الباحث القرآني

﴿أتُتْرَكُونَ في ما هاهُنا آمِنِينَ﴾ ﴿فِي جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿وزُرُوعٍ ونَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ﴾ ﴿وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا فَرِهِينَ﴾ ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ ﴿ولا تُطِيعُوا أمْرَ المُسْرِفِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ ولا يُصْلِحُونَ﴾ . كانُوا قَدْ أعْرَضُوا عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، وأنْكَرُوا البَعْثَ وغَرَّهم أيِمَّةُ كُفْرِهِمْ في ذَلِكَ، فَجاءَهم صالِحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ رَسُولًا يُذَكِّرُهم بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِما مَكَّنَ لَهم مِن خَيْراتٍ، وما سَخَّرَ لَهم مِن أعْمالٍ عَظِيمَةٍ، ونُزِّلَ حالُهم مَنزِلَةَ مَن يَظُنُّ الخُلُودَ ودَوامَ النِّعْمَةِ فَخاطَبَهم بِالِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ التَّوْبِيخِيِّ وهو في المَعْنى إنْكارٌ عَلى (p-١٧٥)ظَنِّهِمْ ذَلِكَ. وسَلَّطَ الإنْكارَ عَلى فِعْلِ التَّرْكِ؛ لِأنَّ تَرْكَهم عَلى تِلْكَ النِّعَمِ لا يَكُونُ. فَكانَ إنْكارُ حُصُولِهِ مُسْتَلْزِمًا إنْكارَ اعْتِقادِهِ. وهَذا الكَلامُ تَعْلِيلٌ لِلْإنْكارِ الَّذِي في قَوْلِهِ: (ألا تَتَّقُونَ)؛ لِأنَّ الإنْكارَ عَلَيْهِمْ دَوامَ حالِهِمْ يَقْتَضِي أنَّهم مُفارِقُونَ هَذِهِ الحَياةَ وصائِرُونَ إلى اللَّهِ. وفِيهِ حَثٌّ عَلى العَمَلِ لِاسْتِبْقاءِ تِلْكَ النِّعَمِ بِأنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَيْها كَما قالَ صاحِبُ الحِكَمِ: مَن لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوالِها ومَن شَكَرَها فَقَدْ قَيَّدَها بِعِقالِها. و(هاهُنا) إشارَةٌ إلى بِلادِهِمْ، أيْ: في جَمِيعِ ما تُشاهِدُونَهُ، وهَذا إيجازٌ بَدِيعٌ. و(آمِنِينَ) حالٌ مَبْنِيَّةٌ لِبَعْضِ ما أجْمَلَهُ قَوْلُهُ: (فِيما هاهُنا) . وذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ لا يَدُلُّ عَلَيْها اسْمُ الإشارَةِ؛ لِأنَّها لا يُشارُ إلَيْها وهي نِعْمَةُ الأمْنِ الَّتِي هي مِن أعْظَمِ النِّعَمِ ولا يُتَذَوَّقُ طَعْمُ النِّعَمِ الأُخْرى إلّا بِها. وقَوْلُهُ: في جَنّاتٍ يَنْبَغِي أنْ يُعَلَّقَ بِ (آمِنِينَ) لِيَكُونَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا لِإجْمالِ اسْمِ الإشارَةِ، أيِ: اجْتَمَعَ لَهُمُ الأمْنُ ورَفاهِيَةُ العَيْشِ. والجَنّاتُ: الحَوائِطُ الَّتِي تُشَجَّرُ بِالنَّخِيلِ والأعْنابِ. والطَّلْعُ: وِعاءٌ يَطْلُعُ مِنَ النَّخْلِ فِيهِ ثَمَرُ النَّخْلَةِ في أوَّلِ أطْوارِهِ يَخْرُجُ كَنَصْلِ السَّيْفِ في باطِنِهِ شَمارِيخُ القِنْوِ، ويُسَمّى هَذا الطَّلْعُ الكِمُّ بِكَسْرِ الكافِ وبَعْدَ خُرُوجِهِ بِأيّامٍ يَنْفَلِقُ ذَلِكَ الوِعاءُ عَنِ الشَّمارِيخِ وهي الأغْصانُ الَّتِي فِيها الثَّمَرُ كَحَبٍّ صَغِيرٍ، ثُمَّ يَغْلُظُ ويَصِيرُ بُسْرًا ثُمَّ تَمْرًا. والهَضِيمُ بِمَعْنى المَهْضُومِ، وأصْلُ الهَضْمِ شَدْخُ الشَّيْءِ حَتّى يَلِينَ، واسْتُعِيرَ هُنا لِلدَّقِيقِ الضّامِرِ، كَما يُقالُ: امْرَأةٌ هَضِيمُ الكَشْحِ. وتِلْكَ عَلامَةٌ عَلى أنَّهُ يَخْرُجُ تَمْرًا جَيِّدًا. والنَّخْلُ الَّذِي يُثْمِرُ تَمْرًا جَيِّدًا يُقالُ لَهُ: النَّخْلُ الإناثُ وضِدَّهُ فَحاحِيلُ، وهي جُمَعُ فُحّالٍ بِضَمِّ الفاءِ وتَشْدِيدِ الحاءِ المُهْمَلَةِ أيْ: ذَكَرٌ، وطَلْعُهُ غَلِيظٌ وتَمْرُهُ كَذَلِكَ. وخُصَّ النَّخْلُ بِالذِّكْرِ مَعَ أنَّهُ مِمّا تَشْمَلُهُ الجَنّاتُ لِقَصْدِ بَيانِ جَوْدَتِهِ بِأنَّ طَلْعَهُ هَضِيمٌ. (p-١٧٦)(وتَنْحِتُونَ) عَطْفٌ عَلى (آمِنِينَ)، أيْ: وناحِتِينَ، عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ المُضارِعِ لِاسْتِحْضارِ الحالَةِ في نَحْتِهِمْ بُيُوتًا مِنَ الجِبالِ. وتَقَدَّمَ ذَلِكَ في سُورَةِ الأعْرافِ. و(فَرِهِينَ) صِيغَةُ مُبالَغَةٍ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ بِدُونِ ألِفٍ بَعْدَ الفاءِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الفَراهَةِ وهي الحَذَقُ والكَياسَةُ، أيْ: عارِفِينَ حَذِقِينَ بِنَحْتِ البُيُوتِ مِنَ الجِبالِ بِحَيْثُ تَصِيرُ بِالنَّحْتِ كَأنَّها مَبْنِيَّةٌ. وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ (فارِهِينَ) بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ. وقَوْلُهُ: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ﴾ [الشعراء: ١٧٩] مُفَرَّعٌ مِثْلُ نَظِيرِهِ في قِصَّةِ عادٍ. والمُرادُ بِ (المُسْرِفِينَ) أيِمَّةُ القَوْمِ وكُبَراؤُهُمُ الَّذِينَ يُغْرُونَهم بِعِبادَةِ الأصْنامِ ويُبْقُونَهم في الضَّلالَةِ اسْتِغْلالًا لِجَهْلِهِمْ ولِيُسَخِّرُوهم لِفائِدَتِهِمْ. والإسْرافُ: الإفْراطُ في شَيْءٍ، والمُرادُ بِهِ هُنا الإسْرافُ المَذْمُومُ كُلُّهُ في المالِ وفي الكُفْرِ، ووَصْفُهم بِأنَّهم (﴿يُفْسِدُونَ في الأرْضِ﴾)، فالإسْرافُ مَنُوطٌ بِالفَسادِ. وعَطْفُ (﴿ولا يُصْلِحُونَ﴾) عَلى جُمْلَةِ (﴿يُفْسِدُونَ في الأرْضِ﴾) تَأْكِيدٌ لِوُقُوعِ الشَّيْءِ بِنَفْيِ ضِدِّهِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وما هَدى﴾ [طه: ٧٩] وقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الجُهْنَيِّ: النَّسَبُ المَعْرُوفُ غَيْرُ المُنْكَرِ يُفِيدُ أنَّ فَسادَهم لا يَشُوبُهُ صَلاحٌ؛ فَكَأنَّهُ قِيلَ: الَّذِينَ إنَّما هم مُفْسِدُونَ في الأرْضِ، فَعُدِلَ عَنْ صِيغَةِ القَصْرِ لِئَلّا يُحْتَمَلَ أنَّهُ قَصْرُ مُبالِغَةٍ؛ لِأنَّ نَفْيَ الإصْلاحِ عَنْهم يُؤَكِّدُ إثْباتَ الإفْسادِ لَهم، فَيَتَقَرَّرُ ذَلِكَ في الذِّهْنِ، ويَتَأكَّدُ مَعْنى إفْسادِهِمْ بِنَفْيِ ضِدِّهِ كَقَوْلِ السَّمَوْءَلِ أوِ الحارِثِيِّ: ؎تَسِيلُ عَلى حَدِّ الظُّباتِ نُفُوسُنَـا ∗∗∗ ولَيْسَتْ عَلى غَيْرِ الظُّباتِ تَسِيلُ والتَّعْرِيفُ في (الأرْضِ) تَعْرِيفُ العَهْدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب