الباحث القرآني

(p-٢١)﴿ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلّا جِئْناكَ بِالحَقِّ وأحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ . لَمّا اسْتَقْصى أكْثَرَ مَعاذِيرِهِمْ وتَعَلُّلاتِهِمْ وألْقَمَهم أحْجارَ الرَّدِّ إلى لَهَواتِهِمْ عَطَفَ عَلى ذَلِكَ فَذْلَكَةً جامِعَةً تَعُمُّ ما تَقَدَّمَ وما عَسى أنْ يَأْتُوا بِهِ مِنَ الشُّكُوكِ والتَّمْوِيهِ بِأنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَدْحُوضٌ بِالحُجَّةِ الواضِحَةِ الكاشِفَةِ لِتُرَّهاتِهِمْ. والمِثْلُ: المُشابِهُ. وفِعْلُ الإتْيانِ مَجازٌ في أقْوالِهِمْ والمُحاجَّةِ بِهِ، وتَنْكِيرُ (مَثَلٍ) في سِياقِ النَّفْيِ لِلتَّعْمِيمِ، أيْ بِكُلِّ مَثَلٍ. والمَقْصُودُ: مَثَلٌ مِن نَوْعِ ما تَقَدَّمَ مِن أمْثالِهِمُ المُتَقَدِّمَةِ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ: (﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا إلّا إفْكٌ افْتَراهُ وأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان: ٤])، (﴿وقالُوا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ [الفرقان: ٥]) بِقَرِينَةِ سَوْقِ هَذِهِ الجُمْلَةِ عَقِبَ اسْتِقْصاءِ شُبْهَتِهِمْ، (﴿وقالُوا مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ﴾ [الفرقان: ٧])، (﴿وقالَ الظّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الفرقان: ٨])، (﴿وقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنا المَلائِكَةُ﴾ [الفرقان: ٢١])، (﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢]) . ودَلَّ عَلى إرادَةِ هَذا المَعْنى مِن قَوْلِهِ: (بِمَثَلٍ) قَوْلُهُ آنِفًا: (﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ﴾ [الفرقان: ٩]) عَقِبَ قَوْلِهِ: (﴿وقالَ الظّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الفرقان: ٨]) . وتَعْدِيَةُ فِعْلِ (يَأْتُونَكَ) إلى ضَمِيرِ النَّبِيءِ ﷺ لِإفادَةِ أنَّ إتْيانَهم بالأمْثالِ يَقْصِدُونَ بِهِ أنْ يُفْحِمُوهُ. والإتْيانُ مُسْتَعْمَلٌ مَجازًا في الإظْهارِ. والمَعْنى: لا يَأْتُونَكَ بِشَبَهٍ يُشَبِّهُونَ بِهِ حالًا مِن أحْوالِكَ يَبْتَغُونَ إظْهارَ أنَّ حالَكَ لا يُشْبِهُ حالَ رَسُولٍ مِنَ اللَّهِ إلّا أبْطَلْنا تَشْبِيهَهم وأرَيْناهم أنَّ حالَةَ الرِّسالَةِ عَنِ اللَّهِ لا تُلازِمُ ما زَعَمُوهُ سَواءٌ كانَ ما أتَوْا بِهِ تَشْبِيهًا صَرِيحًا بِأحْوالِ غَيْرِ الرُّسُلِ كَقَوْلِهِمْ: (﴿أساطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَها﴾ [الفرقان: ٥]) وقَوْلِهِمْ: (﴿مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي في الأسْواقِ﴾ [الفرقان: ٧])، وقَوْلِهِمْ: (﴿إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الفرقان: ٨])، أمْ كانَ نَفْيُ مُشابَهَةِ حالِهِ بِأحْوالِ الرُّسُلِ في زَعْمِهِمْ، فَإنَّ نَفْيَ مُشابَهَةِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي إثْباتَ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِمْ: (﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنا المَلائِكَةُ أوْ نَرى رَبَّنا﴾ [الفرقان: ٢١]) وكَذَلِكَ قَوْلُهم: (﴿لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢]) إذا كانُوا قالُوهُ عَلى مَعْنى أنَّهُ مُخالِفٌ لِحالِ نُزُولِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ. فَهَذا نَفِيُ تَمْثِيلِ حالِ الرَّسُولِ ﷺ بِحالِ الرُّسُلِ الأسْبَقِينَ في زَعْمِهِمْ، ويَدْخُلُ في هَذا النَّوْعِ ما يَزْعُمُونَ أنَّهُ تَقْتَضِيهِ النُّبُوءَةُ مِنَ المَكانَةِ عِنْدَ اللَّهِ أنْ يَسْألَهُ، فَيُجابَ إلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ: (﴿لَوْلا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أوْ يُلْقى إلَيْهِ كَنْزٌ أوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنها﴾ [الفرقان: ٧]) . (p-٢٢)وصِيغَةُ المُضارِعِ في قَوْلِهِ: ولا يَأْتُونَكَ تَشْمَلُ ما عَسى أنْ يَأْتُوا بِهِ مِن هَذا النَّوْعِ كَقَوْلِهِمْ: (﴿أوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا﴾ [الإسراء: ٩٢]) . والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ (﴿إلّا جِئْناكَ بِالحَقِّ﴾) اسْتِثْناءٌ مِن أحْوالٍ عامَّةٍ يَقْتَضِيها عُمُومُ الأمْثالِ؛ لِأنَّ عُمُومَ الأشْخاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الأحْوالِ. وجُمْلَةُ (جِئْناكَ) حالِيَّةٌ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: (﴿كَبِيرًا وما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلّا إنَّهم لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ﴾ [الفرقان: ١٩]) . وقَوْلُهُ: (﴿جِئْناكَ بِالحَقِّ﴾) مُقابِلُ قَوْلِهِ: (﴿ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ﴾) وهو مَجِيءٌ مَجازِيٌّ. ومُقابَلَةُ (﴿جِئْناكَ بِالحَقِّ﴾) لِقَوْلِهِ: (﴿ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ﴾) إشارَةٌ إلى أنَّ ما يَأْتُونَ بِهِ باطِلٌ. مِثالُ ذَلِكَ أنَّ قَوْلَهم: (﴿مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي في الأسْواقِ﴾ [الفرقان: ٧])، أبْطَلَهُ قَوْلُهُ: (﴿وما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلّا إنَّهم لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ ويَمْشُونَ في الأسْواقِ﴾ [الفرقان: ٢٠]) . والتَّعْبِيرُ في جانِبِ ما يُؤَيِّدُهُ اللَّهُ مِنَ الحُجَّةِ بِـ (جِئْناكَ) دُونَ: أتَيْناكَ، كَما عُبِّرَ عَمّا يَجِيئُونَ بِهِ بِـ (يَأْتُونَكَ)، إمّا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ، وإمّا لِأنَّ فِعْلَ الإتْيانِ إذا اسْتُعْمِلَ مَجازًا كَثُرَ فِيما يَسُوءُ وما يُكْرَهُ، كالوَعِيدِ والهِجاءِ، قالَ شَقِيقُ بْنُ شَرِيكٍ الأسَدِيُّ: ؎أتانِي مِن أبِي أنَسٍ وعِـيدٌ فَسُلَّ لِغَيْظَةِ الضَّحّاكِ جِسْمِي وقَوْلُ النّابِغَةِ: ؎أتانِي أبَيْتَ اللَّعْنَ أنَّكَ لُمْتَنِي وقَوْلُهُ: ؎فَلَيَأْتِيَنْكَ قَصائِدٌ ولَيَدْفَعَنْ ∗∗∗ جَيْشًا إلَيْكَ قَوادِمُ الأكْوارِ يُرِيدُ قَصائِدَ الهِجاءِ. وقَوْلُ المَلائِكَةِ لِلُوطٍ: (﴿وأتَيْناكَ بِالحَقِّ﴾ [الحجر: ٦٤]) أيْ: عَذابُ قَوْمِهِ ولِذَلِكَ قالُوا لَهُ في المَجِيءِ الحَقِيقِيِّ: (﴿بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ [الحجر: ٦٣]) . وتَقَدَّمَ في سُورَةِ الحِجْرِ، وقالَ اللَّهُ تَعالى: (﴿أتاها أمْرُنا لَيْلًا أوْ نَهارًا﴾ [يونس: ٢٤]) (﴿أتى أمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: ١])، (﴿فَأتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ [الحشر: ٢]) . بِخِلافِ فِعْلِ المَجِيءِ إذا (p-٢٣)اسْتُعْمِلَ في مَجازِهِ، فَأكْثَرُ ما يُسْتَعْمَلُ في وُصُولِ الخَيْرِ والوَعْدِ والنَّصْرِ والشَّيْءِ العَظِيمِ، قالَ تَعالى: (﴿قَدْ جاءَكم بُرْهانٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ [النساء: ١٧٤])، (﴿وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢])، (﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ [النصر: ١])، وفي حَدِيثِ الإسْراءِ: . . مَرْحَبًا بِهِ ونِعْمَ المَجِيءُ جاءَ، (﴿وقُلْ جاءَ الحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ﴾ [الإسراء: ٨١])، وقَدْ يَكُونُ مُتَعَلِّقُ الفِعْلِ ذا وجْهَيْنِ بِاخْتِلافِ الِاعْتِبارِ فَيُطْلَقُ كِلا الفِعْلَيْنِ نَحْوَ (﴿حَتّى إذا جاءَ أمْرُنا وفارَ التَّنُّورُ﴾ [هود: ٤٠])، فَإنَّ الأمْرَ هَنا مَنظُورٌ فِيهِ إلى كَوْنِهِ تَأْيِيدًا نافِعًا لِنُوحٍ. والتَّفْسِيرُ: البَيانُ والكَشْفُ عَنِ المَعْنى، وقَدْ تَقَدَّمَ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ مُفَصَّلًا في المُقَدِّمَةِ الأُولى مِن مُقَدِّماتِ هَذا الكِتابِ، والمُرادُ هُنا كَشْفُ الحُجَّةِ والدَّلِيلِ. ومَعْنى كَوْنِهِ أحْسَنَ، أنَّهُ أحَقُّ في الِاسْتِدْلالِ، فالتَّفْضِيلُ لِلْمُبالَغَةِ؛ إذْ لَيْسَ في حُجَّتِهِمْ حُسْنٌ أوْ يُرادُ بِالحُسْنِ ما يَبْدُو مِن بَهْرَجَةِ سَفْسَطَتِهِمْ وشُبَهِهِمْ فَيَجِيءُ الكَشْفُ عَنِ الحَقِّ أحْسَنَ وقْعًا في نُفُوسِ السّامِعِينَ مِن مُغالَطاتِهِمْ، فَيَكُونُ التَّفْضِيلُ بِهَذا الوَجْهِ عَلى حَقِيقَتِهِ، فَهَذِهِ نُكْتَةٌ مِن دَقائِقِ الِاسْتِعْمالِ ودَقائِقِ التَّنْزِيلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب