الباحث القرآني
﴿وهْوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباسًا والنَّوْمَ سُباتًا وجَعَلَ النَّهارَ نُشُورًا﴾ .
مُناسَبَةُ الِانْتِقالِ مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِاعْتِبارِ أحْوالِ الظِّلِّ والضَّحاءِ إلى الِاعْتِبارِ بِأحْوالِ اللَّيْلِ والنَّهارِ ظاهِرَةٌ، فاللَّيْلُ يُشْبِهُ الظِّلَّ في أنَّهُ ظُلْمَةٌ تَعْقُبُ نُورَ الشَّمْسِ.
ومَوْرِدُ الِاسْتِدْلالِ المَقْصِدُ المُسْتَفادُ مِن تَعْرِيفِ جُزْأيِ الجُمْلَةِ وهو قَصْرُ إفْرادٍ، أيْ لا يُشْرِكُهُ غَيْرُهُ في جَعْلِ اللَّيْلِ والنَّهارِ. أمّا كَوْنُ الجَعْلِ المَذْكُورِ بِخَلْقِ اللَّهِ فَهم يُقِرُّونَ بِهِ؛ ولَكِنَّهم لَمّا جَعَلُوا لَهُ شُرَكاءَ عَلى الإجْمالِ أُبْطِلَتْ شَرِكَتُهم بِقَصْرِ التَّصَرُّفِ في الأزْمانِ عَلى اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ إذا بَطُلَ تَصَرُّفُهم في بَعْضِ المَوْجُوداتِ اخْتَلَّتْ حَقِيقَةُ الإلَهِيَّةِ عَنْهم؛ إذِ الإلَهِيَّةُ لا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ.
و(لَكم) مُتَعَلِّقٌ بِـ (جَعَلَ) أيْ مِن جُمْلَةِ ما خُلِقَ لَهُ اللَّيْلُ أنَّهُ يَكُونُ لِباسًا لَكم. وهَذا لا يَقْتَضِي أنَّ اللَّيْلَ خُلِقَ لِذَلِكَ فَقَطْ ؟ لِأنَّ اللَّيْلَ عَوْدُ الظَّلَمَةِ إلى جانِبٍ مِنَ الكُرَةِ الأرْضِيَّةِ المُحْتَجِبِ عَنْ شُعاعِ الشَّمْسِ بِاسْتِداراتِهِ فَتَحْصُلُ مِن ذَلِكَ فَوائِدُ جَمَّةٌ مِنها ما في قَوْلِهِ تَعالى بَعْدَ هَذا (﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ والنَّهارَ خِلْفَةً لِمَن أرادَ أنْ يَذَّكَّرَ﴾ [الفرقان: ٦٢]) إلَخْ.
وقَدْ رَجَعَ أُسْلُوبُ الكَلامِ مِنَ المُتَكَلِّمِ إلى الغَيْبَةِ عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ.
و(لِباسًا) مُشَبَّهٌ بِهِ عَلى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ، أيْ ساتِرًا لَكم يَسْتُرُ بَعْضَكم (p-٤٥)عَنْ بَعْضٍ، وفي هَذا السَّتْرِ مِنَنٌ كَثِيرَةٌ لِقَضاءِ الحَوائِجِ الَّتِي يَجِبُ إخْفاؤُها.
وتَقْدِيمُ الِاعْتِبارِ بِحالَةِ سَتْرِ اللَّيْلِ عَلى الِاعْتِبارِ بِحالَةِ النَّوْمِ لِرَعْيِ مُناسِبَةِ اللَّيْلِ بِالظِّلِّ كَما تَقَدَّمَ، بِخِلافِ قَوْلِهِ: (﴿وخَلَقْناكم أزْواجًا وجَعَلْنا نَوْمَكم سُباتًا وجَعَلْنا اللَّيْل لِباسًا﴾ [النبإ: ٨]) في سُورَةِ النَّبَأِ، فَإنَّ نِعْمَةَ النَّوْمِ أهَمُّ مِن نِعْمَةِ السَّتْرِ، ولِأنَّ المُناسَبَةَ بَيْنَ نِعْمَةِ خَلْقِ الأزْواجِ وبَيْنَ النَّوْمِ أشَدُّ.
وقَدْ جَمَعَتِ الآيَةُ اسْتِدْلالًا وامْتِنانًا فَهي دَلِيلٌ عَلى عِظَمِ قُدْرَةِ الخالِقِ، وهي أيْضًا تَذْكِيرٌ بِنِعَمِهِ، فَإنَّ في اخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ آياتٍ جَمَّةً لِما يَدُلُّ عَلَيْهِ حُصُولُ الظُّلْمَةِ مِن دِقَّةِ نِظامِ دَوَرانِ الأرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ ومِن دِقَّةِ نِظامِ خَلْقِ الشَّمْسِ، ولِما يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ النَّهارِ مِن تَغَيُّرِ دَوَرانِ الأرْضِ ومِن فَوائِدِ نُورِ الشَّمْسِ، ثُمَّ ما في خِلالِ ذَلِكَ مِن نِظامِ النَّوْمِ المُناسِبِ لِلظُّلْمَةِ حِينَ تَرْتَخِي أعْصابُ النّاسِ فَيَحْصُلُ لَهم بِالنَّوْمِ تَجَدُّدُ نَشاطِهِمْ، ومِنَ الِاسْتِعانَةِ عَلى التَّسَتُّرِ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، ومِن نِظامِ النَّهارِ مِن تَجَدُّدِ النَّشاطِ وانْبِعاثِ النّاس لِلْعَمَلِ وسَآمَتِهِمْ مِنَ الدَّعَةِ، مَعَ ما هو مُلائِمٌ لِذَلِكَ مِنَ النُّورِ الَّذِي بِهِ إبْصارُ ما يَقْصِدُهُ العامِلُونَ.
والسُّباتُ لَهُ مَعانٍ مُتَعَدِّدَةٌ في اللُّغَةِ ناشِئَةٌ عَنِ التَّوَسُّعِ في مادَّةِ السَّبْتِ وهو القَطْعُ. وأنْسَبُ المَعانِي بِمَقامِ الِامْتِنانِ هو مَعْنى الرّاحَةِ وإنْ كانَ في كِلا المَعْنَيَيْنِ اعْتِبارٌ بِدَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعالى. وفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ السُّباتَ بِالنَّوْمِ عَلى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ ناظِرًا في ذَلِكَ إلى مُقابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ (﴿وجَعَلَ النَّهارَ نُشُورًا﴾) .
وإعادَةُ فِعْلِ (جَعَلَ) في قَوْلِهِ: (﴿وجَعَلَ النَّهارَ نُشُورًا﴾) دُونَ أنْ يُعادَ في قَوْلِهِ: (﴿والنَّوْمَ سُباتًا﴾) مُشْعِرَةٌ بِأنَّهُ تَنْبِيهٌ إلى أنَّهُ جَعْلٌ مُخالِفٌ لِجَعْلِ اللَّيْلِ لِباسًا. وذَلِكَ أنَّهُ أخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (نُشُورًا)، والنُّشُورُ: بَعْثُ الأمْواتِ، وهو إدْماجٌ لِلتَّذْكِيرِ بِالبَعْثِ وتَعْرِيضٌ بِالِاسْتِدْلالِ عَلى مَن أحالُوهُ، بِتَقْرِيبِهِ بِالهُبُوبِ في النَّهارِ. وفي هَذا المَعْنى قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ إذا أصْبَحَ: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أحْيانا بَعْدَ إذْ أماتَنا وإلَيْهِ النُّشُورُ» .
والنُّشُورُ: الحَياةُ بَعْدَ المَوْتِ، وتَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: (﴿بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٤٠]) . وهو هُنا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أنْ يَكُونَ مُرادًا بِهِ البُرُوزُ والِانْتِشارُ فَيَكُونُ ضِدَّ (p-٤٦)اللِّباسِ في قَوْلِهِ: (﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباسًا﴾) فَيَكُونُ الإخْبارُ بِهِ عَنِ النَّهارِ حَقِيقِيًّا، والمِنَّةُ في أنَّ النَّهارَ يَنْتَشِرُ فِيهِ النّاسُ لِحَوائِجِهِمْ واكْتِسابِهِمْ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُرادًا بِهِ بَعْثُ الأجْسادِ بَعْدَ مَوْتِها فَيَكُونُ الإخْبارُ عَلى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ.
{"ayah":"وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ لِبَاسࣰا وَٱلنَّوۡمَ سُبَاتࣰا وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُورࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق