الباحث القرآني
﴿فَأرْسَلَ فِرْعَوْنُ في المَدائِنِ حاشِرِينَ﴾ ﴿إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ ﴿وإنَّهم لَنا لَغائِظُونَ﴾ ﴿وإنّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ﴾ .
ظاهِرُ تَرْتِيبِ الجُمَلِ يَقْتَضِي أنَّ الفاءَ لِلتَّعْقِيبِ عَلى جُمْلَةِ (﴿وأوْحَيْنا إلى مُوسى﴾ [الشعراء: ٥٢]) وأنَّ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَأسْرى مُوسى وخَرَجَ بِهِمْ فَأرْسَلَ فِرْعَوْنُ حاشِرِينَ، أيْ لَمّا خَرَجَ بَنُو إسْرائِيلَ خَشِيَ فِرْعَوْنُ أنْ يَنْتَشِرُوا في مَدائِنِ مِصْرَ فَأرْسَلَ فِرْعَوْنُ في المَدائِنِ شُرَطًا يَحْشُرُونَ النّاسَ لِيَلْحَقُوا بَنِي إسْرائِيلَ فَيَرُدُّوهم إلى المَدِينَةِ قاعِدَةِ المُلْكِ.
والمَدائِنُ: جَمْعُ مَدِينَةٍ، أيِ: البَلَدُ العَظِيمُ. ومَدائِنُ القُطْرِ المِصْرِيِّ يَوْمَئِذٍ كَثِيرَةٌ. مِنها (مانُوفِرى أوْ مَنفِيسُ) هي اليَوْمَ مَيِتْ رَهِينَةٍ بِالجِيزَةِ و(تِيبَةُ أوْ طِيبَةُ) هي (p-١٣٠)بِالأُقْصُرِ و(أبُودُو) وتُسَمّى اليَوْمَ العَرابَةَ المَدْفُونَةَ، و(أبُو) وهي (بُو) وهي إدْنُو، و(أوْنُ رَمِيسَي)، و(أرْمِنتُ) و(سَنى) وهي أسَناءُ و(ساوَرَتْ) وهي السِّيُوطُ، و(خَمُونُو) وهي الأشْمُونِيِّينَ، و(بامازِيتُ) وهي البَهْنَسا، و(خِسْوُو) وهي سَخا، و(كارِيَينا) وهي سَدُّ أبِي قَيْرَةَ، و(سُودُو) وهي الفَيُّومُ، و(كُويتي) وهي قِفْطُ.
والتَّعْرِيفُ في (المَدائِنِ) لِلِاسْتِغْراقِ، أيْ: في مَدائِنِ القُطْرِ المِصْرِيِّ، وهو اسْتِغْراقٌ عُرْفِيٌّ، أيِ: المَدائِنُ الَّتِي لِحُكْمِ فِرْعَوْنَ أوِ المَظْنُونُ وُقُوعُها قُرْبَ طَرِيقِهِمْ. وكانَ فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ لا يَعْلَمُونَ أيْنَ اتَّجَهَ بَنُو إسْرائِيلَ فَأرادَ أنْ يَتَعَرَّضَ لَهم في كُلِّ طَرِيقٍ يَظُنُّ مُرُورَهم بِهِ. وكانَ لا يَدْرِي لَعَلَّهم تَوَجَّهُوا صَوْبَ الشّامِ، أوْ صَوْبَ الصَّحْراءِ الغَرْبِيَّةِ، وما كانَ يَظُنُّ أنَّهم يَقْصِدُونَ شاطِئَ البَحْرِ الأحْمَرِ بَحْرِ (القُلْزُمِ) وكانَ يَوْمَئِذٍ يُسَمّى بَحْرَ (سُوفَ) .
وجُمْلَةُ (﴿إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾) مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ؛ لِأنَّ (حاشِرِينَ) يَتَضَمَّنُ مَعْنى النِّداءِ، أيْ يَقُولُونَ: إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.
والإشارَةُ بِـ (هَؤُلاءِ) إلى حاضِرٍ في أذْهانِ النّاسِ؛ لِأنَّ أمْرَ بَنِي إسْرائِيلَ قَدْ شاعَ في أقْطارِ مِصْرَ في تِلْكَ المُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ جَمْعِ السَّحَرَةِ وبَيْنَ خُرُوجِ بَنِي إسْرائِيلَ، ولَيْسَتِ الإشارَةُ لِلسَّحَرَةِ خاصَّةً؛ إذْ لا يَلْتَئِمُ ذَلِكَ مَعَ القِصَّةِ.
وفِي اسْمِ الإشارَةِ إيماءٌ إلى تَحْقِيرٍ لِشَأْنِهِمْ أكَّدَهُ التَّصْرِيحُ بِأنَّهم شِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ.
والشِّرْذِمَةُ: الطّائِفَةُ القَلِيلَةُ مِنَ النّاسِ، هَكَذا فَسَّرَهُ المُحَقِّقُونَ مِن أئِمَّةِ اللُّغَةِ، فَإتْباعُهُ بِوَصْفِ (قَلِيلُونَ) لِلتَّأْكِيدِ لِدَفْعِ احْتِمالِ اسْتِعْمالِها في تَحْقِيرِ الشَّأْنِ أوْ بِالنِّسْبَةِ إلى جُنُودِ فِرْعَوْنَ، فَقَدْ كانَ عَدَدُ بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ خَرَجُوا سِتَّمِائَةَ ألْفٍ، هَكَذا قالَ المُفَسِّرُونَ، وهو مُوافِقٌ لِما في سِفْرِ العَدَدِ مِنَ التَّوْراةِ في الإصْحاحِ السّادِسِ والعِشْرِينَ.
و(قَلِيلُونَ) خَبَرٌ ثانٍ عَنِ اسْمِ الإشارَةِ، فَهو وصْفٌ في المَعْنى لِمَدْلُولِ (هَؤُلاءِ) ولَيْسَ وصْفًا لِشِرْذِمَةٍ ولَكِنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَعْناها ولِهَذا جِيءَ بِهِ بِصِيغَةِ جَمْعِ السَّلامَةِ الَّذِي هو لَيْسَ مِن جُمُوعِ الكَثْرَةِ.
(p-١٣١)و(قَلِيلٌ) إذا وُصِفَ بِهِ يَجُوزُ مُطابَقَتُهُ لِمَوْصُوفِهِ كَما هُنا، ويَجُوزُ مُلازَمَتُهُ الإفْرادَ والتَّذْكِيرَ كَما قالَ السَّمَوْءَلُ أوِ الحارِثِيُّ:
؎وما ضَرَّنا أنّا قَلِيلٌ
. . . . . البَيْتَ
ونَظِيرُهُ في ذَلِكَ لَفْظُ (كَثِيرٌ) وقَدْ جَمَعَهُما قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ في مَنامِكَ قَلِيلًا ولَوْ أراكَهم كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ﴾ [الأنفال: ٤٣] .
و(غائِظُونَ) اسْمُ فاعِلٍ مَن غاظَهُ الَّذِي هو بِمَعْنى أغاظَهُ، أيْ: جَعَلَهُ ذا غَيْظٍ. والغَيْظُ: أشَدُّ الغَضَبِ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ﴾ [آل عمران: ١١٩] في آلِ عِمْرانَ، وقَوْلِهِ ﴿ويُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: ١٥] في سُورَةِ بَراءَةٌ، أيْ: وأنَّهم فاعِلُونَ ما يُغْضِبُنا.
واللّامُ في قَوْلِهِ (لَنا) لامُ التَّقْوِيَةِ واللّامُ في (لَغائِظُونَ) لامُ الِابْتِداءِ، وتَقْدِيمُ (لَنا) عَلى (لَغائِظُونَ) لِلرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ.
وقَوْلُهُ: (﴿وإنّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونِ﴾) حَثٌّ لِأهْلِ المَدائِنِ عَلى أنْ يَكُونُوا حَذِرِينَ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ إذْ جَعَلَ نَفْسَهُ مَعَهم في ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (لَجَمِيعٌ) وذَلِكَ كِنايَةٌ عَنْ وُجُوبِ الِاقْتِداءِ بِهِ في سِياسَةِ المَمْلَكَةِ، أيْ: إنّا كُلَّنا حَذِرُونَ، فَ (جَمِيعٌ) وقَعَ مُبْتَدَأً وخَبَرُهُ (حَذِرُونَ)، والجُمْلَةُ خَبَرُ (إنَّ)، و(جَمِيعٌ) بِمَعْنى (كُلٍّ) كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾ [يونس: ٤] في سُورَةِ يُونُسَ.
و(حَذِرُونَ) قَرَأهُ الجُمْهُورُ بِدُونِ ألِفٍ بَعْدَ الحاءِ فَهو جَمْعُ حَذِرٍ وهو مِن أمْثِلَةِ المُبالَغَةِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ والمُحَقِّقِينَ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ وعاصِمٌ والكِسائِيُّ وابْنُ ذَكْوانَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ وخَلَفٍ بِألِفٍ بَعْدَ الحاءِ جَمْعُ (حاذِرٍ) بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ. والمَعْنى: أنَّ الحَذَرَ مِن شِيمَتِهِ وعادَتِهِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أنْ تَكُونَ الأُمَّةُ مَعَهُ في ذَلِكَ، أيْ: إنّا مِن عادَتِنا التَّيَقُّظُ لِلْحَوادِثِ والحَذَرُ مِمّا عَسى أنْ يَكُونَ لَها مِن سَيِّئِ العَواقِبِ.
وهَذا أصْلٌ عَظِيمٌ مِن أُصُولِ السِّياسَةِ وهو سَدُّ ذَرائِعِ الفَسادِ ولَوْ كانَ احْتِمالُ إفْضائِها إلى الفَسادِ ضَعِيفًا، فالذَّرائِعُ المُلْغاةُ في التَّشْرِيعِ في حُقُوقِ الخُصُوصِ غَيْرُ مُلْغاةٍ في سِياسَةِ العُمُومِ، ولِذَلِكَ يَقُولُ عُلَماءُ الشَّرِيعَةِ: إنَّ نَظَرَ وُلاةِ الأُمُورِ في مَصالِحِ الأُمَّةِ أوْسَعُ مِن نَظَرِ القُضاةِ، فالحَذَرُ أوْسَعُ مِن حِفْظِ الحُقُوقِ وهو الخَوْفُ (p-١٣٢)مِن وُقُوعِ شَيْءٍ ضارٍّ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، والتَّرَصُّدُ لِمَنعِ وُقُوعِهِ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿يَحْذَرُ المُنافِقُونَ﴾ [التوبة: ٦٤] في بَراءَةٌ. والمَحْمُودُ مِنهُ هو الخَوْفُ مِنَ الضّارِّ عِنْدَ احْتِمالِ حُدُوثِهِ دُونَ الأمْرِ الَّذِي لا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ فالحَذَرُ مِنهُ ضَرْبٌ مِنَ الهَوَسِ.
وهَذا يُرَجِّحُ أنْ يَكُونَ المَحْذُورُ هو الِاغْتِرارَ بِإيمانِ السَّحَرَةِ بِاللَّهِ وتَصْدِيقِ مُوسى ويَبْعُدُ أنْ يَكُونَ المُرادُ خُرُوجَ بَنِي إسْرائِيلَ مِن مِصْرَ؛ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ قَدْ وقَعَ فَلا يُحْذَرُ مِنهُ وإنَّما يَكُونُ السَّعْيُ في الِانْتِقامِ مِنهم.
{"ayahs_start":53,"ayahs":["فَأَرۡسَلَ فِرۡعَوۡنُ فِی ٱلۡمَدَاۤىِٕنِ حَـٰشِرِینَ","إِنَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ لَشِرۡذِمَةࣱ قَلِیلُونَ","وَإِنَّهُمۡ لَنَا لَغَاۤىِٕظُونَ","وَإِنَّا لَجَمِیعٌ حَـٰذِرُونَ"],"ayah":"فَأَرۡسَلَ فِرۡعَوۡنُ فِی ٱلۡمَدَاۤىِٕنِ حَـٰشِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق