الباحث القرآني

﴿ويَقُولُونَ آمَنّا بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ وأطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنهم مِن بَعْدِ ذَلِكَ وما أُولَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم إذا فَرِيقٌ مِنهم مُعْرِضُونَ﴾ ﴿وإنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ ﴿أفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أمِ ارْتابُوا أمْ يَخافُونَ أنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ورَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ (p-٢٦٨)عَطَفَ جُمْلَةَ (ويَقُولُونَ) عَلى جُمْلَةِ ﴿واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النور: ٤٦] لِما تَتَضَمَّنُهُ جُمْلَةُ (يَهْدِي مَن يَشاءُ) مِن هِدايَةِ بَعْضِ النّاسِ وحِرْمانِ بَعْضِهِمْ مِنَ الهِدايَةِ كَما هو مُقْتَضى (مَن يَشاءُ) . وهَذا تَخَلُّصٌ إلى ذِكْرِ بَعْضٍ مِمَّنْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ هِدايَتَهم وهُمُ الَّذِينَ أبَطَنُوا الكُفْرَ وأظْهَرُوا الإسْلامَ وهم أهْلُ النِّفاقِ. فَبَعْدَ أنْ ذُكِرَتْ دَلائِلُ انْفِرادِ اللَّهِ تَعالى بِالإلَهِيَّةِ وذُكِرَ الكُفّارُ الصُّرَحاءُ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِها في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهم كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ﴾ [النور: ٣٩] الآياتِ تَهَيَّأ المَقامُ لِذِكْرِ صِنْفٍ آخَرَ مِنَ الكافِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِآياتِ اللَّهِ وأظْهَرُوا أنَّهُمُ اهْتَدَوْا بِها. وضَمِيرُ الجَمْعِ عائِدٌ إلى مَعْرُوفِينَ عِنْدَ السّامِعِينَ وهُمُ المُنافِقُونَ؛ لِأنَّ ما ذُكِرَ بَعْدَهُ هو مِن أحْوالِهِمْ، وعَوْدُ الضَّمِيرِ إلى شَيْءٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ كَثِيرٌ في القُرْآنِ، عَلى أنَّهم قَدْ تَقَدَّمَ ما يُشِيرُ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ في قَوْلِهِ: ﴿رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ﴾ [النور: ٣٧] . وقَدْ أشارَتِ الآيَةُ إلى المُنافِقِينَ عامَّةً، ثُمَّ إلى فَرِيقٍ مِنهم أظْهَرُوا عَدَمَ الرِّضى بِحُكْمِ الرَّسُولِ ﷺ، فَكِلا الفَرِيقَيْنِ مَوْسُومٌ بِالنِّفاقِ، ولَكِنَّ أحَدَهُما اسْتَمَرَّ عَلى النِّفاقِ والمُوارَبَةِ، وفَرِيقًا لَمْ يَلْبَثُوا أنْ أظْهَرُوا الرُّجُوعَ إلى الكُفْرِ بِمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ عَلَنًا. فَفِي قَوْلِهِ: (ويَقُولُونَ) إيماءٌ إلى أنَّ حَظَّهم مِنَ الإيمانِ مُجَرَّدُ القَوْلِ دُونَ الِاعْتِقادِ كَما قالَ تَعالى: ﴿قالَتِ الأعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا ولَمّا يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤] . وعَبَّرَ بِالمُضارِعِ لِإفادَةِ تَجَدُّدِ ذَلِكَ مِنهم واسْتِمْرارِهِمْ عَلَيْهِ؛ لِما فِيهِ مِن تَكَرُّرِ الكَذِبِ ونَحْوِهِ مِن خِصالِ النِّفاقِ الَّتِي بَيَّنْتُها في سُورَةِ البَقَرَةِ. ومَفْعُولُ (أطَعْنا) مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، أيْ: أطَعْنا اللَّهَ والرَّسُولَ. والإشارَةُ في قَوْلِهِ: (وما أُولَئِكَ) إلى ضَمِيرِ (يَقُولُونَ)، أيْ يَقُولُونَ آمَنّا وهم كاذِبُونَ في قَوْلِهِمْ. وإنَّما يَظْهَرُ كُفْرُهم عِنْدَما تَحُلُّ بِهِمُ النَّوازِلُ (p-٢٦٩)والخُصُوماتُ فَلا يَطْمَئِنُّونَ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . ولا يَصِحُّ جَعْلُهُ إشارَةً إلى (فَرِيقٌ) مِن قَوْلِهِ: ﴿إذا فَرِيقٌ مِنهم مُعْرِضُونَ﴾؛ لِأنَّ إعْراضَهم كافٍ في الدَّلالَةِ عَلى عَدَمِ الإيمانِ. فالضَّمِيرُ في قَوْلِهِ (وإذا دُعُوا) عائِدٌ إلى مُعادِ ضَمِيرِ (يَقُولُونَ) . وإسْنادُ فِعْلِ (دُعُوا) إلى جَمِيعِهِمْ وإنْ كانَ المُعْرِضُونَ فَرِيقًا مِنهم لا جَمِيعَهم لِلْإشارَةِ إلى أنَّهم سَواءٌ في التَّهَيُّؤِ إلى الإعْراضِ، ولَكِنَّهم لا يُظْهِرُونَهُ إلّا عِنْدَما تَحُلُّ بِهِمُ النَّوازِلُ فالمُعْرِضُونَ هُمُ الَّذِينَ حَلَّتْ بِهِمُ الخُصُوماتُ. وقَدْ شَمِلَتِ الآيَةُ نَفَرًا مِنَ المُنافِقِينَ كانُوا حَلَّتْ بِهِمْ خُصُوماتٌ، فَأبَوْا حُكْمَ النَّبِيءِ ﷺ قَبْلَ أنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ أوْ بَعْدَما حَكَمَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُرْضِهِمْ حُكْمُهُ، فَرَوى المُفَسِّرُونَ «أنَّ بِشْرًا أحَدَ الأوْسِ أوِ الخَزْرَجِ تَخاصَمَ إلى النَّبِيءِ ﷺ مَعَ يَهُودِيٍّ فَلَمّا حَكَمَ النَّبِيءُ لِلْيَهُودِيِّ، لَمْ يَرْضَ بِشْرٌ بِحُكْمِهِ ودَعاهُ إلى الحُكْمِ عِنْدَ كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ اليَهُودِيِّ فَأبى اليَهُودِيُّ وتَساوَقا إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ فَقَصّا عَلَيْهِ القَضِيَّةَ، فَلَمّا عَلِمَ عُمَرُ أنَّ بِشْرًا لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ النَّبِيءِ قالَ لَهُما: مَكانَكُما حَتّى آتِيَكُما. ودَخَلَ بَيْتَهُ فَأخْرَجَ سَيْفَهُ وضَرَبَ بِشْرًا بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ. فَرُوِيَ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ لَقَّبَ عُمَرَ يَوْمَئِذٍ الفارُوقَ؛ لِأنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ»، أيْ فَرَّقَ بَيْنَهُما بِالمُشاهَدَةِ. وقِيلَ: «إنَّ أحَدَ المُنافِقِينَ اسْمُهُ المُغِيرَةُ بْنُ وائِلٍ مِنَ الأوْسِ مِن بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ الأوْسِيِّ تَخاصَمَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ في أرْضٍ اقْتَسَماها، ثُمَّ كَرِهَ أُمَيَّةُ القَسَمَ الَّذِي أخَذَهُ فَرامَ نَقْضَ القِسْمَةِ وأبى عَلِيٌّ نَقْضَها، ودَعاهُ إلى الحُكُومَةِ لَدى النَّبِيءِ ﷺ . فَقالَ المُغِيرَةُ: أمّا مُحَمَّدٌ فَلَسْتُ آتِيهِ؛ لِأنَّهُ يُبْغِضُنِي وأنا أخافُ أنْ يَحِيفَ عَلَيَّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. وتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ [النساء»: ٦٠] الآيَةُ في سُورَةِ النِّساءِ. ومِن سَماجَةِ الأخْبارِ ما نَقَلَهُ الطُّبَرِسِيُّ الشِّيعِيُّ في تَفْسِيرِهِ المُسَمّى مَجْمَعُ البَيانِ «عَنِ البَلْخِيِّ أنَّهُ كانَتْ بَيْنَ عَلِيٍّ وعُثْمانَ مُنازَعَةٌ في أرْضٍ اشْتَراها (p-٢٧٠)مِن عَلِيٍّ فَخَرَجَتْ فِيها أحْجارٌ وأرادَ رَدَّها بِالعَيْبِ، فَلَمْ يَأْخُذْها فَقالَ: بَيْنِي وبَيْنَكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقالَ لَهُ الحَكَمُ بْنُ أبِي العاصِ: إنْ حاكَمْتَهُ إلى ابْنِ عَمِّهِ يَحْكُمُ لَهُ فَلا تُحاكِمْهُ إلَيْهِ» . فَنَزَلَتِ الآياتُ. وهَذا لَمْ يَرْوِهِ أحَدٌ مِن ثِقاتِ المُفَسِّرِينَ ولا أشُكُّ في أنَّهُ مِمّا اعْتِيدَ إلْصاقُهُ بِبَنِي أُمَيَّةَ مِن تِلْقاءِ المُشَوِّهِينَ لِدَوْلَتِهِمْ تَطَلُّعًا لِلْفِتْنَةِ. والحَكَمُ بْنُ أبِي العاصِ أسْلَمَ يَوْمَ الفَتْحِ وسَكَنَ المَدِينَةَ، وهَلْ يُظَنُّ بِهِ أنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذِهِ المَقالَةِ بَيْنَ مُسْلِمِينَ. وإنَّما جَعَلَ الدُّعاءَ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ كِلَيْهِما مَعَ أنَّهم دُعُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ لِأنَّ حُكْمَ الرَّسُولِ حُكْمُ اللَّهِ؛ لِأنَّهُ لا يَحْكُمُ إلّا عَنْ وحْيٍ. ولِهَذا الِاعْتِبارِ أفْرَدَ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: (لِيَحْكُمَ) العائِدَ إلى أقْرَبِ مَذْكُورٍ ولَمْ يَقُلْ: لِيَحْكُما. وقَوْلُهُ: ﴿وإنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ﴾ أيْ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . ومَعْنى (﴿وإنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ﴾) أنَّهُ يَكُونُ في ظَنِّ صاحِبِ الحَقِّ ويَقِينِهِ أنَّهُ عَلى الحَقِّ. ومَفْهُومُهُ أنَّ مَن لَمْ يَكُنْ لَهُ الحَقُّ مِنهم وهو العالِمُ بِأنَّهُ مُبْطِلٌ لا يَأْتِي إذا دُعِيَ إلى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ، فَعُلِمَ مِنهُ أنَّ الفَرِيقَ المُعْرِضِينَ هُمُ المُبْطِلُونَ. وكَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ مَن هو عَلى الحَقِّ أنَّهُ لا يَأْبى مِنَ القَضاءِ العادِلِ، وشَأْنُ المُبْطِلِ أنْ يَأْبى العَدْلَ؛ لِأنَّ العَدْلَ لا يُلائِمُ حُبُّهُ الِاعْتِداءَ عَلى حُقُوقِ النّاسِ، فَسَبَبُ إعْراضِ المُعْرِضِينَ عِلْمُهم بِأنَّ في جانِبِهِمُ الباطِلُ وهم قَدْ تَحَقَّقُوا أنَّ الرَّسُولَ لا يَحْكُمُ إلّا بِصُراحِ الحَقِّ. وهَذا وجْهُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ (أفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إلى آخِرِها. ووَقَعَ حَرْفُ (إذا) المُفاجَأةِ في جَوابِ (إذا) الشَّرْطِيَّةِ لِإفادَةِ مُبادَرَتِهِمْ بِالإعْراضِ دُونَ تَرَيُّثٍ؛ لِأنَّهم قَدْ أيْقَنُوا مِن قَبْلُ بِعَدالَةِ الرَّسُولِ وأيْقَنُوا بِأنَّ الباطِلَ في جانِبِهِمْ فَلَمْ يَتَرَدَّدُوا في الإعْراضِ. والإذْعانُ: الِانْقِيادُ والطّاعَةُ. ولَمّا كانَ هَذا شَأْنًا عَجِيبًا اسْتُؤْنِفَ عَقِبَهُ بِالجُمْلَةِ ذاتِ الِاسْتِفْهاماتِ (p-٢٧١)المُسْتَعْمَلَةِ في التَّنْبِيهِ عَلى أخْلاقِهِمْ ولَفَتَ الأذْهانَ إلى ما انْطَوَوْا عَلَيْهِ والدّاعِي إلى ذَلِكَ أنَّها أحْوالٌ خَفِيَّةٌ؛ لِأنَّهم كانُوا يُظْهِرُونَ خِلافَها. وأتْبَعَ بَعْضَ الِاسْتِفْهاماتِ بَعْضًا بِحَرْفِ (أمْ) المُنْقَطِعَةِ الَّتِي هي هُنا لِلْإضْرابِ الِانْتِقالِيِّ كَشَأْنِها إذا عَطَفَتِ الجُمَلَ الِاسْتِفْهامِيَّةَ فَإنَّها إذا عَطَفَتِ الجُمَلَ لَمْ تَكُنْ لِطَلَبِ التَّعْيِينِ كَما هي في عَطْفِ المُفْرَداتِ؛ لِأنَّ المُتَعاطِفاتِ بِها حِينَئِذٍ لَيْسَتْ مِمّا يَطْلُبُ تَعْيِينَ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وأمّا مَعْنى الِاسْتِفْهامِ فَمُلازِمٌ لَها؛ لِأنَّهُ يُقَدَّرُ بَعْدَ (أمْ) . والِانْتِقالُ هُنا تَدَرُّجٌ في عَدِّ أخْلاقِهِمْ. فالمَعْنى أنَّهُ سَألَ سائِلٌ عَنِ اتِّصافِهِمْ بِخُلُقٍ مِن هَذِهِ المَذْكُوراتِ عَلِمَ المَسْئُولُ أنَّهم مُتَّصِفُونَ بِهِ، فَكانَ الِاسْتِفْهامُ المُكَرَّرُ ثَلاثَ مَرّاتٍ مُسْتَعْمَلًا في التَّنْبِيهِ مَجازًا مُرْسَلًا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَهم أرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أمْ لَهم أيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أمْ لَهم أعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أمْ لَهم آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها﴾ [الأعراف: ١٩٥] في سُورَةِ الأعْرافِ. والقُلُوبُ: العُقُولُ. والمَرَضُ مُسْتَعارٌ لِلْفَسادِ أوْ لِلْكُفْرِ قالَ تَعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: ١٠] أوْ لِلنِّفاقِ. وأُتِيَ في جانِبِ هَذا الِاسْتِفْهامُ بِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلالَةِ عَلى ثَباتِ المَرَضِ في قُلُوبِهِمْ وتَأصُّلِهِ فِيها بِحَيْثُ لَمْ يَدْخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِهِمْ. والِارْتِيابُ: الشَّكُّ. والمُرادُ: ارْتابُوا في حَقِيَّةِ الإسْلامِ، أيْ حَدَثَ لَهُمُ ارْتِيابٌ بَعْدَ أنْ آمَنُوا إيمانًا غَيْرَ راسِخٍ. وأُتِي في جانِبِهِ بِالجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ المُفِيدَةِ لِلْحُدُوثِ والتَّجَدُّدِ، أيْ حَدَثَ لَهُمُ ارْتِيابٌ بَعْدَ أنِ اعْتَقَدُوا الإيمانَ اعْتِقادًا مُزَلْزَلًا. وهَذا يُشِيرُ إلى أنَّهم فَرِيقانِ: فَرِيقٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ولَكِنَّهم أظْهَرُوا الإيمانَ وكَتَمُوا كَفْرَهم، وفَرِيقٌ آمَنُوا إيمانًا ضَعِيفًا ثُمَّ ظَهَرَ كُفْرُهم بِالإعْراضِ. والحَيْفُ: الظُّلْمُ والجَوْرُ في الحُكُومَةِ. وجِيءَ في جانِبِهِ بِالفِعْلَيْنِ المُضارِعَيْنِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ خَوَّفَ في الحالِ مِنَ الحَيْفِ في المُسْتَقْبَلِ كَما (p-٢٧٢)يَقْتَضِيهِ دُخُولُ (أنْ)، وهي حَرْفُ الِاسْتِقْبالِ، عَلى فِعْلِ (يَحِيفُ) . فَهم خافُوا مِن وُقُوعِ الحَيْفِ بَعْدَ نَشْرِ الخُصُومَةِ فَمِن ثَمَّةَ أعْرَضُوا عَنِ التَّحاكُمِ إلى الرَّسُولِ ﷺ . وأُسْنِدَ الحَيْفُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ بِمَعْنى أنْ يَكُونَ ما شَرَعَهُ الإسْلامُ حَيْفًا لا يُظْهِرُ الحُقُوقَ. وهَذا كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أنَّهُ غَيْرُ مُنَزَّلٍ مِنَ اللَّهِ، وأنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّسُولِ بِغَيْرِ ما أمَرَ اللَّهُ، فَهم يَطْعَنُونَ في الحُكْمِ وفي الحاكِمِ وما ذَلِكَ إلّا لِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِأنَّ شَرِيعَةَ الإسْلامِ مُنَزَّلَةٌ مِنَ اللَّهِ ولا يُؤْمِنُونَ بِأنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُرْسَلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ، فالكَلامُ كِنايَةٌ عَنْ إنْكارِهِمْ أنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ إلَهِيَّةً، وأنْ يَكُونَ الآتِي بِها صادِقًا فِيما أتى بِهِ. واعْلَمْ أنَّ المُنافِقِينَ اتُّصِفُوا بِهَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ وكُلُّها ناشِئَةٌ عَنْ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمُ الرَّسُولَ سَواءً في ذَلِكَ مِن حَلَّتْ بِهِ قَضِيَّةٌ ومَن لَمْ تَحُلَّ. وفِيما فَسَّرْنا بِهِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ ما يُثْلِجُ صَدْرَ النّاظِرِ ويَخْرُجُ بِهِ مِن سُكُوتِ السّاكِتِ وحَيْرَةِ الحائِرِ. و(بَلْ) لِلْإضْرابِ الِانْتِقالِيِّ مِنَ الِاسْتِفْهامِ التَّنْبِيهِيِّ إلى خَبَرٍ آخَرَ. ولَمْ يُؤْتَ في هَذا الإضْرابِ بِـ (أمْ)؛ لِأنَّ (أمْ) لا بُدَّ مَعَها مِن مَعْنى الِاسْتِفْهامِ، ولَيْسَ المُرادُ عَطْفَ كَوْنِهِمْ ظالِمِينَ عَلى الِاسْتِفْهامِ المُسْتَعْمَلِ في التَّنْبِيهِ بَلِ المُرادُ بِهِ إفادَةُ اتِّصافِهِمْ بِالظُّلْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأنَّهُ قَدِ اتَّضَحَ حالُهم فَلا داعِيَ لِإيرادِهِ بِصِيغَةِ اسْتِفْهامِ التَّنْبِيهِ. ولَيْسَتْ (بَلْ) هُنا لِلْإبْطالِ؛ لِأنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ إبْطالُ جَمِيعِ الأقْسامِ المُتَقَدِّمَةِ، فَإنَّ مِنها مَرَضُ قُلُوبِهِمْ وهو ثابِتٌ، ولا دَلِيلَ عَلى قَصْدِ إبْطالِ القِسْمِ الأخِيرِ خاصَّةً، ولا عَلى إبْطالِ القِسْمَيْنِ الآخَرَيْنِ. وجُمْلَةُ (﴿أُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾) مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا؛ لِأنَّ السّامِعَ بَعْدَ أنْ ظَنَّتْ بِأُذُنِهِ تِلْكَ الِاسْتِفْهاماتُ الثَّلاثَةُ ثُمَّ أُعْقِبَتْ بِحَرْفِ الإضْرابِ يَتَرَقَّبُ ماذا سَيُرْسِي عَلَيْهِ تَحْقِيقُ حالِهِمْ فَكانَ قَوْلُهُ: (﴿أُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾) بَيانًا لِما يَتَرَقَّبُهُ السّامِعُ. (p-٢٧٣)والمَعْنى: أنَّهم يَخافُونَ أنْ يَحِيفَ الرَّسُولُ عَلَيْهِمْ ويَظْلِمَهم. ولَيْسَ الرَّسُولُ بِالَّذِي يَظْلِمُ بَلْ هُمُ الظّالِمُونَ. فالقَصْرُ الحاصِلُ مِن تَعْرِيفِ الجُزْأيْنِ ومِن ضَمِيرِ الفَصْلِ حَصْرٌ مُؤَكِّدٌ، أيْ هُمُ الظّالِمُونَ لا شَرْعُ اللَّهِ ولا حُكْمُ رَسُولِهِ. وزادَ اسْمَ الإشارَةِ تَأْكِيدًا لِلْخَبَرِ فَحَصَلَ فِيهِ أرْبَعَةُ مُؤَكِّداتٍ: اثْنانِ مِن صِيغَةِ الحَصْرِ؛ إذْ لَيْسَ الحَصْرُ والتَّخْصِيصُ إلّا تَأْكِيدًا عَلى تَأْكِيدٍ، والثّالِثُ ضَمِيرُ الفَصْلِ، والرّابِعُ اسْمُ الإشارَةِ. واسْمُ الإشارَةِ المَوْضُوعُ لِلتَّمْيِيزِ اسْتُعْمِلَ هُنا مَجازًا لِتَحْقِيقِ اتِّصافِهِمْ بِالظُّلْمِ، فَهم يَقِيسُونَ النّاسَ عَلى حَسَبِ ما يَقِيسُونَ أنْفُسَهم، فَلَمّا كانُوا أهْلَ ظُلْمٍ ظَنُّوا بِمَن هو أهْلُ الإنْصافِ أنَّهُ ظالِمٌ كَما قالَ أبُو الطَّيِّبِ: ؎إذا ساءَ فِعْلُ المَرْءِ ساءَتْ ظُنُونُهُ وصَدَّقَ ما يَعْتادُهُ مِن تَوَهُّمِ ولا تَعَلُّقَ لِهَذِهِ الآيَةِ بِحُكْمِ مَن دُعِيَ إلى القاضِي لِلْخُصُومَةِ فامْتَنَعَ؛ لِأنَّ الذَّمَّ والتَّوْبِيخَ فِيها كانا عَلى امْتِناعٍ ناشِئٍ عَنْ كُفْرِهِمْ ونِفاقِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب