الباحث القرآني

﴿قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أوَعَظْتَ أمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الواعِظِينَ﴾ ﴿إنْ هَذا إلّا خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿وما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأهْلَكْناهم إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهْوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ . أجابُوا بِتَأْيِيسِهِ مِن أنْ يَقْبَلُوا إرْشادَهُ فَجَعَلُوا وعْظَهُ وعَدَمَهُ سَواءً، أيْ: هُما سَواءٌ في انْتِفاءِ ما قَصَدَهُ مِن وعْظِهِ وهو امْتِثالُهم. (p-١٧١)والهَمْزَةُ لِلتَّسْوِيَةِ. وتَقَدَّمَ بَيانُها عِنْدَ قَوْلِهِ: (﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦]) في سُورَةِ البَقَرَةِ. والوَعْظُ: التَّخْوِيفُ والتَّحْذِيرُ مِن شَيْءٍ فِيهِ ضُرٌّ، والِاسْمُ المَوْعِظَةُ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿وهُدًى ومَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: ٤٦] في سُورَةِ العُقُودِ. ومَعْنى (﴿أمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الواعِظِينَ﴾) أمْ لَمْ تَكُنْ في عِدادِ المَوْصُوفِينَ بِالواعِظِينَ، أيْ: لَمْ تَكُنْ مِن أهْلِ هَذا الوَصْفِ في شَيْءٍ، وهو أشَدُّ في نَفْيِ الصِّفَةِ عَنْهُ مِن أنْ لَوْ قِيلَ: أمْ لَمْ تَعِظْ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أنا مِنَ المُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: ٥٦] في سُورَةِ الأنْعامِ، وتَقَدَّمَ آنِفًا قَوْلُهُ في قِصَّةِ نُوحٍ: ﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء: ١١٦] . وجُمْلَةُ (﴿إنْ هَذا إلّا خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾) تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ ﴿سَواءٌ عَلَيْنا أوَعَظْتَ أمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الواعِظِينَ﴾، أيْ: كانَ سَواءٌ عَلَيْنا فَلا نَتَّبِعُ وعْظَكَ؛ لِأنَّ هَذا خُلُقُ الأوَّلِينَ. والإشارَةُ بِ (هَذا) إلى شَيْءٍ مَعْلُومٍ لِلْفَرِيقَيْنِ حاصِلٌ في مَقامِ دَعْوَةِ هُودٍ إيّاهم وسَيَأْتِي بَيانُهُ. وقَوْلُهُ: (خُلُقُ الأوَّلِينَ) قَرَأهُ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ وعاصِمٌ وخَلَفٌ بِضَمِّ الخاءِ وضَمِّ اللّامِ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ وأبُو جَعْفَرٍ ويَعْقُوبُ بِفَتْحِ الخاءِ وسُكُونِ اللّامِ. فَعَلى قِراءَةِ الفَرِيقِ الأوَّلِ (خُلُقُ) بِضَمَّتَيْنِ فَهو السَّجِيَّةُ المُتَمَكِّنَةُ في النَّفْسِ باعِثَةٌ عَلى عَمَلٍ يُناسِبُها مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ وقَدْ فُسِّرَ بِالقُوى النَّفْسِيَّةِ، وهو تَفْسِيرٌ قاصِرٌ فَيَشْمَلُ طَبائِعَ الخَيْرِ وطَبائِعَ الشَّرِّ ولِذَلِكَ لا يُعْرَفُ أحَدُ النَّوْعَيْنِ مِنَ اللَّفْظِ إلّا بِقَيْدٍ يُضَمُّ إلَيْهِ فَيُقالُ: خُلُقٌ حَسَنٌ، ويُقالُ في ضِدِّهِ: سُوءُ خُلُقٍ، أوْ خُلُقٌ ذَمِيمٌ، قالَ تَعالى: ﴿وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤] . وفي الحَدِيثِ «وخالِقِ النّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» . فَإذا أُطْلِقَ عَنِ التَّقْيِيدِ انْصَرَفَ إلى الخُلُقِ الحَسَنِ، كَما قالَ الحَرِيرِيُّ في المَقامَةِ التّاسِعَةِ: وخُلُقِي نِعْمَ العَوْنُ، وبَيْنِي وبَيْنَ جاراتِي بَوْنُ، أيْ: في حُسْنِ الخُلُقِ. (p-١٧٢)والخُلُقُ في اصْطِلاحِ الحُكَماءِ: مَلَكَةٌ أيْ: كَيْفِيَّةٌ راسِخَةٌ في النَّفْسِ أيْ: مُتَمَكِّنَةٌ مِنَ الفِكْرِ تَصْدُرُ بِها عَنِ النَّفْسِ أفْعالُ صاحِبِها بِدُونِ تَأمُّلٍ. فَخُلُقُ المَرْءِ مَجْمُوعُ غَرائِزَ أيْ: طَبائِعُ نَفْسِيَّةٌ مُؤْتَلِفَةٌ مِنَ انْطِباعٍ فِكْرِيٍّ: إمّا جِبِلِّيٌّ في أصْلِ خِلْقَتِهِ، وإمّا كَسْبِيٌّ ناشِئٌ عَنْ تَمَرُّنِ الفِكْرِ عَلَيْهِ وتَقَلُّدِهِ إيّاهُ لِاسْتِحْسانِهِ إيّاهُ عَنْ تَجْرِبَةِ نَفْعِهِ أوْ عَنْ تَقْلِيدِ ما يُشاهِدُهُ مِن بَواعِثِ مَحَبَّةِ ما شاهَدَ. ويَنْبَغِي أنْ يُسَمّى اخْتِيارًا مِن قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ لِذاتِهِ، أوْ لِكَوْنِهِ مِن سِيرَةِ مَن يُحِبُّهُ ويَقْتَدِي بِهِ ويُسَمّى تَقْلِيدًا، ومُحاوَلَتُهُ تُسَمّى تَخَلُّقًا. قالَ سالِمُ بْنُ وابِصَةَ: ؎عَلَيْكَ بِالقَصِيدِ فِيما أنْتَ فاعِلُهُ إنِ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الخُلُقُ فَإذا اسْتَقَرَّ وتَمَكَّنَ مِنَ النَّفْسِ صارَ سَجِيَّةً لَهُ يَجْرِي أعْمالُهُ عَلى ما تُمْلِيهِ عَلَيْهِ وتَأْمُرُهُ بِهِ نَفْسُهُ بِحَيْثُ لا يَسْتَطِيعُ تَرْكَ العَمَلِ بِمُقْتَضاها، ولَوْ رامَ حَمْلَ نَفْسِهِ عَلى عَدَمِ العَمَلِ بِما تُمْلِيهِ سَجِيَّتُهُ لاسْتَصْغَرَ نَفْسَهُ وإرادَتَهُ وحَقَّرَ رَأْيَهُ. وقَدْ يَتَغَيَّرُ الخُلُقُ تَغَيُّرًا تَدْرِيجِيًّا بِسَبَبِ تَجْرِبَةِ انْجِرارِ مَضَرَّةٍ مِن داعِيهِ، أوْ بِسَبَبِ خَوْفِ عاقِبَةٍ سَيِّئَةٍ مِن جَرّائِهِ بِتَحْذِيرِ مَن هو قُدْوَةٌ عِنْدَهُ لِاعْتِقادِ نُصْحِهِ أوْ لِخَوْفِ عِقابِهِ. وأوَّلُ ذَلِكَ هو المَواعِظُ الدِّينِيَّةُ. ومَعْنى الآيَةِ عَلى هَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَحْكِيُّ عَنْهم أرادُوا مَدْحًا لِما هم عَلَيْهِ مِنَ الأحْوالِ الَّتِي أصَرُّوا عَلى عَدَمِ تَغْيِيرِها فَيَكُونَ أرادُوا أنَّها خُلُقُ أسْلافِهِمْ وأُسْوَتِهِمْ فَلا يَقْبَلُوا فِيهِ عَذْلًا ولا مَلامًا كَما قالَ تَعالى عَنْ أمْثالِهِمْ: ﴿تُرِيدُونَ أنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا﴾ [إبراهيم: ١٠] . فالإشارَةُ تَنْصَرِفُ إلى ما هم عَلَيْهِ الَّذِي نَهاهم عَنْهُ رَسُولُهم. ويَجُوزُ أنْ يَكُونُوا أرادُوا ما يَدْعُو إلَيْهِ رَسُولُهم: أيْ ما هو إلّا مِن خُلُقِ أُناسٍ قَبْلَهُ، أيْ: مِن عَقائِدِهِمْ وما راضَوْا عَلَيْهِ أنْفُسَهم وأنَّهُ عَبَرَ عَلَيْها وانْتَحَلَها، أيْ: ما هو بِإذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى كَما قالَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ: ﴿إنْ هَذا إلّا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ [الأنعام: ٢٥] . والإشارَةُ إلى ما يَدْعُوهم إلَيْهِ. وأمّا عَلى قِراءَةِ الفَرِيقِ الثّانِي فالخَلْقُ بِفَتْحِ الخاءِ وسُكُونِ اللّامِ مَصْدَرٌ هو الإنْشاءُ والتَّكْوِينُ، والخَلْقُ أيْضًا مَصْدَرُ خَلَقَ، إذا كَذَبَ في خَبَرِهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى (p-١٧٣)﴿وتَخْلُقُونَ إفْكًا﴾ [العنكبوت: ١٧] . وتَقُولُ العَرَبُ: حَدَّثَنا فُلانٌ بِأحادِيثِ الخَلْقِ وهي الخُرافاتُ المُفْتَعَلَةُ، ويُقالُ لَهُ: اخْتِلاقٌ بِصِيغَةٍ الِافْتِعالِ الدّالَّةِ عَلى التَّكَلُّفِ والِاخْتِراعِ، قالَ تَعالى: ﴿إنْ هَذا إلّا اخْتِلاقٌ﴾ [ص: ٧] وذَلِكَ أنَّ الكاذِبَ يَخْلُقُ خَبَرًا لَمْ يَقَعْ. فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّ ما تَزْعُمُ مِنَ الرِّسالَةِ عَنِ اللَّهِ كَذِبٌ وما تُخْبِرُنا مِنَ البَعْثِ اخْتِلاقٌ، فالإشارَةُ إلى ما جاءَ بِهِ صالِحٌ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّ حَياتَنا كَحَياةِ الأوَّلِينَ نَحْيا ثُمَّ نَمُوتُ، فالكَلامُ عَلى التَّشْبِيهِ البَلِيغِ وهو كِنايَةٌ عَنِ التَّكْذِيبِ بِالبَعْثِ الَّذِي حَذَّرَهم جَزاءَهُ في قَوْلِهِ: ﴿إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٣٥] يَقُولُونَ: كَما ماتَ الأوَّلُونَ ولَمْ يُبْعَثْ أحَدٌ مِنهم قَطُّ فَكَذَلِكَ نَحْيا نَحْنُ ثُمَّ نَمُوتُ ولا نُبْعَثُ. وهَذا كَقَوْلِ المُشْرِكِينَ: ﴿فَأْتُوا بِآبائِنا إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [الدخان: ٣٦] فالإشارَةُ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ هَذا إلّا خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾ إلى الخُلُقِ الَّذِي هم عَلَيْهِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ المُسْتَثْنى. فَهَذِهِ أرْبَعَةُ مَعانٍ واحِدٌ مِنها مَدْحٌ، واثْنانِ ذَمٌّ، وواحِدٌ دُعاءٌ. وجُمْلَةُ (﴿وما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾) عَلى المَعانِي الأوَّلِ والثّانِي والثّالِثِ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿إنْ هَذا إلّا خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾ عَطْفٌ مُغايِرٌ. وعَلى المَعْنى الرّابِعِ عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِمْ: ﴿إنْ هَذا إلّا خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾ تَصْرِيحًا بَعْدَ الكِنايَةِ. والقَصْرُ قَصْرٌ إضافِيٌّ عَلى المَعانِي كُلِّها. ولا شَكَّ أنَّ قَوْمَ صالِحٍ نَطَقُوا بِلُغَتِهِمْ جُمَلًا كَثِيرَةً تَنْحَلُّ إلى هَذِهِ المَعانِي فَجَمَعَها القُرْآنُ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ هَذا إلّا خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾ بِاحْتِمالِ اسْمِ الإشارَةِ واخْتِلافِ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ خُلُقٍ فَلِلَّهِ إيجازُهُ وإعْجازُهُ. والفاءُ في (فَكَذَّبُوهُ) فَصِيحَةٌ، أيْ: فَتَبَيَّنَ أنَّهم بِقَوْلِهِمْ: سَواءٌ عَلَيْنا ذَلِكَ أوَعَظْتَ إلَخْ قَدْ كَذَّبُوهُ فَأهْلَكْناهم. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً﴾ [الشعراء: ١٩٠] إلى آخِرِهِ هو مِثْلُ نَظِيرِهِ في قِصَّةِ نُوحٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب