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ولا تَحْزَنَ﴾ في سُورَةِ طه. وقَوْلُهُ ”ولِتَعْلَمَ أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ“ فَإنَّما تَأْكِيدُ حَرْفِ كَيْ بِمُرادِفِهِ وهو لامُ التَّعْلِيلِ لِلتَّنْصِيصِ مِن أوَّلِ وهْلَةٍ عَلى أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى الفِعْلِ المُثْبَتِ لا عَلى الفِعْلِ المَنفِيِّ.
وضَمِيرُ ”أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ“ عائِدٌ إلى النّاسِ المَفْهُومُ مِنَ المَقامِ أوْ إلى رَعِيَّةِ فِرْعَوْنَ، ومِنَ النّاسِ بَنُو إسْرائِيلَ.
والِاسْتِدْراكُ ناشِئٌ عَنْ نَصْبِ الدَّلِيلِ لَها عَلى أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، أيْ فَعَلِمَتْ ذَلِكَ وحْدَها وأكْثَرُ القَوْمِ لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؛ لِأنَّهم بَيْنَ مُشْرِكِينَ وبَيْنَ مُؤْمِنِينَ، تَقادَمَ العَهْدُ عَلى إيمانِهِمْ، وخَلَتْ أقْوامُهم مِن عُلَماءَ يُلَقِّنُونَهم مَعانِيَ الدِّينِ، فَأصْبَحَ إيمانُهم قَرِيبًا مِنَ الكُفْرِ.
ومَوْضِعُ العِبْرَةِ مِن هَذِهِ القِصَّةِ أنَّها تَتَضَمَّنُ أُمُورًا ذاتَ شَأْنٍ فِيها ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ومَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ.
فَأوَّلُ ذَلِكَ وأعْظَمُهُ: إظْهارُ أنَّ ما عَلِمَهُ اللَّهُ وقَدَّرَهُ هو كائِنٌ لا مَحالَةَ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿ونُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرْضِ﴾ [القصص: ٥] إلى قَوْلِهِ ”يَحْذَرُونَ“ وأنَّ الحَذَرَ لا يُنَجِّي مِنَ القَدَرِ.
وثانِيهِ: إظْهارُ أنَّ العُلُوَّ الحَقَّ لِلَّهِ تَعالى ولِلْمُؤْمِنِينَ، وأنَّ عُلُوَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا في دَفْعِ عَواقِبِ الجَبَرُوتِ والفَسادِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عِبْرَةً لِجَبابِرَةِ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ.
وثالِثُهُ: أنَّ تَمْهِيدَ القِصَّةِ بِعُلُوِّ فِرْعَوْنَ وفَسادِ أعْمالِهِ مُشِيرٌ إلى أنَّ ذَلِكَ هو سَبَبُ الِانْتِقامِ مِنهُ، والأخْذُ بِناصِرِ المُسْتَضْعَفِينَ لِيَحْذَرَ الجَبابِرَةُ سُوءَ عاقِبَةِ ظُلْمِهِمْ، ولِيَرْجُوَ الصّابِرُونَ عَلى الظُّلْمِ أنْ تَكُونَ العاقِبَةُ لَهم.
ورابِعُهُ: الإشارَةُ إلى حِكْمَةِ ﴿وعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] في (p-٨٦)جانِبِ بَنِي إسْرائِيلَ ﴿وعَسى أنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وهو شَرٌّ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] في جانِبِ فِرْعَوْنَ إذْ كانُوا فَرِحِينَ بِاسْتِخْدامِ بَنِي إسْرائِيلَ وتَدْبِيرِ قَطْعِ نَسْلِهِمْ.
وخامِسُهُ: أنَّ إصابَةَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بَغْتَةً مِن قِبَلِ مَن أمَّلُوا مِنهُ النَّفْعَ أشَدُّ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِ وأوْقَعُ حَسْرَةً عَلى المُسْتَبْصِرِ، وأدُلُّ عَلى أنَّ انْتِقامَ اللَّهِ يَكُونُ أعْظَمَ مِنِ انْتِقامِ العَدُوِّ كَما قالَ ﴿فالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهم عَدُوًّا وحَزَنًا﴾ [القصص: ٨] مَعَ قَوْلِهِ ﴿عَسى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتَّخِذَهُ ولَدًا﴾ [القصص: ٩] .
وسادِسُهُ: أنَّهُ لا يَجُوزُ بِحُكْمِ التَّعَقُّلِ أنْ تُسْتَأْصَلَ أُمَّةٌ كامِلَةٌ لِتَوَقُّعِ مُفْسِدٍ فِيها لِعَدَمِ التَّوازُنِ بَيْنَ المَفْسَدَتَيْنِ، ولِأنَّ الإحاطَةَ بِأفْرادِ أُمَّةٍ كامِلَةٍ مُتَعَذِّرَةٌ فَلا يَكُونُ المُتَوَقَّعُ فَسادُهُ إلّا في الجانِبِ المَغْفُولِ عَنْهُ مِنَ الأفْرادِ فَتَحْصُلُ مَفْسَدَتانِ هُما أخْذُ البَرِيءِ وانْفِلاتُ المُجْرِمِ.
وسابِعُهُ: تَعْلِيمُ أنَّ اللَّهَ بالِغٌ أمْرَهُ بِتَهْيِئَةِ الأسْبابِ المُفْضِيَةِ إلَيْهِ، ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَأهْلَكَ فِرْعَوْنَ ومَن مَعَهُ بِحادِثٍ سَماوِيٍّ ولَما قَدَّرَ لِإهْلاكِهِمْ هَذِهِ الصُّورَةَ المُرَتَّبَةَ، ولَأنْجى مُوسى وبَنِي إسْرائِيلَ إنْجاءً أسْرَعَ ولَكِنَّهُ أرادَ أنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِمُشاهَدَةِ تَنَقُّلاتِ الأحْوالِ ابْتِداءً مِن إلْقاءِ مُوسى في اليَمِّ إلى أنْ رَدَّهُ إلى أُمِّهِ فَتَكُونُ في ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ﴿قالُوا اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢] ولِيَتَوَسَّمُوا مِن بِوارِقِ ظُهُورِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ ﷺ وانْتِقالِ أحْوالِ دَعْوَتِهِ في مَدارِجِ القُوَّةِ أنَّ ما وعَدَهم بِهِ واقِعٌ بِأخَرَةٍ.
وثامِنُهُ: العِبْرَةُ بِأنَّ وُجُودَ الصّالِحِينَ مِن بَيْنِ المُفْسِدِينَ يُخَفِّفُ مِن لَأْواءِ فَسادِ المُفْسِدِينَ، فَإنَّ وُجُودَ امْرَأةِ فِرْعَوْنَ كانَ سَبَبًا في صَدِّ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِ الطِّفْلِ مَعَ أنَّهُ تَحَقَّقَ أنَّهُ إسْرائِيلِيٌّ، فَقالَتِ امْرَأتُهُ: ﴿لا تَقْتُلُوهُ عَسى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتَّخِذَهُ ولَدًا﴾ [القصص: ٩] كَما قَدَّمْنا تَفْسِيرَهُ.
وتاسِعُهُ: ما في قَوْلِهِ ”﴿ولِتَعْلَمَ أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾“ مِنَ الإيماءِ إلى تَذْكِيرِ المُؤْمِنِينَ بِأنَّ نَصْرَهم حاصِلٌ بَعْدَ حِينٍ، ووَعِيدِ المُشْرِكِينَ بِأنَّ وعِيدَهم لا مَفَرَّ لَهم مِنهُ.
وعاشِرُهُ: ما في قَوْلِهِ ”﴿ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾“ مِنَ الإشارَةِ إلى أنَّ المَرْءَ يُؤْتى مِن جَهْلِهِ النَّظَرَ في أدِلَّةِ العَقْلِ.
(p-٨٧)ولِما في هَذِهِ القِصَّةِ مِنَ العِبَرِ اكْتَفى مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِطالِعِها عَنِ الخُطْبَةِ الَّتِي حَقُّهُ أنْ يَخْطُبَ بِها في النّاسِ حِينَ حُلُولِهِ بِالعِراقِ مِن قِبَلِ أخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مُكْتَفِيًا بِالإشارَةِ مَعَ التِّلاوَةِ فَقالَ ﴿طسم﴾ [القصص: ١] ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ﴾ [القصص: ٢] ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَبَإ مُوسى وفِرْعَوْنَ بِالحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ٣] ﴿إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الأرْضِ﴾ [القصص: ٤] وأشارَ إلى جِهَةِ الشّامِ يُرِيدُ عَبْدَ المَلِكِ بْنَ مَرْوانَ، ﴿وجَعَلَ أهْلَها شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنهم يُذَبِّحُ أبْناءَهم ويَسْتَحْيِي نِساءَهم إنَّهُ كانَ مِنَ المُفْسِدِينَ﴾ [القصص: ٤] ﴿ونُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرْضِ﴾ [القصص: ٥] وأشارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الحِجازِ، يَعْنِي أخاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وأنْصارَهُ، (﴿ونَجْعَلَهم أيِمَّةً ونَجْعَلَهُمُ الوارِثِينَ﴾ [القصص: ٥] ﴿ونُمَكِّنَ لَهم في الأرْضِ ونُرِيَ فِرْعَوْنَ وهامانَ وجُنُودَهُما﴾ [القصص: ٦]) وأشارَ إلى العِراقِ يَعْنِي الحَجّاجَ ﴿مِنهم ما كانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: ٦] .
{"ayah":"فَرَدَدۡنَـٰهُ إِلَىٰۤ أُمِّهِۦ كَیۡ تَقَرَّ عَیۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَ وَلِتَعۡلَمَ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق