الباحث القرآني
﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِلْغاوِينَ﴾ ﴿وقِيلَ لَهم أيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ﴾ ﴿مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكم أوْ يَنْتَصِرُونَ﴾ ﴿فَكُبْكِبُوا فِيها هم والغاوُونَ﴾ ﴿وجُنُودُ إبْلِيسَ أجْمَعُونَ﴾ .
الظّاهِرُ أنَّ الواوَ في قَوْلِهِ: (﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾) واوُ الحالِ، والعامِلُ فِيها (لا يَنْفَعُ مالٌ)، أيْ: يَوْمَ عَدَمِ نَفْعِ مَن عَدا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وقَدْ أُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. والخُرُوجُ إلى تَصْوِيرِ هَذِهِ الأحْوالِ شَيْءٌ اقْتَضاهُ مَقامُ الدَّعْوَةِ إلى الإيمانِ بِالرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ؛ لِأنَّهُ ابْتَدَأ الدَّعْوَةَ بِإلْقاءِ السُّؤالِ عَلى قَوْمِهِ فِيما يَعْبُدُونَ إيقاظًا لِبَصائِرِهِمْ، ثُمَّ أعْقَبَ ذَلِكَ بِإبْطالِ إلَهِيَّةِ أصْنامِهِمْ. والِاسْتِدْلالِ عَلى عَدَمِ اسْتِئْهالِها الإلَهِيَّةَ بِدَلِيلِ التَّأمُّلِ، وهو أنَّها فاقِدَةٌ السَّمْعَ والبَصَرَ وعاجِزَةٌ عَنِ النَّفْعِ والضُّرِّ، ثُمَّ طالَ دَلِيلُ التَّقْلِيدِ الَّذِي نَحا إلَيْهِ قَوْمُهُ لَمّا عَجَزُوا عَنْ تَأْيِيدِ دِينِهِمْ بِالنَّظَرِ.
فَلَمّا نَهَضَتِ الحُجَّةُ عَلى بُطْلانِ إلَهِيَّةِ أصْنامِهِمُ انْتَصَبَ لِبَيانِ الإلَهِ الحَقِّ رَبِّ العالَمِينَ، الَّذِي لَهُ صِفاتُ التَّصَرُّفِ في الأجْسامِ والأرْواحِ، تَصَرُّفَ المُنْعِمِ المُتَوَحِّدِ بِشَتّى التَّصَرُّفِ إلى أنْ يَأْتِيَ تَصَرُّفُهُ بِالإحْياءِ المُؤَبَّدِ وأنَّهُ الَّذِي نَطْمَعُ في تَجاوُزِهِ عَنْهُ يَوْمَ البَعْثِ فَلْيَعْلَمُوا أنَّهم إنِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ عَمّا سَلَفَ مِنهم مِن كُفْرٍ فَإنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهم، وأنَّهم إنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنِ الشِّرْكِ لا يَنْفَعُهم شَيْءٌ يَوْمَ البَعْثِ، ثُمَّ صَوَّرَ لَهم عاقِبَةَ حالَيِ التَّقْوى والغَوايَةِ بِذِكْرِ دارِ إجْزاءِ الخَيْرِ ودارِ إجْزاءِ الشَّرِّ.
ولَمّا كانَ قَوْمُهُ مُسْتَمِرِّينَ عَلى الشِّرْكِ ولَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ أحَدٌ مُؤْمِنًا غَيْرُهُ وغَيْرُ زَوْجِهِ (p-١٥١)وغَيْرُ لُوطٍ ابْنِ أخِيهِ كانَ المَقامُ بِذِكْرِ التَّرْهِيبِ أجْدَرَ، فَلِذَلِكَ أطْنَبَ في وصْفِ حالِ الضّالِّينَ يَوْمَ البَعْثِ وسُوءِ مَصِيرِهِمْ حَيْثُ يَنْدَمُونَ عَلى ما فَرَّطُوا في الدُّنْيا مِنَ الإيمانِ والطّاعَةِ ويَتَمَنَّوْنَ أنْ يَعُودُوا إلى الدُّنْيا لِيَتَدارَكُوا الإيمانَ ولاتَ ساعَةَ مَندَمٍ.
والإزْلافُ: التَّقْرِيبُ. وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿وأزْلَفْنا ثَمَّ الآخَرِينَ﴾ [الشعراء: ٦٤] في هَذِهِ السُّورَةِ. والمَعْنى: أنَّ المُتَّقِينَ يَجِدُونَ الجَنَّةَ حاضِرَةً فَلا يَتَجَشَّمُونَ مَشَقَّةَ السَّوْقِ إلَيْها.
واللّامُ في (لِلْمُتَّقِينَ) لامُ التَّعْدِيَةِ.
(وبُرِّزَتْ) مُبالَغَةٌ في أُبْرِزَتْ؛ لِأنَّ التَّضْعِيفَ فِيهِ مُبالَغَةٌ لَيْسَتْ في التَّعْدِيَةِ بِالهَمْزَةِ، ونَظِيرُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرى﴾ [النازعات: ٣٦] في سُورَةِ النّازِعاتِ. والمُرادُ بِ (الغاوِينَ) المَوْصُوفُونَ بِالغِوايَةِ، أيْ: ضَلالُ الرَّأْيِ.
وذِكْرُ ما يُقالُ لِلْغاوِينَ لِلْإنْحاءِ عَلَيْهِمْ وإظْهارِ حَقارَةِ أصْنامِهِمْ، فَقِيلَ لَهم: ﴿أيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ﴾ وفي الِاقْتِصارِ عَلى ذِكْرِ هَذا دُونَ غَيْرِهِ مِمّا يُخاطَبُونَ بِهِ يَوْمَئِذٍ مُناسَبَةٌ لِمَقامِ طَلَبِ الإقْلاعِ عَنْ عِبادَةِ تِلْكَ الأصْنامِ.
وأُسْنِدَ فِعْلُ القَوْلِ إلى غَيْرِ مَعْلُومٍ؛ لِأنَّ الغَرَضَ تَعَلَّقَ بِمَعْرِفَةِ القَوْلِ لا بِمَعْرِفَةِ القائِلِ، فالقائِلُ المَلائِكَةُ بِإذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ المُشْرِكِينَ أحْقَرُ مِن أنْ يُوَجِّهَ اللَّهُ إلَيْهِمْ خِطابَهُ مُباشَرَةً.
والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ: (﴿أيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ﴾) اسْتِفْهامٌ عَنْ تَعْيِينِ مَكانِ الأصْنامِ إنْ لَمْ تَكُنْ حاضِرَةً، أوْ عَنْ عَمَلِها إنْ كانَتْ حاضِرَةً في ذَلِكَ المَوْقِفِ؛ تَنْزِيلًا لِعَدَمِ جَدْواها فِيما كانُوا يَأْمُلُونَهُ مِنها مَنزِلَةَ العَدَمِ تَهَكُّمًا وتَوْبِيخًا وتَوْقِيفًا عَلى الخَطَأِ.
والِاسْتِفْهامُ في (﴿هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ﴾) كَذَلِكَ مَعَ الإنْكارِ أنْ تَكُونَ الأصْنامُ نُصَراءَ. والِانْتِصارُ طَلَبُ النَّصِيرِ.
وكُتِبَ (أيْنَما) في المَصاحِفِ مَوْصُولَةً نُونَ (أيْنَ) بِمِيمِ (ما) والمُتَعارَفُ في الرَّسْمِ القِياسِيِّ أنَّ مِثْلَهُ يُكْتَبُ مَفْصُولًا؛ لِأنَّ (ما) هُنا اسْمٌ مَوْصُولٌ ولَيْسَتِ المَزِيدَةَ (p-١٥٢)بَعْدَ (أيْنَ) الَّتِي تَصِيرُ (أيْنَ) بِزِيادَتِها اسْمَ شَرْطٍ لِعُمُومِ الأمْكِنَةِ، ورَسْمُ المُصْحَفِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ.
و(أوْ) لِلتَّخْيِيرِ في التَّوْبِيخِ والتَّخْطِئَةِ، أيْ: هَلْ أخْطَأْتُمْ في رَجاءِ نَصْرِها إيّاكم، أوْ في الأقَلِّ هَلْ تَسْتَطِيعُ نَصْرَ أنْفُسِها وذَلِكَ حِينَ يُلْقى بِالأصْنامِ في النّارِ بِمَرْأًى مِن عَبَدَتِها ولِذَلِكَ قالَ: (﴿فَكُبْكِبُوا فِيها﴾)، أيْ: كُبْكِبَتِ الأصْنامُ في جَهَنَّمَ.
ومَعْنى (كُبْكِبُوا) كُبُّوا فِيها كَبًّا بَعْدَ كَبٍّ فَإنَّ (كُبْكِبُوا) مُضاعَفُ كُبُّوا بِالتَّكْرِيرِ وتَكْرِيرُ اللَّفْظِ مُفِيدٌ تَكْرِيرَ المَعْنى مِثْلُ: كَفْكَفَ الدَّمْعَ، ونَظِيرُهُ في الأسْماءِ: جَيْشٌ لَمْلَمٌ، أيْ: كَثِيرٌ، مُبالَغَةٌ في اللَّمِّ؛ وذَلِكَ؛ لِأنَّ لَهُ فِعْلًا مُرادِفًا لَهُ مُشْتَمِلًا عَلى حُرُوفِهِ ولا تَضْعِيفَ فِيهِ مَكانَ التَّضْعِيفِ في مُرادِفِهِ لِأجْلِ الدَّلالَةِ عَلى الزِّيادَةِ في مَعْنى الفِعْلِ.
وضَمائِرُ (يَنْصُرُكم ويَنْتَصِرُونَ وكُبْكِبُوا) عائِدٌ إلى (ما تَعْبُدُونَ) بِتَنْزِيلِها مَنزِلَةَ العُقَلاءِ. وجُنُودُ إبْلِيسَ: وهم أوْلِياؤُهُ وأصْنافُ أهْلِ الضَّلالاتِ الَّتِي هي مِن وسْوَسَةِ إبْلِيسَ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى إبْلِيسَ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
{"ayahs_start":90,"ayahs":["وَأُزۡلِفَتِ ٱلۡجَنَّةُ لِلۡمُتَّقِینَ","وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِیمُ لِلۡغَاوِینَ","وَقِیلَ لَهُمۡ أَیۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡبُدُونَ","مِن دُونِ ٱللَّهِ هَلۡ یَنصُرُونَكُمۡ أَوۡ یَنتَصِرُونَ","فَكُبۡكِبُوا۟ فِیهَا هُمۡ وَٱلۡغَاوُۥنَ","وَجُنُودُ إِبۡلِیسَ أَجۡمَعُونَ"],"ayah":"وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِیمُ لِلۡغَاوِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق