الباحث القرآني
﴿أمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وأنْزَلَ لَكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكم أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هم قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾
أمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنى بَلْ لِلْإضْرابِ الِانْتِقالِيِّ مِن غَرَضٍ إلى غَرَضٍ مَعَ مُراعاةِ وُجُودِ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ أوْ لَفْظِهِ بَعْدَها؛ لِأنَّ أمْ لا تُفارِقُ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ. انْتَقَلَ بِهَذا الإضْرابِ مِنَ الِاسْتِفْهامِ الحَقِيقِيِّ التَّهَكُّمِيِّ إلى الِاسْتِفْهامِ التَّقْرِيرِيِّ، ومِنَ المُقَدِّمَةِ الإجْمالِيَّةِ وهي قَوْلُهُ ”﴿آللَّهُ خَيْرٌ أمْ ما تُشْرِكُونَ﴾ [النمل: ٥٩]“، إلى الغَرَضِ المَقْصُودِ وهو الِاسْتِدْلالُ. عَدَّدَ اللَّهُ الخَيْراتِ والمَنافِعَ مِن آثارِ رَحْمَتِهِ ومِن آثارِ قُدْرَتِهِ. فَهو اسْتِدْلالٌ مَشُوبٌ بِامْتِنانٍ؛ لِأنَّهُ ذَكَّرَهم بِخَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ فَشَمِلَ ذَلِكَ كُلَّ الخَلائِقِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَيْها الأرْضُ مِنَ النّاسِ والعَجْماواتِ، فَهو امْتِنانٌ بِنِعْمَةِ إيجادِهِمْ وإيجادِ ما بِهِ قِوامُ شُئُونِهِمْ في الحَياةِ، وبِسابِقِ رَحْمَتِهِ، كَما عَدَّدَها في مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكم ثُمَّ رَزَقَكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكم هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَفْعَلُ مِن ذَلِكم مِن شَيْءٍ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: ٤٠] .
و”مَن“ لِلِاسْتِفْهامِ. وهي مُبْتَدَأٌ والخَبَرُ جُمْلَةٌ خَلَقَ السَّماواتِ إلَخْ وهو اسْتِفْهامٌ تَقْرِيرِيٌّ عَلى أنَّ اللَّهَ إلَهٌ واحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ، ولا تَقْدِيرَ في الكَلامِ. وذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وجَمِيعُ مُتابِعِيهِ إلى أنَّ ”مَن“ مَوْصُولَةٌ وأنَّ خَبَرَها مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِيما تَقَدَّمَ ”آللَّهُ خَيْرٌ“ وأنَّ بَعْدَ ”أمْ“ هَمْزَةَ اسْتِفْهامٍ مَحْذُوفَةً، والتَّقْدِيرُ: بَلْ أمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ إلَخْ خَيْرٌ أمْ ما تُشْرِكُونَ. وهو تَفْسِيرٌ لا داعِيَ إلَيْهِ ولا يُناسِبُ مَعْنى الإضْرابِ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ في جُمْلَةِ الغَرَضِ الأوَّلِ عَلى ما فَسَّرَ بِهِ في الكَشّافِ فَلا يَجْدُرُ بِهِ إضْرابُ الِانْتِقالِ.
فالِاسْتِفْهامُ تَقْرِيرٌ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ في نِهايَتِهِ في أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ فَهو تَقْرِيرٌ (p-١١)لِإثْباتِ أنَّ الخالِقَ والمُنْبِتَ والرّازِقَ هو اللَّهُ، وهو مَشُوبٌ بِتَوْبِيخٍ، فَلِذَلِكَ ذَيَّلَ بِقَوْلِهِ بَلْ هم قَوْمٌ يَعْدِلُونَ كَما سَيَأْتِي، أيْ مِن غَرَضِ الدَّلِيلِ الإجْمالِيِّ إلى التَّفْصِيلِ.
والخِطابُ بِـ ”لَكم“ مُوَجَّهٌ إلى المُشْرِكِينَ لِلتَّعْوِيضِ بِأنَّهم ما شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ.
وذَكَرَ إنْزالَ الماءِ؛ لِأنَّهُ مِن جُمْلَةِ ما خَلَقَهُ اللَّهُ، ولِقَطْعِ شُبْهَةِ أنْ يَقُولُوا: إنَّ المُنْبِتَ لِلشَّجَرِ الَّذِي فِيهِ رِزْقُنا هو الماءُ، اغْتِرارًا بِالسَّبَبِ فَبُودِرُوا بِالتَّذْكِيرِ بِأنَّ اللَّهَ خَلَقَ الأسْبابَ وهو الأسْبابُ وهو خالِقُ المُسَبَّباتِ بِإزالَةِ المَوانِعِ والعَوارِضِ العارِضَةِ لِتَأْثِيرِ الأسْبابِ وبِتَوْفِيرِ القُوى الحاصِلَةِ في الأسْبابِ، وتَقْدِيرِ المَقادِيرِ المُناسِبَةِ لِلِانْتِفاعِ بِالأسْبابِ، فَقَدْ يُنْزِلُ الماءَ بِإفْراطٍ فَيَجْرُفُ الزَّرْعَ والشَّجَرَ أوْ يَقْتُلُهُما، ولِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ ”وأنْزَلَنا“ وقَوْلِهِ ”فَأنْبَتْنا“ تَنْبِيهًا عَلى إزالَةِ الشُّبْهَةِ.
ونُونُ الجَمْعِ في ”أنْبَتْنا“ التِفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الحُضُورِ. ومِن لَطائِفِهِ هُنا التَّنْصِيصُ عَلى أنَّ المَقْصُودَ إسْنادُ الإنْباتِ إلَيْهِ لِئَلّا يَنْصَرِفَ ضَمِيرُ الغائِبِ إلى الماءِ؛ لِأنَّ التَّذْكِيرَ بِالمُنْبِتِ الحَقِيقِيِّ الَّذِي خَلَقَ الأسْبابَ ألْيَقُ بِمَقامِ التَّوْبِيخِ عَلى عَدَمِ رِعايَتِهِمْ نِعَمَهُ.
والإنْباتُ: تَكْوِينُ النَّباتِ.
والحَدائِقُ: جَمْعُ حَدِيقَةٍ وهي البُسْتانُ والجَنَّةُ الَّتِي فِيها نَخْلٌ وعِنَبٌ. سُمِّيَتْ حَدِيقَةً؛ لِأنَّهم كانُوا يُحْدِقُونَ بِها حائِطًا يَمْنَعُ الدّاخِلَ إلَيْها صَوْنًا لِلْعِنَبِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ كالنَّخْلِ الَّذِي يَعْسُرُ اجْتِناءُ ثَمَرِهِ لِارْتِفاعِ شَجَرِهِ فَهي بِمَعْنى: مُحْدَقٌ بِها. ولا تُطْلَقُ الحَدِيقَةُ إلّا عَلى ذَلِكَ.
والبَهْجَةُ: حُسْنُ المَنظَرِ؛ لِأنَّ النّاظِرَ يَبْتَهِجُ بِهِ.
ومَعْنى ما كانَ لَكم أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها لَيْسَ في مُلْكِكم أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَ تِلْكَ الحَدائِقِ، فاللّامُ في لَكم لِلْمِلْكِ و”أنْ تُنْبِتُوا“ اسْمُ كانَ و”لَكم“ خَبَرُها. وقَدَّمَ الخَبَرَ عَلى الِاسْمِ لِلِاهْتِمامِ بِنَفْيِ مِلْكِ ذَلِكَ.
وجُمْلَةُ أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ اسْتِئْنافٌ هو كالنَّتِيجَةِ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَها؛ لِأنَّ إثْباتَ الخَلْقِ (p-١٢)والرِّزْقِ والإنْعامِ لِلَّهِ تَعالى بِدَلِيلٍ لا يَسَعُهم إلّا الإقْرارُ بِهِ يَنْتِجُ أنَّهُ لا إلَهَ مَعَهُ.
والِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ. و(بَلْ) لِلْإضْرابِ عَنِ الِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ تُفِيدُ مَعْنى (لَكِنَّ) بِاعْتِبارِ ما تَضَمَّنَهُ الإنْكارُ مِنِ انْتِفاءِ أنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهٌ فَكانَ حَقُّ النّاسِ أنْ لا يُشْرِكُوا مَعَهُ في الإلَهِيَّةِ غَيْرَهُ فَجِيءَ بِالِاسْتِدْراكِ؛ لِأنَّ المُخاطَبِينَ بِقَوْلِهِ وأنْزَلَ لَكم وقَوْلُهُ: ما كانَ لَكم أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالدَّلِيلِ مَعَ أنَّهُ دَلِيلٌ ظاهِرٌ مَكْشُوفٌ، فَهم مُكابِرُونَ في إعْراضِهِمْ عَنِ الِاهْتِداءِ بِهَذا الدَّلِيلِ، فَهم يَعْدِلُونَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، أيْ يَجْعَلُونَ غَيْرَهُ عَدِيلًا مَثِيلًا لَهُ في الإلَهِيَّةِ مَعَ أنَّ غَيْرَهُ عاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ يَعْدِلُونَ مِن عَدَلَ الَّذِي يَتَعَدّى بِالباءِ، أوْ يَعْدِلُونَ عَنِ الحَقِّ مَن عَدَلَ الَّذِي يُعَدّى بِـ (عَنْ) .
وسُئِلَ بَعْضُ العَرَبِ عَنِ الحَجّاجِ فَقالَ: قاسِطٌ عادِلٌ، فَظَنُّوهُ أثْنى عَلَيْهِ فَبَلَغَتْ كَلِمَتُهُ لِلْحَجّاجِ، فَقالَ: أرادَ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وأمّا القاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ [الجن: ١٥] أيْ وذَلِكَ قَرِينَةٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِـ (عادِلٌ) أنَّهُ عادِلٌ عَنِ الحَقِّ.
وأيًّا ما كانَ فالمَقْصُودُ تَوْبِيخُهم عَلى الإشْراكِ مَعَ وُضُوحِ دَلالِيَّةِ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ وما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ مِنَ الماءِ.
ولَمّا كانَتْ تِلْكَ الدَّلالَةُ أوْضَحَ الدَّلالاتِ المَحْسُوسَةِ الدّالَّةِ عَلى انْفِرادِ اللَّهِ بِالخَلْقِ وصَفَ الَّذِينَ أشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ بِأنَّهم في إشْراكِهِمْ مُعْرِضُونَ إعْراضَ مُكابَرَةٍ عُدُولًا عَنِ الحَقِّ الواضِحِ قالَ تَعالى: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: ٢٥] والإخْبارُ عَنْهم بِالمُضارِعِ لِإفادَةِ أنَّهم مُسْتَمِرُّونَ عَلى شِرْكِهِمْ لَمْ يَسْتَنِيرُوا بِدَلِيلِ العَقْلِ ولا أقْلَعُوا بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِالدَّلائِلِ. وفي الإخْبارِ عَنْهم بِأنَّهم قَوْمٌ إيماءٌ إلى تَمَكُّنِ صِفَةِ العُدُولِ عَنِ الحَقِّ مِنهم حَتّى كَأنَّها مِن مُقَوِّماتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَما تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
{"ayah":"أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَاۤىِٕقَ ذَاتَ بَهۡجَةࣲ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُوا۟ شَجَرَهَاۤۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمࣱ یَعۡدِلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











