الباحث القرآني
﴿ولَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا﴾ ﴿فَلا تُطِعِ الكافِرِينَ وجاهِدْهم بِهِ جِهادًا كَبِيرًا﴾ .
جُمْلَةُ اعْتِراضٍ بَيْنَ ذِكْرِ دَلائِلِ تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالخَلْقِ وذِكْرِ مِنَّتِهِ عَلى الخَلْقِ. ومُناسِبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الجُمْلَةِ وتَفْرِيعِها بِمَوْقِعِ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها خَفِيَّةٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ في قَوْلِهِ: (﴿ولَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا﴾): اقْتِضابٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ ما ذُكِرَ. تَقْدِيرُهُ: ولَكِنّا أفْرَدْناكَ بِالنِّذارَةِ وحَمَّلْناكَ فَلا تُطِعِ الكافِرِينَ اهـ.
فَإنْ كانَ عَنى بِقَوْلِهِ: اقْتِضابٌ، مَعْنى الِاقْتِضابِ الِاصْطِلاحِيِّ بَيْنَ عُلَماءِ الأدَبِ والبَيانِ، وهو عَدَمُ مُراعاةِ المُناسَبَةِ بَيْنَ الكَلامِ المُنْتَقَلِ مِنهُ والكَلامِ المُنْتَقَلِ إلَيْهِ، كانَ عُدُولًا عَنِ التِزامِ تَطَلُّبِ المُناسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ والآيَةِ الَّتِي قَبْلَها، ولَيْسَ الخُلُوُّ عَنِ المُناسَبَةِ بِبِدَعٍ فَقَدْ قالَ صاحِبُ تَلْخِيصِ المِفْتاحِ: وقَدْ يُنْقَلُ مِنهُ - أيْ: مِمّا شُبِّبَ بِهِ الكَلامُ - إلى ما لا يُلائِمُهُ - أيْ لا يُناسِبُ المُنْتَقَلَ مِنهُ - ويُسَمّى الِاقْتِضابَ وهو مَذْهَبُ العَرَبِ ومَن يَلِيهِمْ مِنَ المُخَضْرَمِينَ ) إلَخْ. وإذا كانَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنى (p-٥٢)بِالِاقْتِضابِ مَعْنى القَطْعِ (أيِ الحَذْفِ مِنَ الكَلامِ) أيْ: إيجازِ الحَذْفِ كَما يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ: (يَدُلُّ عَلَيْهِ ما ذُكِرَ تَقْدِيرُهُ إلَخْ)، كانَ لَمْ يُعَرِّجْ عَلى اتِّصالِ هَذِهِ الآيَةِ بِالَّتِي قَبْلَها.
وفِي الكَشّافِ: (ولَوْ شِئْنا لَخَفَّفْنا عَنْكَ أعْباءَ نِذارَةِ جَمْعِ القُرى ولَبَعَثْنا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَبِيئًا يُنْذِرُها، وإنَّما قَصَرْنا الأمْرَ عَلَيْكَ وعَظَّمْناكَ عَلى سائِرِ الرُّسُلِ - أيْ بِعُمُومِ الدَّعْوَةِ - فَقابَلَ ذَلِكَ بِالتَّصَبُّرِ) اهـ. وقَدْ قالَ الطِّيبِيُّ: (ومَدارُ السُّورَةِ عَلى كَوْنِهِ ﷺ مَبْعُوثًا إلى النّاسِ كافَّةً، ولِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِما يُثْبِتُ عُمُومَ رِسالَةِ مُحَمَّدٍ _ ﷺ _ إلى جَمِيعِ النّاسِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ( ﴿لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١]) .
ولَيْسَ في كَلامِ الكَشّافِ والطِّيبِيِّ إلّا بَيانُ مُناسَبَةِ الآيَةِ لِمُهِمِّ أغْراضِ السُّورَةِ دُونَ بَيانِ مُناسَبَتِها لِلَّتِي قَبْلَها.
والَّذِي أخْتارُهُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: (﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢]) الآيَةَ، فَبَعْدَ أنْ بَيَّنَ إبْطالَ طَعْنِهِمْ، فَقالَ (﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ﴾ [الفرقان: ٣٢]) انْتَقَلَ إلى تَنْظِيرِ القُرْآنِ بِالكِتابِ الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وكَيْفَ اسْتَأْصَلَ اللَّهُ مَن كَذَّبُوهُ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ بِذِكْرِ أُمَمٍ كَذَّبُوا رُسُلَهم، ثُمَّ انْتَقَلَ إلى اسْتِهْزاءِ المُشْرِكِينَ بِالنَّبِيءِ ﷺ وأشارَ إلى تَحَرُّجِ النَّبِيءِ ﷺ مِن إعْراضِ قَوْمِهِ عَنْ دَعْوَتِهِ بِقَوْلِهِ: (﴿أرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ أفَأنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وكِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٣]) .
وتَسَلْسُلِ الكَلامِ بِضَرْبِ المَثَلِ بِمَدِّ الظِّلِّ وقَبْضِهِ، وبِحالِ اللَّيْلِ والنَّهارِ، وبِإرْسالِ الرِّياحِ. أمارَةٌ عَلى رَحْمَةِ غَيْثِهِ الَّذِي تَحْيا بِهِ المَواتُ حَتّى انْتَهى إلى قَوْلِهِ: (﴿ولَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا﴾) ويُؤَيِّدُ ما ذَكَرْنا اشْتِمالُ التَّفْرِيعِ عَلى ضَمِيرِ القُرْآنِ في قَوْلِهِ: (﴿وجاهِدْهم بِهِ﴾) .
ومِمّا يَزِيدُ هَذِهِ الآيَةَ اتِّصالًا بِقَوْلِهِ تَعالى: (﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢]) أنَّ في بَعْثِ نَذِيرٍ إلى كُلِّ قَرْيَةٍ ما هو أشَدُّ مِن تَنْزِيلِ القُرْآنِ مُجَزَّأً؛ فَلَوْ بَعَثَ اللَّهُ في كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْ لا أُرْسِلَ رَسُولٌ واحِدٌ إلى النّاسِ جَمِيعًا فَإنَّ مَطاعِنَهم لا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ كَما قالَ تَعالى: (﴿ولَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ آعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ﴾ [فصلت: ٤٤]) في سُورَةِ حَم السَّجْدَةِ.
(p-٥٣)وتَفْرِيعُ (﴿فَلا تُطِعِ الكافِرِينَ﴾) عَلى جُمْلَةِ (﴿ولَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا﴾) لِأنَّها تَتَضَمَّنُ أنَّهُ مُرْسَلٌ إلى المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ وهم يَطْلُبُونَ مِنهُ الكَفَّ عَنْ دَعْوَتِهِمْ وعَنْ تَنَقُّصِ أصْنامِهِمْ.
والنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّحْذِيرِ والتَّذْكِيرِ، وفِعْلُ (تُطِعْ) في سِياقِ النَّهْيِ يُفِيدُ عُمُومَ التَّحْذِيرِ مِن أدْنى طاعَةٍ.
والطّاعَةُ: عَمَلُ المَرْءِ بِما يُطْلَبُ مِنهُ، أيْ فَلا تَهِنْ في الدَّعْوَةِ رَعْيًا لِرَغْبَتِهِمْ أنْ تَلِينَ لَهم.
وبَعْدَ أنْ حَذَّرَهُ مِنَ الوَهَنِ في الدَّعْوَةِ أمَرَهُ بِالحِرْصِ والمُبالَغَةِ فِيها. وعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالجِهادِ وهو الِاسْمُ الجامِعُ لِمُنْتَهى الطّاقَةِ. وصِيغَةُ المُفاعَلَةِ فِيهِ لِيُفِيدَ مُقابَلَةَ مَجْهُودِهِمْ بِمَجْهُودِهِ فَلا يَهِنُ ولا يَضْعُفُ ولِذَلِكَ وُصِفَ بِالجِهادِ الكَبِيرِ، أيِ: الجامِعِ لِكُلِّ مُجاهَدَةٍ.
وضَمِيرُ (بِهِ) عائِدٌ إلى غَيْرِ مَذْكُورٍ: فَإمّا أنْ يَعُودَ إلى القُرْآنِ لِأنَّهُ مَفْهُومٌ مِن مَقامِ النِّذارَةِ، وإمّا أنْ يَعُودَ إلى المَفْهُومِ مِن (لا تُطِعْ) وهو الثَّباتُ عَلى دَعْوَتِهِ بِأنْ يَعْصِيَهم، فَإنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أمْرٌ بِضِدِّهِ كَما دَلَّ قَوْلُأبِي حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ:
؎فَقُلْنَ لَها سِرًّا فَدِيناكِ لا يَرُحْ صَحِيحًا وإنْ لَمْ تَقْتُلِيهِ فَألْمِمِ
فَقابَلَ قَوْلَهُ (لا يَرُحْ صَحِيحًا) بِقَوْلِهِ (وإنْ لَمْ تَقْتُلِيهِ فَألْمِمِ) كَأنَّهُ قالَ: فَدَيْناكِ فاقْتُلِيهِ.
والمَعْنى: قاوِمْهم بِصَبْرِكَ. وكِبَرُ الجِهادِ تَكْرِيرُهُ والعَزْمُ فِيهِ وشِدَّةُ ما يَلْقاهُ في ذَلِكَ مِنَ المَشَقَّةِ. وهَذا كَقَوْلِ النَّبِيءِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ - لِأصْحابِهِ عِنْدَ قُفُولِهِ مِن بَعْضِ غَزَواتِهِ: («رَجَعْنا مِنَ الجِهادِ الأصْغَرِ إلى الجِهادِ الأكْبَرِ. قالُوا: وما الجِهادُ الأكْبَرُ ؟ قالَ: مُجاهَدَةُ العَبْدِ هَواهُ» ) . رَواهُ البَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
{"ayahs_start":51,"ayahs":["وَلَوۡ شِئۡنَا لَبَعَثۡنَا فِی كُلِّ قَرۡیَةࣲ نَّذِیرࣰا","فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَجَـٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادࣰا كَبِیرࣰا"],"ayah":"وَلَوۡ شِئۡنَا لَبَعَثۡنَا فِی كُلِّ قَرۡیَةࣲ نَّذِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق