الباحث القرآني
﴿أوْ كَظُلُماتٍ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إذا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ومَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِن نُورٍ﴾
شَأْنُ (أوْ) إذا جاءَتْ في عَطْفِ التَّشْبِيهاتِ أنْ تَدُلَّ عَلى تَخْيِيرِ السّامِعِ أنْ يُشَبَّهَ بِما قَبْلَها وبِما بَعْدَها. وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ، أيْ مَعَ اتِّحادِ وجْهِ الشَّبَهِ. ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
؎يُضِيءُ سَناهُ أوْ مَصابِيحُ راهِبٍ
(p-٢٥٥)وقَوْلُ لَبِيَدٍ:
؎أفَتِلْكَ أمْ وحْشِيَّةٌ مَسْبُوعَةٌ ∗∗∗ خَذَلَتْ وهادِيَةُ الصِّوارِ قِوامُها
فَإذا كانَ الكَلامُ هُنا جارِيًا عَلى ذَلِكَ الشَّأْنِ كانَ المَعْنى تَمْثِيلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في أعْمالِهِمْ الَّتِي يَظُنُّونَ أنَّهم يَتَقَرَّبُونَ بِها إلى اللَّهِ بِحالِ ظُلُماتِ لَيْلٍ غَشِيَتْ ماخِرًا في بَحْرٍ شَدِيدِ المَوْجِ قَدْ اقْتَحَمَ ذَلِكَ البَحْرَ لِيَصِلَ إلى غايَةٍ مَطْلُوبَةٍ، فَحالُهم في أعْمالِهِمْ تُشْبِهُ حالَ سابِحٍ في ظُلُماتِ لَيْلٍ في بَحْرٍ عَمِيقٍ يَغْشاهُ مَوْجٌ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا لِشِدَّةِ تَعاقُبِهِ، وإنَّما يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ اشْتِدادِ الرِّياحِ حَتّى لا يَكادَ يَرى يَدَهُ الَّتِي هي أقْرَبُ شَيْءٍ إلَيْهِ وأوْضَحُهُ في رُؤْيَتِهِ فَكَيْفَ يَرْجُو النَّجاةَ.
وإنْ كانَ الكَلامُ جارِيًا عَلى التَّخْيِيرِ في التَّشْبِيهِ مَعَ اخْتِلافِ وجْهِ التَّشْبِيهِ كانَ المَعْنى تَمْثِيلَ حالِ الَّذِينَ كَفَرُوا في أعْمالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَها وهم غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، وحالِ مَن رَكِبَ البَحْرَ يَرْجُو بُلُوغَ غايَةٍ، فَإذا هو في ظُلُماتٍ لا يَهْتَدِي مَعَها طَرِيقًا، فَوَجْهُ الشَّبَهِ هو ما حَفَّ بِأعْمالِهِمْ مِن ضَلالِ الكُفْرِ الحائِلِ دُونَ حُصُولِ مُبْتَغاهم.
ويُرَجِّحُ هَذا الوَجْهَ تَذْيِيلُ التَّمْثِيلِ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِن نُورٍ﴾ .
وعَلى الوَجْهَيْنِ فَقَوْلُهُ: (كَظُلُماتٍ) عَطْفٌ عَلى (كَسَرابٍ) والتَّقْدِيرُ: والَّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهم كَظُلُماتٍ.
وهَذا التَّمْثِيلُ مِن قَبِيلِ تَشْبِيهِ حالَةٍ مَعْقُولَةٍ بِحالَةٍ مَحْسُوسَةٍ كَما يُقالُ: شاهَدْتُ سَوادَ الكُفْرِ في وجْهِ فُلانٍ.
والظُّلُماتُ: الظُّلْمَةُ الشَّدِيدَةُ. والجَمْعُ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِ الكَثْرَةِ وهو الشِّدَّةُ، فالجَمْعُ كِنايَةٌ؛ لِأنَّ شِدَّةَ الظُّلْمَةِ يَحْصُلُ مِن تَظاهُرِ عِدَّةِ ظُلُماتٍ. ألا تَرى أنَّ ظُلْمَةَ بَيْنَ العِشاءَيْنِ أشَدُّ مِن ظُلْمَةِ عَقِبِ الغُرُوبِ وظُلْمَةُ العِشاءِ أشَدُّ مِمّا قَبْلَها.
وقَدْ ذَكَرْنا فِيما مَضى أنَّ لَفْظَ ظُلْمَةٍ بِالإفْرادِ لَمْ يَرِدْ في القُرْآنِ، انْظُرْ أوَّلَ سُورَةِ الأنْعامِ. ومَعْنى كَوْنِها (في بَحْرٍ) أنَّها انْطَبَعَ سَوادُها عَلى ماءِ بَحْرٍ (p-٢٥٦)فَصارَ كَأنَّها في البَحْرِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ﴾ [البقرة: ١٩] . وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ إذْ جَعَلَ الظُّلُماتِ في الصَّيِّبِ.
واللُّجِّيُّ مَنسُوبٌ إلى اللُّجَّةِ، واللُّجُّ: هو مُعْظَمُ البَحْرِ، أيْ في بَحْرٍ عَمِيقٍ، فالنَّسَبُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّمَكُّنِ مِنَ الوَصْفِ كَقَوْلِ أبِي النَّجْمِ:
؎والدَّهْرُ بِالإنْسانِ دَوّارِيٌّ
أيْ دَوّارٌ، وكَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ مُشْرِكِيٌّ ورَجُلٌ غِلابِيٌّ، أيْ قَوِيُّ الشِّرْكِ وكَثِيرُ الغَلَبِ.
والمَوْجُ: اسْمُ جَمْعِ مَوْجَةٍ. والمَوْجَةُ: مِقْدارٌ يَتَصاعَدُ مِن ماءِ البَحْرِ أوِ النَّهْرِ عَنْ سَطْحِ مائِهِ بِسَبَبِ اضْطِرابٍ في سَطْحِهِ بِهُبُوبِ رِيحٍ مِن جانِبِهِ يَدْفَعُهُ إلى الشّاطِئِ. وأصْلُهُ مَصْدَرُ: ماجَ البَحْرُ، أيِ اضْطَرَبَ وسُمِّي بِهِ ما يَنْشَأُ عَنْهُ.
ومَعْنى (﴿مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾) أنَّ المَوْجَ لا يَتَكَسَّرُ حَتّى يَلْحَقَهُ مَوْجٌ آخَرُ مِن فَوْقِهِ وذَلِكَ أبْقى لِظُلْمَتِهِ.
والسَّحابُ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الرَّعْدِ. والسَّحابُ يَزِيدُ الظُّلْمَةَ إظْلامًا؛ لِأنَّهُ يَحْجِبُ ضَوْءَ النَّجْمِ والهِلالِ.
وقَوْلُهُ: ﴿ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ﴾ اسْتِئْنافٌ. والتَّقْدِيرُ: هي ظُلُماتٌ. والمُرادُ بِالظُّلُماتِ الَّتِي هُنا غَيْرُ المُرادِ بِقَوْلِهِ (أوْ كَظُلُماتٍ)؛ لِأنَّ الجَمْعَ هُنا جَمْعُ أنْواعٍ، وهُنالِكَ جَمْعُ أفْرادٍ مِن نَوْعٍ واحِدٍ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ (سَحابٌ ظُلُماتٌ) بِالتَّنْوِينِ فِيهِما.
وقَرَأ البَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ (مِن فَوْقِهِ سَحابُ ظُلُماتٍ) بِتَرْكِ بِالتَّنْوِينِ في (سَحابِ) وبِإضافَتِهِ إلى (ظُلُماتٍ) . وقَرَأهُ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِرَفْعِ (سَحابٌ) مُنَوَّنًا وبِجَرِّ (ظُلُماتٍ) عَلى البَدَلِ مِن قَوْلِهِ: (أوْ كَظُلُماتٍ) .
وقَوْلُهُ: (لَمْ يَكَدْ يَراها) هو مِن قَبِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] . وقَدْ تَقَدَّمَ وجْهُ هَذا الِاسْتِعْمالِ في سُورَةِ البَقَرَةِ وما فِيهِ مِن قِصَّةِ بَيْتِ ذِي الرُّمَّةِ.
(p-٢٥٧)وجُمْلَةُ ﴿ومَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِن نُورٍ﴾ تَذْيِيلٌ لِلتَّمْثِيلِ، أيْ هم باءُوا بِالخَيْبَةِ فِيما ابْتَغَوْا مِمّا عَمِلُوا وقَدْ حَفَّهُمُ الضَّلالُ الشَّدِيدُ فِيما عَمِلُوا حَتّى عَدِمُوا فائِدَتَهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ في قُلُوبِهِمُ الهُدى حِينَ لَمْ يُوَفِّقْهم إلى الإيمانِ، أيْ أنَّ اللَّهَ جَبَلَهم غَيْرَ قابِلِينَ لِلْهُدى فَلَمْ يَجْعَلْ لَهم قَبُولَهُ في قُلُوبِهِمْ فَلا يَحُلُّ بِها شَيْءٌ مِنَ الهُدى.
وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى مُتَصَرِّفٌ بِالإعْطاءِ والمَنعِ عَلى حَسَبِ إرادَتِهِ وحِكْمَتِهِ وما سَبَقَ مِن نِظامِ تَدْبِيرِهِ.
وهَذا التَّمْثِيلُ صالِحٌ لِاعْتِبارِ التَّفْرِيقِ في تَشْبِيهِ أجْزاءِ الهَيْئَةِ المُشَبَّهَةِ بِأجْزاءِ الهَيْئَةِ المُشَبَّهِ بِها؛ فالضَّلالاتُ تُشْبِهُ الظُّلُماتِ، والأعْمالُ الَّتِي اقْتَحَمَها الكافِرُ لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ بِها تُشْبِهُ البَحْرَ، وما يُخالِطُ أعْمالَهُ الحَسَنَةَ مِنَ الأعْمالِ الباطِلَةِ كالبَحَيرَةِ والسّائِبَةِ يُشْبِهُ المَوْجَ في تَخْلِيطِهِ العَمَلَ الحَسَنَ وتَخَلُّلِهِ فِيهِ وهو المَوْجُ الأوَّلُ. وما يَرِدُ عَلى ذَلِكَ مِن أعْمالِ الكُفْرِ كالذَّبْحِ لِلْأصْنامِ يُشْبِهُ المَوْجَ الغامِرَ الآتِي عَلى جَمِيعِ ذَلِكَ بِالتَّخَلُّلِ والإفْسادِ وهو المَوْجُ الثّانِي، وما يَحُفُّ اعْتِقادَهُ مِنَ الحَيْرَةِ في تَمْيِيزِ الحَسَنِ مِنَ العَبَثِ ومِنَ القَبِيحِ يُشْبِهُ السَّحابَ الَّذِي يَغْشى ما بَقِيَ في السَّماءِ مِن بَصِيصِ أنْوارِ النُّجُومِ، وتَطَلُّبُهُ الِانْتِفاعَ مِن عَمَلِهِ يُشْبِهُ إخْراجَ الماخِرِ يَدَهُ لِإصْلاحِ أمْرِ سَفِينَتِهِ أوْ تَناوُلِ ما يَحْتاجُهُ فَلا يَرى يَدَهُ بَلْهَ الشَّيْءَ الَّذِي يُرِيدُ تَناوُلَهُ.
{"ayah":"أَوۡ كَظُلُمَـٰتࣲ فِی بَحۡرࣲ لُّجِّیࣲّ یَغۡشَىٰهُ مَوۡجࣱ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجࣱ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابࣱۚ ظُلُمَـٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَاۤ أَخۡرَجَ یَدَهُۥ لَمۡ یَكَدۡ یَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ یَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورࣰا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق