الباحث القرآني
﴿قالَ رَبِّ إنِّيَ أخافُ أنْ يُكَذِّبُونِ﴾ ﴿ويَضِيقُ صَدْرِي ولا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأرْسِلْ إلى هارُونَ﴾ ﴿ولَهم عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأخافُ أنْ يَقْتُلُونِ﴾ .
افْتِتاحُ مُراجَعَتِهِ بِنِداءِ اللَّهِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضافًا إلَيْهِ تَحْنِينٌ واسْتِسْلامٌ. وإنَّما خافَ أنْ يُكَذِّبُوهُ لِعِلْمِهِ بِأنَّ مِثْلَ هَذِهِ الرِّسالَةِ لا يَتَلَقّاها المُرْسَلُ إلَيْهِمْ إلّا بِالتَّكْذِيبِ، وجَعَلَ نَفْسَهُ خائِفًا مِنَ التَّكْذِيبِ؛ لِأنَّهُ لَمّا خُلِعَتْ عَلَيْهِ الرِّسالَةُ عَنِ اللَّهِ وقَرَ في صَدْرِهِ الحِرْصُ عَلى نَجاحِ رِسالَتِهِ فَكانَ تَكْذِيبُهُ فِيها مَخُوفًا مِنهُ.
(﴿ويَضِيقُ صَدْرِي﴾) قَرَأهُ الجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ فَهو عَطْفٌ عَلى (﴿أخافُ﴾) (p-١٠٦)أوْ تَكُونُ الواوُ لِلْحالِ فَتَكُونُ حالًا مُقَدَّرَةً، أيْ: والحالُ يَضِيقُ ساعَتَئِذٍ صَدْرِي مِن عَدَمِ اهْتِدائِهِمْ.
والضِّيقُ: ضِدُّ السِّعَةِ، وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِلْغَضَبِ والكَمَدِ؛ لِأنَّ مَن يَعْتَرِيهِ ذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ انْفِعالٌ ويَنْشَأُ عَنْهُ انْضِغاطُ الأعْصابِ في الصَّدْرِ والقَلْبِ مِن تَأْثِيرِ الإدْراكِ الخاصِّ عَلى جَمْعِ الأعْصابِ الكائِنِ بِالدِّماغِ الَّذِي هو المُدْرِكُ فَيُحِسُّ بِشِبْهِ امْتِلاءٍ في الصَّدْرِ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [الأنعام: ١٢٥]) وقَوْلِهِ: (﴿وضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ [هود: ١٢]) في سُورَةِ هُودٍ. والمَعْنى: أنَّهُ يَأْسَفُ ويَكْمَدُ لِتَكْذِيبِهِمْ إيّاهُ ويَجِيشُ في نَفْسِهِ رَوْمُ إقْناعِهِمْ بِصِدْقِهِ، وتِلْكَ الخَواطِرُ إذا خَطَرَتْ في العَقْلِ نَشَأ مِنها إعْدادُ البَراهِينِ، وفي ذَلِكَ الإعْدادِ تَكَلُّفٌ وتَعَبٌ لِلْفِكْرِ فَإذا أبانَها أحَسَّ بِارْتِياحٍ وبِشِبْهِ السِّعَةِ في الصَّدْرِ فَسَمّى ذَلِكَ شَرْحًا لِلصَّدْرِ، ولِذَلِكَ سَألَهُ مُوسى في الآيَةِ الأُخْرى (﴿قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ [طه: ٢٥]) .
والِانْطِلاقُ حَقِيقَتُهُ مُطاوِعُ أطْلَقَهُ إذا أرْسَلَهُ ولَمْ يَحْبِسْهُ فَهو حَقِيقَةٌ في الذَّهابِ. واسْتُعِيرَ هُنا لِفَصاحَةِ اللِّسانِ وبَيانِهِ في الكَلامِ، أيْ يَنْحَبِسُ لِسانِي فَلا يُبَيِّنُ عِنْدَ إرادَةِ المُحاجَّةِ والِاسْتِدْلالِ، وعَطْفُهُ عَلى (يَضِيقُ صَدْرِي) ) يُنْبِئُ بِأنَّهُ أرادَ بِضِيقِ الصَّدْرِ تَكاثُرَ خَواطِرِ الِاسْتِدْلالِ في نَفْسِهِ عَلى الَّذِينَ كَذَّبُوهُ لِيُقْنِعَهم بِصِدْقِهِ حَتّى يَحُسَّ كَأنَّ صَدْرَهُ قَدِ امْتَلَأ والشَّأْنُ أنَّ ذَلِكَ يَنْقُصُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِمِقْدارِ ما يُفْصِحُ عَنْهُ صاحِبُهُ مِن إبْلاغِهِ إلى السّامِعِينَ فَإذا كانَتْ في لِسانِهِ حَبْسَةٌ وعِيٌّ بَقِيَتِ الخَواطِرُ مُتَلَجْلِجَةً في صَدْرِهِ. والمَعْنى: ويَضِيقُ صَدْرِي حِينَ يُكَذِّبُونَنِي ولا يَنْطَلِقُ لِسانِي.
وقَرَأ الجُمْهُورُ (﴿يَضِيقُ﴾ [الحجر: ٩٧]،) (﴿ولا يَنْطَلِقُ﴾) مَرْفُوعَيْنِ عَطْفًا عَلى (﴿أخافُ﴾)، ولِذَلِكَ حَقَّقَهُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ؛ لِأنَّهُ أيْقَنَ بِحُصُولِ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ جِبِلِّيٌّ عِنْدَ تَلَقِّي التَّكْذِيبِ، ولِأنَّ أمانَةَ الرِّسالَةِ والحِرْصَ عَلى تَنْفِيذِ مُرادِ اللَّهِ يُحْدِثُ ذَلِكَ في نَفْسِهِ لا مَحالَةَ، وإذْ قَدْ كانَ انْحِباسُ لِسانِهِ يَقِينًا عِنْدَهُ؛ لِأنَّهُ كانَ كَذَلِكَ مِن أجْلِ ذَلِكَ التَّيَقُّنِ كانَ فِعْلا (﴿يَضِيقُ﴾ [الحجر: ٩٧]) (﴿ولا يَنْطَلِقُ﴾) مَعْطُوفَيْنِ عَلى ما هو مُحَقَّقٌ عِنْدَهُ وهو حُصُولُ الخَوْفِ مِنَ التَّكْذِيبِ، ولَمْ يَكُونا مَعْطُوفَيْنِ عَلى (﴿يُكَذِّبُونِ﴾) المَخُوفِ مِنهُ المُتَوَقَّعِ عَلى أنَّ كَوْنَهُ مُحَقَّقَ الحُصُولِ يَجْعَلُهُ أحْرى مِنَ المُتَوَقَّعِ.
(p-١٠٧)وقَرَأ يَعْقُوبُ (﴿ويَضِيقُ﴾) (﴿ولا يَنْطَلِقُ﴾) بِنَصْبِ الفِعْلَيْنِ عَطْفًا عَلى (﴿يُكَذِّبُونِ﴾)، أيْ يَتَوَقَّعُ أنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ ولا يَنْطَلِقَ لِسانُهُ، قِيلَ: كانَتْ بِمُوسى حُبْسَةٌ في لِسانِهِ إذا تَكَلَّمَ. وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ طه وسَيَجِيءُ في سُورَةِ الزُّخْرُفِ. ولَيْسَ القَصْدُ مِن هَذا الكَلامِ التَّنَصُّلَ مِنَ الِاضْطِلاعِ بِهَذا التَّكْلِيفِ العَظِيمِ ولَكِنَّ القَصْدَ تَمْهِيدُ ما فَرَّعَهُ عَلَيْهِ مِن طَلَبِ تَشْرِيكِ أخِيهِ هارُونَ مَعَهُ؛ لِأنَّهُ أقْدَرُ مِنهُ عَلى الِاسْتِدْلالِ والخَطابَةِ كَما قالَ في الآيَةِ الأُخْرى: (﴿وأخِي هارُونُ هو أفْصَحُ مِنِّي لِسانًا فَأرْسِلْهُ مَعِيَ﴾ [القصص: ٣٤]) . فَقَوْلُهُ هُنا: (﴿فَأرْسِلْ إلى هارُونَ﴾) مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ ما في الآيَةِ الأُخْرى فَيُعْلَمُ أنَّ في الكَلامِ هُنا إيجازًا. وأنَّهُ لَيْسَ المُرادُ: فَأرْسِلْ إلى هارُونَ عِوَضًا عَنِّي.
وإنَّما سَألَ اللَّهَ الإرْسالَ إلى هارُونَ ولَمْ يَسْألْهُ أنْ يُكَلِّمَ هارُونَ كَما كَلَّمَهُ هو؛ لِأنَّ هارُونَ كانَ بَعِيدًا عَنْ مَكانِ المُناجاةِ. والمَعْنى: فَأرْسِلْ مَلَكًا بِالوَحْيِ إلى هارُونَ أنْ يَكُونَ مَعِي.
وقَوْلُهُ: (﴿ولَهم عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأخافُ أنْ يَقْتُلُونِ﴾) تَعْرِيضٌ بِسُؤالِ النَّصْرِ والتَّأْيِيدِ وأنْ يَكْفِيَهُ شَرَّ عَدُوِّهِ حَتّى يُؤَدِّيَ ما عَهِدَ اللَّهُ إلَيْهِ عَلى أكْمَلِ وجْهٍ. وهَذا كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ «اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ نَصْرَكَ ووَعْدَكَ اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ في الأرْضِ» .
والذَّنْبُ: الجُرْمُ ومُخالَفَةُ الواجِبِ في قَوانِينِهِمْ. وأُطْلِقَ الذَّنْبُ عَلى المُؤاخَذَةِ فَإنَّ الَّذِي لَهم عَلَيْهِ هو حَقُّ المُطالَبَةِ بِدَمِ القَتِيلِ الَّذِي وكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ، وتَوَعَّدَهُ القِبْطُ إنْ ظَفِرُوا بِهِ لِيَقْتُلُوهُ فَخَرَجَ مِن مِصْرَ خائِفًا، وكانَ ذَلِكَ سَبَبَ تَوَجُّهِهِ إلى بِلادِ مَدْيَنَ. وسَمّاهُ ذَنْبًا بِحَسَبِ ما في شَرْعِ القِبْطِ، فَإنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ شَرْعٌ إلَهِيٌّ في أحْكامِ قَتْلِ النَّفْسِ. ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ سَمّاهُ ذَنْبًا؛ لِأنَّ قَتْلَ أحَدٍ في غَيْرِ قِصاصٍ ولا دِفاعٍ عَنْ نَفْسِ المُدافِعِ يُعْتَبَرُ جُرْمًا في قَوانِينِ جَماعاتِ البَشَرِ مِن عَهْدِ قَتْلِ أحَدِ ابْنَيْ آدَمَ أخاهُ، وقَدْ قالَ في سُورَةِ القَصَصِ: (﴿قالَ هَذا مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ [القصص: ١٥] ﴿قالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: ١٦]) . وأيًّا ما كانَ فَهو جَعَلَهُ ذَنْبًا لَهم عَلَيْهِ.
وقَوْلُهُ: (﴿فَأخافُ أنْ يَقْتُلُونِ﴾) لَيْسَ هَلَعًا وفَرَقًا مِنَ المَوْتِ، فَإنَّهُ لَمّا أصْبَحَ في مَقامِ الرِّسالَةِ ما كانَ بِالَّذِي يُبالِي أنْ يَمُوتَ في سَبِيلِ اللَّهِ؛ ولَكِنَّهُ خَشِيَ العائِقَ مِن (p-١٠٨)إتْمامِ ما عُهِدَ إلَيْهِ مِمّا فِيهِ لَهُ ثَوابٌ جَزِيلٌ ودَرَجَةٌ عُلْيا.
وحُذِفَتْ ياءُ المُتَكَلِّمِ مِن (﴿يَقْتُلُونِ﴾) لِلرِّعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: (﴿وإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ [البقرة: ٤٠]) في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وذِكْرُ هارُونَ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿وبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وآلُ هارُونَ﴾ [البقرة: ٢٤٨]) في سُورَةِ البَقَرَةِ.
{"ayahs_start":12,"ayahs":["قَالَ رَبِّ إِنِّیۤ أَخَافُ أَن یُكَذِّبُونِ","وَیَضِیقُ صَدۡرِی وَلَا یَنطَلِقُ لِسَانِی فَأَرۡسِلۡ إِلَىٰ هَـٰرُونَ","وَلَهُمۡ عَلَیَّ ذَنۢبࣱ فَأَخَافُ أَن یَقۡتُلُونِ"],"ayah":"قَالَ رَبِّ إِنِّیۤ أَخَافُ أَن یُكَذِّبُونِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق