الباحث القرآني

﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهم يُخْلَقُونَ ولا يَمْلِكُونَ لِأنْفُسِهِمْ ضَرًّا ولا نَفْعًا ولا يَمْلِكُونَ مَوْتًا ولا حَياةً ولا نُشُورًا﴾ . اسْتِطْرادٌ لِانْتِهازِ الفُرْصَةِ لِوَصْفِ ضَلالِ أهْلِ الشِّرْكِ وسَفالَةِ تَفْكِيرِهِمْ، فَهو عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الفرقان: ٢] وما تَلاها مِمّا هو اسْتِدْلالٌ عَلى انْفِرادِهِ تَعالى بِالإلَهِيَّةِ، وأُرْدِفَتْ بِقَوْلِهِ: (﴿وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الفرقان: ٢]) الشّامِلِ لِكَوْنِ ما اتَّخَذُوهُ مِنَ الآلِهَةِ مَخْلُوقاتٍ فَكانَ ما تَقَدَّمَ مُهَيِّئًا لِلتَّعْجِيبِ مِنَ اتِّخاذِ المُشْرِكِينَ آلِهَةً دُونَ ذَلِكَ الإلَهِ المَنعُوتِ بِصِفاتِ الكَمالِ والجَلالِ. فالخَبَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ الإفادَةُ بَلْ هو لِلتَّعْجِيبِ مِن حالِهِمْ كَيْفَ قابَلُوا نِعْمَةَ إنْزالِ الفُرْقانِ بِالجَحْدِ والطُّغْيانِ، وكَيْفَ أشْرَكُوا بِالَّذِي تِلْكَ صِفاتُهُ آلِهَةً أُخْرى صِفاتُهم عَلى الضِّدِّ مِن صِفاتِ مَن أشْرَكُوهم بِهِ، وإلّا فَإنَّ اتِّخاذَ المُشْرِكِينَ آلِهَةً أمْرٌ مَعْلُومٌ لَهم ولِلْمُؤْمِنِينَ فَلا يُقْصَدُ إفادَتُهم لِحُكْمِ الخَبَرِ. وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿ولَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا﴾ [الفرقان: ٢] وقَوْلِهِ ﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً﴾ مُحَسِّنُ الطِّباقِ. وضَمِيرُ (اتَّخَذُوا) عائِدٌ إلى المُشْرِكِينَ ولَمْ يَسْبِقْ لَهم ذِكْرٌ في الكَلامِ وإنَّما (p-٣٢٠)هم مَعْرُوفُونَ في مِثْلِ هَذا المَقامِ وخاصَّةً مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ﴾ [الفرقان: ٢] . وجُمْلَةُ (﴿لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا﴾) مُقابِلَةٌ جُمْلَةَ (﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الفرقان: ٢]) . وجُمْلَةُ (﴿وهم يُخْلَقُونَ﴾) مُقابِلَةٌ جُمْلَةَ (﴿ولَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا﴾ [الفرقان: ٢])؛ لِأنَّ ولَدَ الخالِقِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا مِنهُ فَلا يَكُونُ مَخْلُوقًا. وجُمْلَةُ ﴿ولا يَمْلِكُونَ لِأنْفُسِهِمْ ضَرًّا ولا نَفْعًا﴾ مُقابِلَةٌ جُمْلَةَ ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ﴾ [الفرقان: ٢]؛ لِأنَّ الشَّرِكَةَ في المُلْكِ تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ في التَّصَرُّفِ. وضَمِيرُ (لِأنْفُسِهِمْ) يَجُوزُ أنْ يَعُودَ إلى (آلِهَةً) أيْ لا تَقْدِرُ الأصْنامُ ونَحْوُها عَلى ضُرِّ أنْفُسِهِمْ ولا عَلى نَفْعِهِمْ. ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ (واتَّخَذُوا) أيْ لا تَقْدِرُ الأصْنامُ عَلى نَفْعِ الَّذِينَ عَبَدُوهم ولا عَلى ضُرِّهِمْ. واعْلَمْ أنَّ (ضُرًّا ولا نَفْعًا) هُنا جَرى مَجْرى المَثَلِ لِقَصْدِ الإحاطَةِ بِالأحْوالِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ بِحالٍ مِنَ الأحْوالِ. وهَذا نَظِيرُ أنْ يُقالَ: شَرْقًا وغَرْبًا، ولَيْلًا ونَهارًا. وبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ ما يُشْكَلُ في بادِئِ الرَّأْيِ مِن وجْهِ نَفْيِ قُدْرَتِهِمْ عَلى إضْرارِ أنْفُسِهِمْ بِأنَّهُ لا تَتَعَلَّقُ إرادَةُ أحَدٍ بِضُرِّ نَفْسِهِ، وبِذَلِكَ أيْضًا لا يُتَطَلَّبُ وجْهٌ لِتَقْدِيمِ الضُّرِّ عَلى النَّفْعِ؛ لِأنَّ المَقامَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ في تَقْدِيمِ أحَدِ الأمْرَيْنِ، فالمُتَكَلِّمُ مُخَيَّرٌ في ذَلِكَ، والمُخالِفَةُ بَيْنَ الآياتِ في تَقْدِيمِ أحَدِ الأمْرَيْنِ مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ. والمَجْرُورُ في (لِأنْفُسِهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (يَمْلِكُونَ) . والضُّرُّ - بِفَتْحِ الضّادِ - مَصْدَرُ ضَرَّهُ، إذا أصابَهُ بِمَكْرُوهٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا ولا نَفْعًا إلّا ما شاءَ اللَّهُ﴾ [يونس: ٤٩] في سُورَةِ يُونُسَ. وجُمْلَةُ ﴿ولا يَمْلِكُونَ مَوْتًا ولا حَياةً ولا نُشُورًا﴾ مُقابِلَةٌ جُمْلَةَ ﴿وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: ٢]؛ لِأنَّ أعْظَمَ مَظاهِرِ تَقْدِيرِ الخَلْقِ هو مَظْهَرُ الحَياةِ والمَوْتِ، وذَلِكَ مِنَ المُشاهَداتِ. وأمّا قَوْلُهُ: (﴿ولا نُشُورًا﴾) فَهو تَكْمِيلٌ لِقَرْعِ المُشْرِكِينَ نُفاةِ البَعْثِ؛ لِأنَّ نَفْيَ أنْ يَكُونَ الآلِهَةُ يَمْلِكُونَ نُشُورًا يَقْتَضِي إثْباتَ حَقِيقَةِ النُّشُورِ في نَفْسِ الأمْرِ؛ إذِ الأكْثَرُ في كَلامِ العَرَبِ أنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ (p-٣٢١)يَقْتَضِي تَحْقِيقَ ماهِيَّتِهِ. وأمّا نَحْوُ قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ: ؎عَلى لاحِبٍ لا يُهْتَدى بِمَنارِهِ يُرِيدُ لا مَنارَ فِيهِ. وقَوْلِ ابْنِ أحْمَرَ: ؎لا تُفْزِعُ الأرْنَبَ أهْوالُـهَـا ∗∗∗ ولا تَرى الضَّبَّ بِها يَنْجَحِرُ أرادَ: إنَّها لا أرْنَبَ فِيها ولا ضَبَّ. فَهو مِن قَبِيلِ التَّمْلِيحِ. ذُكِرَ في هَذِهِ الآيَةِ مِن أقْوالِهِمُ المُقابَلَةُ لِلْجُمَلِ المَوْصُوفِ بِها اللَّهُ تَعالى اهْتِمامًا بِإبْطالِ كُفْرِهِمُ المُتَعَلِّقِ بِصِفاتِ اللَّهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ أصْلُ الكُفْرِ ومادَّتُهُ. واعْلَمْ أنَّ مَعْنى (﴿وهم يُخْلَقُونَ﴾) وهم يُصْنَعُونَ، أيْ يَصْنَعُهُمُ الصّانِعُونَ؛ لِأنَّ أصْنامَهم كُلَّها حِجارَةٌ مَنحُوتَةٌ فَقَدْ قَوَّمَتْها الصَّنْعَةُ، فَأطْلَقَ الخَلْقَ عَلى التَّشْكِيلِ والنَّحْتِ مِن فِعْلِ النّاسِ، وإنْ كانَ الخَلْقُ شاعَ في الإيجادِ بَعْدَ العَدَمِ؛ إمّا اعْتِبارًا بِأصْلِ مادَّةِ الخَلْقِ وهو تَقْدِيرُ مِقْدارِ الجِلْدِ قَبْل فَرْيِهِ كَما قالَ زُهَيْرٌ: ؎ولَأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبَعْـ ∗∗∗ ضُ النّاسِ يَخْلُـقُ ثُـمَّ لا يَفْـرِي فَأطْلَقَ الخَلْقَ عَلى النَّحْتِ؛ إمّا عَلى سَبِيلِ المَجازِ المُرْسَلِ، وإمّا مُشاكَلَةً لِقَوْلِهِ: (﴿لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا﴾) . والمِلْكُ في قَوْلِهِ (لا يَمْلِكُونَ) مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى القُدْرَةِ والِاسْتِطاعَةِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: (﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إنْ أرادَ أنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: ١٧]) في سُورَةِ العُقُودِ، وقَوْلِهِ فِيها: (﴿قُلْ أتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكم ضَرًّا ولا نَفْعًا﴾ [المائدة: ٧٦])، أيْ: مَن لا يَقْدِرُ عَلى ضَرِّكم ولا نَفْعِكم. فَقَوْلُهُ هُنا (لِأنْفُسِهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (يَمْلِكُونَ)، واللّامُ فِيهِ لامُ التَّعْلِيلِ، أيْ لا يَمْلِكُونَ لِأجْلِ أنْفُسِهِمْ، أيْ: لِفائِدَتِها. ثُمَّ إنَّ المُرادَ بِـ (أنْفُسِهِمْ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الجَمْعُ فِيهِ بِاعْتِبارِ التَّوْزِيعِ عَلى الآحادِ المُفادَةِ بِضَمِيرِ (يَمْلِكُونَ) أيْ لا يَمْلِكُ كُلُّ واحِدٍ لِنَفْسِهِ ضُرًّا ولا نَفْعًا، ويَكُونُ المُرادُ بِالضُّرِّ دَفْعَهُ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ دَلَّ عَلَيْهِ المَقامُ؛ لِأنَّ (p-٣٢٢)الشَّخْصَ لا يَتَعَلَّقُ غَرَضُهُ بِضُرِّ نَفْسِهِ حَتّى يُقَرَّعَ بِأنَّهُ عاجِزٌ عَنْ ضُرِّ نَفْسِهِ. وتَنْكِيرُ (مَوْتًا - وحَياةً) في سِياقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ، أيْ مَوْتُ أحَدٍ مِنَ النّاسِ ولا حَياتُهُ. والنُّشُورُ: الإحْياءُ بَعْدَ المَوْتِ. وأصْلُهُ نَشْرُ الشَّيْءِ المَطْوِيِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب