الباحث القرآني
﴿أوْ لَمْ يَرَوْا إلى الأرْضِ كَمْ أنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾
الواوُ عاطِفَةٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿وما يَأْتِيهِمْ مِن ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إلّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ [الشعراء: ٥])، فالهَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِيَّةُ مِنهُ مُقَدَّمَةٌ عَلى واوِ العَطْفِ لَفْظًا؛ لِأنَّ لِلِاسْتِفْهامِ الصَّدارَةَ، والمَقْصُودُ مِنهُ إقامَةُ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم لا تُغْنِي فِيهِمُ الآياتُ؛ لِأنَّ المُكابَرَةَ تَصْرِفُهم عَنِ التَّأمُّلِ في الآياتِ، والآياتُ عَلى صِحَّةِ ما يَدْعُوهم إلَيْهِ القُرْآنُ مِنَ التَّوْحِيدِ والإيمانِ بِالبَعْثِ قائِمَةٌ مُتَظاهِرَةٌ في السَّماواتِ والأرْضِ وهم قَدْ عَمُوا عَنْها فَأشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَلا عَجَبَ أنْ يَضِلُّوا عَنْ آياتِ صِدْقِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، وكَوْنُ القُرْآنِ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ فَلَوْ كانَ هَؤُلاءِ مُتَطَلِّعِينَ إلى الحَقِّ باحِثِينَ عَنْهُ لَكانَ لَهم في الآياتِ الَّتِي ذُكِّرُوا بِها مَقْنَعٌ لَهم عَنِ الآياتِ الَّتِي يَقْتَرِحُونَها قالَ تَعالى: (﴿أوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الأعراف: ١٨٥] ﴿وما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ١٠١]) أيْ: عَنْ قَوْمٍ لَمْ يُعِدُّوا أنْفُسَهم لِلْإيمانِ
فالمَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ أنْواعُ النَّباتِ دالَّةٌ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ؛ لِأنَّ هَذا الصُّنْعَ الحَكِيمَ لا يَصْدُرُ إلّا عَنْ واحِدٍ لا شَرِيكَ لَهُ، وهَذا دَلِيلٌ مِن طَرِيقِ العَقْلِ، ودَلِيلٌ أيْضًا عَلى إمْكانِ البَعْثِ؛ لِأنَّ الإنْباتَ بَعْدَ الجَفافِ مَثِيلٌ لِإحْياءِ الأمْواتِ بَعْدَ رُفاتِهِمْ كَما قالَ تَعالى: (﴿وآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ المَيْتَةُ أحْيَيْناها﴾ [يس: ٣٣]) وهَذا دَلِيلٌ تَقْرِيبِيٌّ (p-١٠١)لِلْإمْكانِ فَكانَ في آيَةِ الإنْباتِ تَنْبِيهٌ عَلى إبْطالِ أصْلَيْ عَدَمِ إيمانِهِمْ وهَما: أصْلُ الإشْراكِ بِاللَّهِ، وأصْلُ إنْكارِ البَعْثِ
والِاسْتِفْهامُ إنْكارٌ عَلى عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ ذَلِكَ؛ لِأنَّ دَلالَةَ الإنْباتِ عَلى الصّانِعِ الواحِدِ دَلالَةٌ بَيِّنَةٌ لِكُلِّ مَن يَراهُ، فَلَمّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ نَزَلَتْ رُؤْيَتُهم مَنزِلَةَ العَدَمِ فَأنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، والمَقْصُودُ إنْكارُ عَدَمِ الِاسْتِدْلالِ بِهِ
وجُمْلَةُ (﴿كَمْ أنْبَتْنا﴾) بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ يَرَوْا، فَهي مَصَبُّ الإنْكارِ. وقَوْلُهُ: (﴿إلى الأرْضِ﴾) مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ يَرَوْا، أيْ: ألَمْ يَنْظُرُوا إلى الأرْضِ وهي بِمَرْأًى مِنهم.
و(كَمْ) اسْمٌ دالٌّ عَلى الكَثْرَةِ، وهي هُنا خَبَرِيَّةٌ مَنصُوبَةٌ بِـ (﴿أنْبَتْنا﴾) . والتَّقْدِيرُ: أنْبَتْنا فِيها كَثِيرًا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ.
و(مِن) تَبْعِيضِيَّةٌ، ومَوْرِدُ التَّكْثِيرِ الَّذِي أفادَتْهُ (كَمْ) هو كَثْرَةُ الإنْباتِ في أمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ، ومَوْرِدُ الشُّمُولِ المُفادِ مِن (كُلِّ) هو أنْواعُ النَّباتِ وأصْنافُهُ وفي الأمْرَيْنِ دَلالَةٌ عَلى دَقِيقِ الصُّنْعِ، واسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ أبْعاضِ كُلِّ زَوْجٍ عَنْ ذِكْرِ مُمَيَّزِ (كَمْ)؛ لِأنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنَ التَّبْعِيضِ.
والزَّوْجُ: النَّوْعُ، وشاعَ إطْلاقُ الزَّوْجِ عَلى النَّوْعِ في غَيْرِ الحَيَوانِ قالَ تَعالى: (﴿ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [الرعد: ٣]) عَلى أحَدِ احْتِمالَيْنِ تَقَدَّما في سُورَةِ الرَّعْدِ، وتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعالى: (﴿فَأخْرَجْنا بِهِ أزْواجًا مِن نَباتٍ شَتّى﴾ [طه: ٥٣]) في طه.
والكَرِيمُ: النَّفِيسُ مِن نَوْعِهِ، قالَ تَعالى: (﴿ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤]) في الأنْفالِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿مَرُّوا كِرامًا﴾ [الفرقان: ٧٢]) في سُورَةِ الفُرْقانِ. وهَذا مِن إدْماجِ الِامْتِنانِ في ضِمْنِ الِاسْتِدْلالِ؛ لِأنَّ الِاسْتِدْلالَ عَلى بَدِيعِ الصُّنْعِ يَحْصُلُ بِالنَّظَرِ في إنْباتِ الكَرِيمِ وغَيْرِهِ، فَفي الِاسْتِدْلالِ بِإنْباتِ الكَرِيمِ مِن ذَلِكَ وفاءٌ بِغَرَضِ الِامْتِنانِ مَعَ عَدَمِ فَواتِ الِاسْتِدْلالِ. وأيْضًا فَنَظَرُ النّاسِ في الأنْواعِ الكَرِيمَةِ أنْفَذُ وأشْهَرُ لِأنَّهُ يُبْتَدَئُ بِطَلَبِ المَنفَعَةِ مِنها والإعْجابِ بِها، فَإذا تَطَلَّبَها وقَعَ في الِاسْتِدْلالِ فَيَكُونُ الِاقْتِصارُ عَلى الِاسْتِدْلالِ بِها في الآيَةِ مِن قَبِيلِ التَّذْكِيرِ لِلْمُشْرِكِينَ بِما هم مُمارِسُونَ لَهُ وراغِبُونَ فِيهِ.
(p-١٠٢)والمُشارُ إلَيْهِ بِـ (ذَلِكَ) هو المَذْكُورُ مِنَ الأرْضِ، وإنْباتُ اللَّهِ الأزْواجَ فِيها، وما في تِلْكَ الأزْواجِ مِن مَنافِعَ وبَهْجَةٍ.
والتَّأْكِيدُ بِحَرْفِ (إنَّ) لِتَنْزِيلِ المُتَحَدَّثِ عَنْهم مَنزِلَةَ مَن يُنْكِرُ دَلالَةَ ذَلِكَ الإنْباتِ وصِفاتِهِ عَلى ثُبُوتِ الوَحْدانِيَّةِ الَّتِي هي باعِثُ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ لِما دَعاهم إلى إثْباتِها، وإفْرادُ (آيَةً) لِإرادَةِ الجِنْسِ، أوْ؛ لِأنَّ في المَذْكُورِ عِدَّةَ أشْياءَ في كُلِّ واحِدٍ مِنها آيَةٌ فَيَكُونُ عَلى التَّوْزِيعِ.
وجُمْلَةُ (﴿وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾) عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً﴾) إخْبارًا عَنْهم بِأنَّهم مُصِرُّونَ عَلى الكُفْرِ بَعْدَ هَذا الدَّلِيلِ الواضِحِ، وضَمِيرُ (﴿أكْثَرُهُمْ﴾) عائِدٌ إلى مَعْلُومٍ مِنَ المَقامِ كَما عادَ الضَّمِيرُ الَّذِي في قَوْلِهِ (أنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) )، وهم مُشْرِكُو أهْلِ مَكَّةَ وهَذا تَحَدٍّ لَهم كَقَوْلِهِ (﴿ولَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة: ٢٤]) .
وأُسْنِدَ نَفْيُ الإيمانِ إلى أكْثَرِهِمْ؛ لِأنَّ قَلِيلًا مِنهم يُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ أوْ بَعْدَ ذَلِكَ.
و(كانَ) هُنا مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ عَلى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ والمُحَقِّقِينَ.
وجُمْلَةُ (﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾) تَذْيِيلٌ لِهَذا الخَبَرِ: بِوَصْفِ اللَّهِ بِالعِزَّةِ، أيْ تَمامِ القُدْرَةِ فَتَعْلَمُونَ أنَّهُ لَوْ شاءَ لَعَجَّلَ لَهُمُ العِقابَ، وبِوَصْفِ الرَّحْمَةِ إيماءٌ إلى أنَّ في إمْهالِهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ لَعَلَّهم يَشْكُرُونَ، ورَحِيمٌ بِكَ. قالَ تَعالى: (﴿ورَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهم بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذابَ﴾ [الكهف: ٥٨]) . وفي وصْفِ الرَّحْمَةِ إيماءٌ إلى أنَّهُ يَرْحَمُ رُسُلَهُ بِتَأْيِيدِهِ ونَصْرِهِ.
واعْلَمْ أنَّ هَذا الِاسْتِدْلالَ لَمّا كانَ عَقْلِيًّا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ ولَمْ يُكَرَّرْ بِغَيْرِهِ مِن نَوْعِ الأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ كَما كُرِّرَتِ الدَّلائِلُ الحاصِلَةُ مِنَ العِبْرَةِ بِأحْوالِ الأُمَمِ مِن قَوْلِهِ: (﴿وإذْ نادى رَبُّكَ مُوسى﴾ [الشعراء: ١٠]) إلى آخِرِ قِصَّةِ أصْحابِ لَيْكَةِ.
{"ayahs_start":7,"ayahs":["أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَمۡ أَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجࣲ كَرِیمٍ","إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِینَ","وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ"],"ayah":"أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَمۡ أَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجࣲ كَرِیمٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق